01-يونيو-2023
قيس سعيّد

"كلما زادت التخوفات من فقدان السيطرة، كلما كان هناك سعي إلى زيادة العناصر التي تسمح بالتحكم في كل شيء"

مقال رأي 

 

لا يكاد قيس سعيّد يضيع مناسبة واحدة من المناسبات التي يتحدث فيها، لينعت خصومه ومنتقديه بكل النعوت السلبية الممكنة. في الحقيقة فإن الأمر ليس بجديد، لكنه اتخذ منذ الخامس والعشرين من جويلية/يوليو 2021، تاريخ استحواذ قيس سعيّد على كل السلطات، أبعادًا غير مسبوقة.

المعارضون في معجم قيس سعيّد جراثيم، لصوص، فاسدون، أشرار، جراد، متآمرون، قتلة، إرهابيون. وهم بذلك يحتاجون أن تستعمل ضدهم المبيدات، والصواريخ، وأن يقع تطهير البلاد منهم، وتخليص الشعب من شرورهم. هذا هو إجمالًا المعجم العام الذي يستمد قيس سعيّد منه مفرداته.

ينبغي أن نشير هنا، من ناحية التجربة التاريخية البحتة، إلى أن توتر المعجم ينبع في الغالب من عنصرين: حالة توتر الناطق به أولاً، وقد يكون الأمر متعلقًا باعتبارات نفسانية بحته، وأيضًا من نوع من العجز عن مواجهة ناجحة لخصومه، ما يستدعي منه التركيز على تشويههم للحد الأقصى في مخيال الجمهور.

توتر معجم الرئيس ينبع في الغالب من عنصرين: حالة توتر الناطق به أولاً، وأيضًا من نوع من العجز عن مواجهة ناجحة لخصومه، ما يستدعي التركيز على تشويههم للحد الأقصى

ترمي خطة التشويه بدورها إلى هدفين: تغطية الشعور بالوحدة والضعف، وطلب دعم الجمهور ضد الخصوم. كلما كانت الوضعية هشة، كلما تطلبت بدورها تعبئة أكبر للجمهور. هذه الهشاشة تكمن في العادة في ضعف المؤيدات التي تسمح بإقصاء الخصوم وإبادتهم، ما يتطلب تكثيف البروبغندا وتلخيصها في شعارات قصيرة وقادرة على الولوج لأفهام العامة بكل بساطة.

نحن بإزاء وضعية كلاسيكية جدًا، مرت بها شعوب عديدة ومارستها أنظمة كثيرة في السابق داخل تونس وخارجها. هذه ميزة نظام صنفه المؤرخون والمختصون في العلوم السياسية عادة كنظام استبدادي ضعيف الحجة، لكنه يستعيض عن ضعف الحجة ذاك باستفراده بأدوات الدولة الصلبة والتعويل عليها كليًا لتحقيق عملية إبادة خصومه.

يعتقد سعيّد على سبيل المثال أن كل انتقاد يصب بالضرورة في مصلحة خصومه بما أنه يضعف حجته ويدعي محاسبته على سياسات أو قرارات معينة

هناك في مثل هذه الأنظمة، وهذا فخ لا يمكن تلافي الوقوع فيه، نوع من التصاعد المستمر في السلوك العدواني ضد الخصوم. يمكن لأي ملاحظ أن يسأل: هل كل من ينتقد قيس سعيّد خصم له؟ بالمنطق البسيط، لا. لكن الأمور تتعلق هنا بمنطق مركب، وليس بسيطًا.

يعتقد قيس سعيّد على سبيل المثال أن كل انتقاد يصب بالضرورة في مصلحة خصومه بما أنه يضعف حجته ويدعي محاسبته على سياسات أو قرارات معينة. في مرحلة معينة، يصل رئيس منظومة مماثلة إلى القناعة بأنه الدولة، بل بأنه الوطن، وأنه لا يمكن أبدًا الفصل بين شخصه المادي وبين شخص الوطن المعنوي.

