مقال رأي
تعددت في الأسابيع الماضية الندوات والورشات واللقاءات حول الصحافة في تونس، انتظم بعضها في إطار فعاليات وأنشطة تنظمها هيئات وطنية ومنظمات دولية. ومن المسائل التي طرحت في هذه "الاحتفاليات" المتعددة مسألة "صحافة الجودة" وخصائصها وأشكالها ومضامينها.
والمتمعن في هذه النقاشات يرى أن المقاربات السائدة تتناول مسألة الجودة في الصحافة وقضايا الصحافة بشكل عام وبشكل جزئي "تقنوي" وكأنها منفصلة عن بعضها البعض، أو كأن الصحافة يمكن أن تمارس خارج بيئة مؤسسية وتكنولوجية ومجتمعية مواتية، أو كأن الصحافة أيضًا مهنة حرة يمارسها الصحفي متحرّرًا من السياقات المؤسسية المركبة.
ثمة شعور متنام بالحاجة إلى الاعتراف بالأزمة والإقرار بأن ما يسمى الانتقال الديمقراطي لم يفضِ إلى بناء "إعلام عمومي" قوي بل إنه أفضى إلى "إعلام عمومي" معطل
وفي موضوع صحافة الجودة بالذات يبدو الأمر وكأن الجودة مرتبطة بكفاءة الصحفي التقنية (المصادر ومنهجية البحث عن المعلومات ومعالجتها والقدرة على التحرير والسرد) أو ببعض الشروط الخاصة التي يجب أن توفرها المؤسّسة التي يعمل بها.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى عدّة قضايا أخرى التي تطرح دون إدراك بأنها متصلة اتصالًا شديدًا بعضها ببعض وبأن معالجتها لا يمكن أن تكون دون الأخذ في الاعتبار الأزمة الهيكلية والشاملة التي يعيشها القطاع. هكذا ينجرّ عن الطرح المجزأ للقضايا التغطية على المشكلات العاجلة المتصلة بهذه الأزمة وحجب المشكلات الملحة والمفزعة.
ففي السياق الحالي فإن بعض المؤسسات العمومية والخاصة لا تتوفر فيها أحيانًا شروطُ ممارسة الصحافة، أو على الأقل، أنواعٌ بعينها من المضامين، فما بالك بصحافة الجودة.
ويمكن أن نذكر هنا أن الشبكة البرامجية للتلفزة الوطنية العمومية لا يتوفر فيها برنامج واحد للريبورتاجات والتحقيقات منذ سنوات، كما هو الحال في كل التلفزيونات العمومية. ويظل هذا النقص أو "العجز" لغزًا محيّرًا، كان أحرى بالورشات والندوات والملتقيات أن تتناوله بالطرح قبل التباحث النظري في صحافة الجودة.
- الاعتراف بالأزمة الذي لا مفر منه
إن صحافة الجودة بشكل خاص والميديا الجيدة (بمعنى médias de qualité) لن تنزل إذن من السماء ولن تتمخض من وصفات الخبراء أو من نقاشات الملتقيات والندوات، لكن من عملية الإصلاح العميق للنسيج المؤسسي للميديا التونسية برمتها.
فصحافة الجودة تنتجها مؤسسات جيدة ذات إدارة فعالة وتنظيم جيد تدمج التكنولوجيات الرقمية وتمتلك موارد بشرية متعددة الاختصاصات والكفاءات وتوفّر للصحفي كل الشروط التي تتيح له أن ينتج الصحافة بمعايير الجودة. وهذه المؤسسات لن تنزل بدورها من السماء بل تحتاج إلى سياسات عمومية تنفذها الدولة لتأهيلها تأهيلًا شاملًا وضمان ديمومتها.
السياسات العمومية تقتضي أن يكون "الإعلام العمومي" مستقلًا عن كل المصالح السياسية وعن مطامح الأحزاب وأهواء السياسيين
وهذه السياسات العمومية تفترض أن النخب السياسية مؤمنة بأن الميديا ("الإعلام العمومي" على وجه الخصوص) يجب أن يتكون من مؤسسات فعالة وعصرية في خدمة حق التونسيين في معرفة موضوعية ونزيهة عن الاقتصاد والسياسة والإدارة وعن العوالم التي يعيشون فيها وعن طرق تسيير دواليب الدولة.
كما أن هذه السياسات العمومية تقتضي كذلك أن يكون هذا "الإعلام العمومي" مستقلًا عن كل المصالح السياسية وعن مطامح الأحزاب وأهواء السياسيين.
