09-يونيو-2023
جورجيا ميلوني وقيس سعيّد

يرى سعيّد في روما منفذًا لتخفيف الضغط الدولي وفك عزلته الخفيّة

 

عكست عبارات الإطراء المتبادل بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، خلال زيارتها لساعات لتونس يوم 6 جوان/يونيو 2023، وبالخصوص تصريحه تجاهها بأنها "امرأة تقول بصوت عالٍ ما يفكر فيه الآخرون في صمت" ودفاع ميلوني، من جانبها، عن مقاربة "براغماتية" تجاه تونس ودعمها لها بـ"نسبة 360 درجة"، التقارب الشديد بينهما منذ صعود المسؤولة الإيطالية لرئاسة الحكومة الخريف الفارط.

انتعشت أسهم اليمين الشعبوي صاحب الامتدادات الفاشية، طيلة السنوات الأخيرة في إيطاليا، بارتفاع موجات الهجرة غير النظامية بالتوازي مع تراجع المؤشرات المعيشية في الداخل

قادت ميلوني حزبها اليميني "فراتيلي ديتاليا" (إخوة إيطاليا) إلى تصدّر نتائج الانتخابات التشريعية في إيطاليا في سبتمبر/أيلول 2022 إثر حملة انتخابية شعارها "الله الوطن العائلة"، لتتولى، ضمن تحالف اليمين الشعبوي، رئاسة الحكومة، في سياق امتداد المد اليميني في المجال الأوروبي.

 

 

وانتعشت أسهم اليمين الشعبوي صاحب الامتدادات الفاشية، طيلة السنوات الأخيرة في إيطاليا، بارتفاع موجات الهجرة غير النظامية بالتوازي مع تراجع المؤشرات المعيشية في الداخل. فخلال حملتها الانتخابية، دعت ميلوني لإقامة "حصار بحري" لمنع المهاجرين من التدفق إلى بلادها. وهي بصعودها للسلطة، جعلت محاربة الهجرة العنوان المحدد لسياساتها تجاه دول جنوب المتوسط.

خلال زيارتها لتونس، تمحورت المحادثات مع سعيّد على نقطتين اثنتين: مواجهة ملف الهجرة ومفاوضات صندوق النقد الدولي، والواقع أن الموقف الإيطالي في النقطة الثانية وهو "لزوم مراعاة الصندوق للواقع الاجتماعي والاقتصادي في تونس" كما صرحت في قصر قرطاج، يتأسس على موقفها من النقطة الأولى باعتبار أن ارتدادات تردي الوضع الاقتصادي في تونس يعني تصاعد تدفقات الهجرة. يتأسس، بذلك، التقارب "المصلحي" بين ميلوني وسعيّد.

يتأسس التقارب "المصلحي" بين ميلوني وسعيّد على دفعها حصول تونس على قرض صندوق النقد بكل السبل تجنبًا لارتدادات تردي الوضع الداخلي التونسي على تدفقات الهجرة

في خضم ذلك، يقوم سعيّد بتأدية "المطلوب" إيطاليًا لمنع الهجرة، إذ يبيّن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديةوالاجتماعية أن تونس منعت خلال الأشهر الخمسة الأولى للعام الحالي أكثر من 23 ألف مهاجر غير نظامي من عبور المتوسط، وهو رقم أكبر بعشر مرّات دفعة واحدة من العدد المسجّل السنة الفارطة.

لا يعكس هذا المنع نجاحًا للأجهزة الأمنية بتونس بقدر ما يبيّن أداء تونس دور "حارس الحدود" كما يصف المنتدى. تتزايد الانتقادات، في هذا الجانب، لما يكشفه متابعون لملف الهجرة من قبول تونس أن يتم ترحيل مئات المهاجرين غير النظاميين أسبوعيًا، قسريًا من إيطاليا نحو تونس.

 

 

كما يتشارك سعيّد وميلوني أيضًا في دعم تنظيم مؤتمر دولي حول الهجرة يجمع دول شمال المتوسط بجنوبه. بل أن ميلوني أعلنت، من تونس، عن عقد مؤتمر بروما في القريب العاجل، دون تقديم تفاصيل بشأنه.

يقوم سعيّد بتأدية "المطلوب" إيطاليًا لمنع الهجرة، إذ يبيّن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديةوالاجتماعية أن تونس منعت خلال الأشهر الخمسة الأولى للعام الحالي أكثر من 23 ألف مهاجر غير نظامي من عبور المتوسط

وإن التقارب بشأن معالجة ملف الهجرة بين سعيّد وميلوني يتأسس أيضًا على الخلفية الشعبوية لكليهما، باعتبار أن اليمينية الشعبوية تتميّز بخطابها "العدائي" تجاه المهاجرين.