في مرحلة معيّنة، يصل رئيس منظومة استبدادية إلى القناعة بأنه الدولة، بل بأنه الوطن، وأنه لا يمكن أبدًا الفصل بين شخصه المادي وبين شخص الوطن المعنوي

يصبح الأمر شبيهًا بما يقع في كل شركة خاصة اسمية، لكنها هنا ذات مسؤولية محدودة. بمنطق السلوك التجاري، فإن قيس سعيّد ليس مجرد متصرف في دولة، إنه مالكها والمتصرف فيها، لكن حسب قوانين يضعها بنفسه تقتضي، أول ما تقتضي، أن يكون الخصوم مسؤولين عن أي أخطاء قد ترتكب في طريقة التصرف. المشكل أن الخصوم ليسوا في إدارة الشركة، ولا يملكون فيها أسهمًا. والأكثر من ذلك أنهم ربما كانوا أصلًا في السجن.

ينبغي الدخول إلى دماغ المستبد لفهم كيف تتم الأمور فعلاً، ولإدراك المنطق الذي يقوم عليه سلوكه، على الأقل في مثل هذه المسائل. هذا غير متاح بالمعنى الحرفي للأسف، لكن تشريح السلوك السياسي لمثل هذه النماذج يمكن أن يقدم الكثير من الأفكار.

من بين هذه الأفكار، نجد أنه كلما زادت تخوفات النموذج من فقدان السيطرة، كلما سعى إلى زيادة العناصر التي تسمح بالتحكم في كل شيء. هذه الرغبة في احتكار كل شيء مهما بدا تأثيره ثانويًا، لا تستجيب إذًا إلا لغريزة. مجرد غريزة. لكن الخوف من أقوى الغرائز في تحديد السلوك البشري، ليس داخل السياسة فقط، وإنما في كل مناحي حياة الأفراد والمجموعات.

بالنسبة لنموذج مماثل، إن عدم قدرة قرار معيّن على تحقيق النتيجة المطلوبة ليس سببه أن النتيجة غير ممكنة التحقيق بذلك القرار، بل بأن ذلك القرار غير كافي القوة، وأنه يجب الاستمرار في الطرق على نفس المسمار دائمًا حتى تحقيق النتيجة المرجوة. ما لا يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة. هذه هي الخلاصة المنطقية الوحيدة الممكنة بالنسبة لنماذج نفسية مماثلة. هذا ما يفسر في الحقيقة عدم قدرة النموذج المذكور على التداول والاستماع وتحمّل النقاش: إنه لا يريد أن يكتشف أنه على خطأ حتى لو كان الجميع يعرفون ذلك.

في هذا النموذج من الحكم، كلما زادت الصعوبات، كلما تبع ذلك تصاعد في تركيز السلطة واحتكار القرار. بهذا المعنى يتخذ التصلب شكل هروب إلى الأمام

يؤدي ذلك إلى نتيجة معلومة وكلاسيكية، وهي أنه كلما زادت الصعوبات، كلما تبع ذلك تصاعد في تركيز السلطة واحتكار القرار. بهذا المعنى يتخذ التصلب شكل هروب إلى الأمام، وهو الطريق الوحيد المتاح بالنسبة لنموذج نفسي معيّن يجد في الأصل صعوبة في تبين اتجاهات أخرى غير الوراء والأمام.

إن كل مراجعة لقرار ما تبدو بالنسبة له عودة إلى الوراء، أي هزيمة، أي وضعية كاشفة للضعف تسبق عادة الانهيار، وهذا غير ممكن أبدًا. إن الاستماع لآراء الآخرين حول أي موضوع هو بهذا المعنى نوع من الضعف، لأنه يحتمل أن لا تكون فكرة الرئيس عن الموضوع كاملة وقراره جاهزًا، وهذا ليس دليل كمال.