ثمة إذن شعور متنام بالحاجة إلى الاعتراف بالأزمة والإقرار بوجودها بكل شجاعة أولًا دون مواربة. وكذلك الإقرار بأن ما يسمّى الانتقال السياسي أو الديمقراطي لم يفضِ إلى بناء "إعلام عمومي" قوي بل إنه أفضى، على العكس من ذلك، إلى "إعلام عمومي" معطّل، مؤسساته عاجزة عن العمل بشكل طبيعي، على غرار التلفزة الوطنية. فالأمر لا يحتاج إلى فطنة وكفاءة فكرية وتحليلية فذة للإقرار بأن هذه المؤسسة بالذات لا تعمل بالشكل الأدنى المطلوب، منذ سنوات، كأن تكون لها شبكة برامجية متكاملة، حتى لا تتحول إلى تلفزيون أرشيف.
في هذا السياق خاض الصحفيون والصحفيات في "الإعلام العمومي" إضرابًا عامًا. ومن دواعي هذا الإضراب حسب ما جاء في بيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين "تملّص سلطة الإشراف من أدوارها الحقيقية تجاه المرفق العمومي تمويلًا وحوكمة وإحاطة مما جعله يدخل منعرجًا خطيرًا من التهميش والإهمال والتفقير وسوء الحوكمة والشفافية والتوجيه السياسي مما من شأنه أن يهدد مؤسسات كاملة بالإفلاس والإغلاق وإحالة العاملين فيها على البطالة القسرية".
هكذا لا يمكن أن نجد توصيفًا أكثر واقعية وأمانة لحالة "الإعلام العمومي"، مما يحيلنا وبشكل صريح على ما نسميه هنا فشل الانتقال الإعلامي والمقاربات التي قام عليها بعد سقوط النظام السابق عام 2011.
- فشل مسار التأسيس الأول
لقد قام الانتقال السياسي في 2011 على ضرورة تجسيد "الانتقال الديمقراطي في مجال الميديا" أو ما يسمىla transition médiatique . أي بتعبير آخر على تفكيك المنظومة القانونية والمؤسسية القديمة التي أرساها النظام السابق: مجلة الصحافة على وجه الخصوص وحلّ وزارة الاتصال والمجلس الأعلى للاتصال. ثم تم وضع المرسوم 115 (الخاص بحرية الصحافة والطباعة والنشر) والمرسوم 116 (الذي يتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وينظم ممارستها ويحدث هيئة تعديلية مستقلة للاتصال).
لقد قام الانتقال السياسي في 2011 على ضرورة تجسيد "الانتقال الديمقراطي في مجال الميديا"، أي بتعبير آخر على تفكيك المنظومة القانونية والمؤسسية القديمة التي أرساها النظام السابق
وعلى هذا النحو كان هذا التأسيس الجديد، وبعد تفكيك "المنظومة الإعلامية القديمة"، يكاد يكون تأسيسًا قانونيًا محضًا، باستثناء إنشاء الهيئة التعديلية "الهايكا". أي أن هذا "التأسيس" الجديد أبقى على النسيج المؤسسي القديم برمته.
ويعكس هذا التمشي قصورًا جليًا في مقاربة الانتقال الديمقراطي في مجال الميديا، قد يكون من أسبابه العديدة سيطرة المقاربة القانونية، ولكن أيضًا المقاربة المنفعيّة التي تعاملت بها النخب السياسية الجديدة مع الصحافة وقطاع الميديا برمّته أي بكل مؤسساته.
ولأن البيئة العامة التي تشتغل فيها مؤسسات الميديا بكل أصنافها لم تشهد سوى تحولات جزئية فإنها لم تكن مواتية لتأسيس "النظام الإعلامي الجديد".
وبتعبير آخر أصبحت هذه البيئة العامة تتشكّل من القديم والجديد في الوقت ذاته: قوانين جديدة من جهة أولى ومؤسسات قديمة، وآليات قديمة أيضًا (مثلًا في مستوى توزيع الإشهار وقيس الجمهور). فأصبح القديم يعطّل الجديد أو يتمازج معه ليتمخض عن هذا المزيج بيئة هجينة تتشكل فيها صحافة وميديا فقدت طابعها السلطوي لكنها لم تتحول إلى صحافة الجودة أو إلى ميديا ذات معايير ديمقراطية كما بشر بها المرسومان 115 و116، على غرار معيار الشفافية مثلًا، وهو من المعايير الأساسية في التقييم الديمقراطي لنظام الميديا أو معيار استقلالية المرفق العمومي (وخاصة التلفزيون العمومي) عن السلطة السياسية والأحزاب.