تعدّ تصريحات سعيّد بشأن المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في فيفري/شباط 2023 وحديثه بالخصوص عن "مخطط استيطاني" وسعي لتغيير التركيبة الديمغرافية، وما تبعه من موجة اعتداءات ضد مهاجرين وأزمة ديبلوماسية مع الاتحاد الإفريقي، المثال عن مقاربة الرئيس التونسي للمهاجر الأجنبي القادم من جنوب الصحراء. ميلوني اليمينية المتطرفة تتبنى بدورها ذات المقاربة تجاه المهاجر القادم من جنوب المتوسط.

في خضم ذلك، تعدّ حكومة ميلوني المدافع الرئيسي، في مشهد الفاعلين الأوروبيين والدوليين إجمالًا، على تيسير منح صندوق النقد للقرض المنتظر إلى الحكومة التونسية.

فخلال قمة مجموعة السبع في اليابان في شهر ماي/أيار الفارط، دعت ميلوني صندوق النقد الدولي إلى تبني نهج "عملي" لصرف القرض "دون شروط مسبقة". وهو الموقف الذي تعارضه عواصم أوروبية وواشنطن مع استمرار واقع اختلاف وجهات النظر بين تونس والصندوق بشأن طبيعة حزمة الإصلاحات/الإملاءات. بيد أن قمة مجموعة السبع لم تتبن الموقف الإيطالي، كما دعت الحكومة التونسية إلى "الاستجابة لتطلعات الشعب التونسي إلى الديمقراطية".

التقارب بشأن معالجة ملف الهجرة بين سعيّد وميلوني يتأسس أيضًا على الخلفية الشعبوية لكليهما، باعتبار أن اليمينية الشعبوية تتميّز بخطابها "العدائي" تجاه المهاجرين

في هذا الموضع، وما عزّز التقارب بين تونس وروما، هو غياب الحيثية السياسية المتعلق بالرهان الديمقراطي والحقوقي في الخطاب الرسمي الإيطالي، على خلاف بقية العواصم الفاعلة. إذ لم تشر ميلوني، خلال زيارتها إلى تونس، من قريب أو بعيد للنكوص الديمقراطي الذي تشهده تونس وتراجع مؤشرات أوضاع حقوق الإنسان.

 

 

وهو موقف يتمايز عن الحكومة الإيطالية السابقة التي ترأسها ماريو دراغي الذي تحدث، في أوت/أغسطس 2021، عن "الحاجة إلى استعادة سريعة للنظام الدستوري في تونس". بل وتكثف الموقف الإيطالي، في هذا الجانب، بدعوة وزارة الخارجية في روما، نهاية ديسمبر/كانون الأول 2021، السلطات التونسية إلى "إعادة إرساء سيادة القانون والعودة إلى الديمقراطية بشكل كامل من خلال حوار شامل مع جميع المكونات السياسية والاجتماعية في البلاد".

مع صعود ميلوني في الخريف الفارط، غاب التحفظ على المسألة الديمقراطية في الخطاب الإيطالي أمام أولوية التقارب مع سلطة سعيّد لتحقيق مكاسب في ملف الهجرة.

مع صعود ميلوني في الخريف الفارط، غاب التحفظ على المسألة الديمقراطية في الخطاب الإيطالي أمام أولوية التقارب مع سلطة سعيّد لتحقيق مكاسب في ملف الهجرة

يعكس بذلك التقارب الراهن بين إيطاليا وتونس المصالح المتبادلة بين البلدين، إذ تتبنى ميلوني أولوية إيقاف تدفق الهجرة دون أي اعتبار للمسألة الديمقراطية بما يجعلها تدفع نحو تسريع الاتفاق مع صندوق النقد من جهة ودفع التمويل الأوروبي من جهة أخرى.

وهي تقدّر أن سعيّد، الذي يواجه ضغطًا على ضوء تأسيسه لنظام سلطوي، يعدّ فرصة بالنسبة لروما لتحقيق اتفاقات مفيدة بشأن الهجرة. وسعيّد من جهته، يرى في روما منفذًا لتخفيف الضغط الدولي وفك عزلته الخفيّة. والمشترك بينهما هي شعبوية من أحد عناوينها هشاشة المسألة الديمقراطية في خطابها وممارساتها.