ليس مصادفة أن مثل هذه النماذج السلطوية تستند دائمًا، بلاغياً على الأقل، إلى نوع من الحق الإلهي، أو في مثالنا هنا إلى نوع من المهمة الرسالية. هذا أيضًا كلاسيكي متوقع.

ليس مصادفة أن النماذج السلطوية تستند دائمًا، بلاغياً على الأقل، إلى نوع من الحق الإلهي، أو في وضعية بلدنا إلى نوع من المهمة الرسالية

هناك دومًا حاجة لمثل هذا العنصر الغيبي لإقناع العامة بأن الرئيس جاء من أقصى المدينة يسعى، وأنه لا يدعو قومه إلا لاتباع المرسلين. لا مصلحة شخصية للرئيس إذًا، بل هو مجرد منفذ لتوجيهات إلهية في الأصل. في الأصل أيضًا، فإن الله لا يريد السوء لعباده أبدًا. هذا هو الاستدلال المنطقي الذي يجعل الرئيس غير قابل للمحاسبة سوى من الله والتاريخ. بل من الله فحسب، لأن الله، بطريقة أو بأخرى، هو التاريخ.

مع كل الاحترام الممكن للمقامات، لقد سار الحبيب بورقيبة أيضًا في هذا الطريق، حيث تكفي العودة لأدبياته وخاصة لمحاضراته في السبعينيات لإدراك تواتر الاستعارات الرسالية في خطابه السياسي.

هناك لوثة نفسية تصيب أولئك الذين يصلون للسلطة عبر مسار استثنائي، أي عبر كفاح طويل أو بمجرد الصدفة. ينظر هؤلاء في العادة حولهم ويقولون: لماذا أنا من بين كل هؤلاء؟ لا بد أن هناك سببًا، ولا بد أن الله قد اختارني من دون كل الآخرين لإنجاز مهمة ما.

هناك لوثة نفسية تصيب أولئك الذين يصلون للسلطة عبر مسار استثنائي، أي عبر كفاح طويل أو بمجرد الصدفة، كلما امتلأ هؤلاء بفكرة الاستثناء الإلهي، كلما ابتعدوا بصفة متناسبة عن التشاور وعن قبول النقد

كلما امتلأ هؤلاء بفكرة الاستثناء الإلهي، كلما ابتعدوا بصفة متناسبة عن التشاور، وعن الاستماع للمخالفين، وعن قبول النقد. ذلك أنه يصبح منطقيًا جدًا أن الله الذي استثنى فردًا مماثلاً، وأورثه الأرض من بعده يصنع فيها ما يشاء، هو القادر وحده على محاسبته. يكفي على سبيل المثال أن ننظر في دستور الرئيس لنفهم هذا الأمر بالدقة المطلوبة. إن المطالبة باحترام أسس الديمقراطية، وبالتداول الحر في الشأن العام، وبعدم تقييد المواطنين في حركتهم وتعبيرهم وتنظمهم، تصبح، من داخل الذهن المعني، مطالب خارجة عن الموضوع تمامًا.

لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الرئيس غير مسؤول، بل إنه فقط مسؤول عن رعية وليس عن مواطنين. إن استعارة الراعي استعارة بليغة، حيث تقف حاجيات المرعي بهم في حدود معقولة دائمًا: الماء والكلأ.

لا يتوقع راع مسؤول أن تطلب منه رعيته مشاركته في القرار على سبيل المثال، لأنه يفترض به أنه يسير بهدي إلهي غير قابل للشك، ولأن أي راع مسؤول لا يمكن أن يقود رعيته إلى الهلاك. يرعى الراعي رعيته ويمنع عنها الجوع والعطش والذئاب، وابن آوى ومالك الحزين والغربان التي تشوّش عليها رعيها.ذلك أن الرعي دون توتر مدر للحليب، كما أنه يجعل اللحم، بعد ذكر الله عليه، طريًا شهيًا.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"