الصحافة في القطاعين العمومي والخاص تواجه مشكلات عديدة قد تشكل معضلة حقيقية، فالإصلاح الشامل ضروري حتى تستعيد الصحافة أدوارها لكن إمكاناته العملية في الوضع الحالي تبدو محدودة جدًا
- الامتحان، المعضلة المأزق
يبدو هكذا بشكل جليّ أن قطاع الصحافة والميديا أمام امتحان عسير. فالإصلاح الشامل وخاصة المؤسسي ضروري ومستعجل للقطاع حتى يتمكن من أداء الوظائف التي يجب أن يؤديها. في المقابل، لا يبدو أن السلطة السياسية مدركة لهذا الطابع المتأكد والمستعجل للإصلاح. حتى أن الحكومة تغيبت عن جلسة التفاوض في تفقدية الشغل، مما يؤكد أن إصلاح "الإعلام العمومي" لا يمثل أولوية من أولويات الحكومة الحالية أو مشغلًا من مشاغل رئاسة الجمهورية أو مطلبًا من مطالب الأحزاب السياسية التي تبكي مصير "الانتقال الديمقراطي".
إن عداء النخب السياسية كلها لمطلب الإصلاح يمثل بعدًا من أبعاد المأزق الذي يواجهه الصحفيون والذي يمنعهم اليوم من أداء مهنتهم بشكل طبيعي.
ومن المؤشرات الأخرى التي تعزز فكرة المأزق الذي يعيشه القطاع هو نظرة التونسيين للصحافة والميديا. فالواضح من ردود الفعل عن إضراب "الإعلام العمومي" أن فئات من الرأي العام تنظر إلى الصحافة بشكل سلبي وتعتبرها منحازة لهذا الطرف السياسي أو ذاك، "فاقدة" للأخلاقيات المهنية أو "غير وطنية" تريد أن تعيد إلى المشهد السياسي أحزاب ما قبل 25 جويلية، حتى أننا نعثر أحيانًا على تعليقات من النخب الفكرية تستهزئ بإضراب "الإعلام العمومي" وتعتبر أن لا فائدة ترجى من قطاع "لا أمل فيه يعمل لصالح قوى ما قبل 25 جويلية".
إصلاح المؤسسات العمومية أصبح أمرًا لا بدّ منه إذا كانت المهنة تريد أن تحافظ على الشروط الدنيا الضرورية لمصداقيتها المجتمعية. إن هذه المعضلة قد تصبح مأزقًا حقيقيًا بالنسبة للقطاع الذي هو بلا شك جزء من مأزق الانتقال السياسي الكبير
وخلاصة القول إن مهنة الصحافة في القطاعين العمومي والخاص تواجه مشكلات عديدة قد تشكل معضلة حقيقية: فالإصلاح الشامل ضروري حتى تستعيد الصحافة أدوارها. لكن إمكاناته العملية في الوضع الحالي تبدو محدودة جدًا. فالنخب السياسية والحكومة لا تبدو مدركة لضرورة الإصلاح بل هي غير راغبة فيه ولا معرفة لها بآلياته.
أما الرأي العام فهو في معظمه معاد لصحافة الحقيقة ولنموذج الميديا المستقلة المتعالية عن الانقسامات السياسية والإيديولوجية والمتحررة من الارتباطات الحزبية. وهذا الرأي العام المعادي لصحافة الحقيقة والناقم على الصحافة المستقلة والحاقد على الصحافة "غير الملتزمة بالقضايا الوطنية"، عمل الفاعلون السياسيون على تشكيله وتغذيته بواسطة استراتيجيات تقسيم التونسيين وبتعاون مؤسسات الميديا نفسها التي تُوظف أحيانًا في إطار شراكات متعددة المظاهر بين أصحاب المؤسسات والأحزاب السياسية والفاعلين السياسيين بشكل عام.
في المقابل فإن إصلاح المؤسسات العمومية (بعضها مهدد بالإفلاس) أصبح أمرًا لا بد منه إذا كانت المهنة تريد أن تحافظ على الشروط الدنيا الضرورية لمصداقيتها المجتمعية. إن هذه المعضلة قد تصبح مأزقًا حقيقيًا بالنسبة للقطاع الذي هو بلا شك جزء من مأزق الانتقال السياسي.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"