31-أغسطس-2017

تلجأ عديد المؤسسات الإعلامية التونسية إلى طرد الصحفيين تعسفيًا (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

بقدر ما استفادت وسائل الإعلام التونسية من تحرير المجال العام بعد الثورة ليتضاعف عددها بمختلف أصنافها، بقدر ما تعاني غالبيتها اليوم من صعوبات مالية ما جعل العديد منها تنهي مسارها وتسرّح الصحفيين بطريقة تعسّفية. ولعلّ آخر الشواهد على هذه الأزمة، هو إغلاق إذاعة "صراحة" في ظلّ غموض حول مصير عديد الصحفيين في قناة "التاسعة" التي يلاحقها شبح الإغلاق، رغم أنها كانت تحتّل قبل أشهر مراتب متقدمة في ترتيب نسب مشاهدة القنوات التونسية، وهو ما يكشف مدى هشاشة المجال الإعلامي التونسي.  

استفادت وسائل الإعلام التونسية الخاصة من تحرير المجال العام بعد الثورة إلا أن غالبيتها اليوم تعاني صعوبات مالية تؤذن بإيقاف مسارها

اقرأ/ي أيضًا: الإعلام التونسي في 2017.. مكاسب في خطر

القنوات التلفزية الخاصة.. شبح الإغلاق

تطوّر عدد القنوات التلفزية بما لا يقلّ عن أربعة أضعاف عمّا كانت عليه قبل الثورة في تونس، حيث بلغ عددها حاليًا 15 قناة على الأقل. غير أن هذا المشهد التعدّدي لا يخفي حجم الصعوبات المالية التي تواجه الإعلام التلفزي في تونس وهو ما حدا بعديد القنوات للتوقف عن البث آخرها قناة "تي أن أن" والتي كانت القناة الإخبارية الوحيدة في تونس.

في نفس الإطار، تعاني قناة "التاسعة" صعوبات مالية بلغت ذروتها خلال شهر رمضان الفارط، وذلك إثر تصنيف شركات سبر الآراء القناة في مراتب متأخرة من حيث المشاهدة مقارنمة بقنوات أخرى، وهو ما اعتبرته القناة "تلاعبًا بالأرقام خدمة لمنافسيها في إطار تنافس غير نزيه لجذب الإشهار". وقد أثر هذا التصنيف على استفادة "التاسعة" من السوق الإشهارية، لتزداد خسائرها المالية، وهو ما جعلها تنهي تجربة الأخبار، والتي كانت أول تجربة لقناة خاصة منوعة لتقديم نشرة جامعة للأخبار منافسة للقناة العمومية "الوطنية 1".

ويمثّل الإشهار مسألة حيوية خاصة بالنسبة للإعلام التلفزي، حيث تعوّل القنوات الخاصّة على المداخيل الاشهارية بصفة أساسية من أجل تمويل برامجها طيلة السّنة، ولذلك يمثّل شهر رمضان، وهو ذروة نشاط السوق الإشهارية، شهرًا حاسمًا بالنسبة لها.

ولا تنحصر المتاعب المالية على "التاسعة" فقط، بل تشمل كذلك قناة "حنبعل"، حيث تعاني أول قناة خاصّة في تونس كانت بدأت بالنشاط سنة 2005، حاليًا صعوبات مالية مما جعل العاملين فيها يضربون عن العمل في أكثر من مناسبة طيلة الأشهر الماضية، كما أثرت هذه الصعوبات على برامج القناة سواء من حيث عددها وجودتها، بعد إن كانت تتصدّر القناة، قبل الثورة، نسب مشاهدة القنوات في شهر رمضان.

ولا يختلف الحال بخصوص الإعلام التلفزي العمومي، حيث تعاني القناة "الوطنية" من ديون بلغت قيمتها 38 مليون دينار (16 مليون دولار)، غير أنها لا تخشى شبح الإغلاق بما أنها قناة مملوكة للدولة، غير أن هذه المتاعب المالية أثرت على برمجتها وتمويل برامجها لمنافسة القنوات الخاصّة.

اقرأ/ي أيضًا: تهديدات سياسية لإذاعة خاصة.. الإعلام التونسي إلى أين؟

الإذاعات والصحف، الأزمة المستمرّة

شهد عدد الإذاعات، بدوره، ارتفاعًا ملحوظًا بعد تحرير المجال الإعلامي بعد الثورة، وخاصة بعد رفع القيود الإجرائية للترخيص لها، غير أن هذا التطور في عدد الإذاعات خاصة الجهوية منها، تزامن مع ضعف في مردوديتها الإعلامية إضافة لهشاشتها المالية، وهو ما جعلها مشاريعًا غير قابلة للحياة. وآخر هذه المشاريع هي "إذاعة صراحة" التي أغلقت أبوابها قبل أيام، وقامت بتسريح الصحفيين دون استيفاء حقوقهم المالية.

ولا يختلف الحال بخصوص الصحف الورقية، والتي تعاني ذات الأزمة التي تواجهها كبريات الصحف الورقية العالمية، وذلك بسبب ضعف الإقبال عليها بعد انتشار وسائل الإعلام الالكترونية. حيث وإن تعدّدت الصحف في تونس بعد الثورة، فإنها ظلّت محدودة الانتشار في عمومها، وبالتالي ظلّت دون مردودية مالية تكفي حتّى لخلاص العاملين فيها، وذلك عدا الصحف الصفراء، والتي يمولّها رجال أعمال يستغلونها من أجل الترويج لمشاريعهم السياسية واستهداف خصومهم. وهي ظاهرة جعلت نقابة الصحفيين تصفها، في وقت سابق، أنها "عصابات إجرامية تجمع لوبيات فاسدة داخل أجهزة الدولة متخصصة في الابتزاز والتمعش تحت غطاء الصحافة وحرية الرأي والتعبير".

ماهي أسباب هذه الأزمة؟

ظلّت عديد وسائل الإعلام في تونس حبيسة مشاريع أصحابها فكانت تنتهي بمجرّد انتهاء نزوات وأهداف هؤلاء

تتعدّد أسباب أزمة وسائل الإعلام التونسية، ولعلّ أولها غياب مخطّطات استراتيجية لعملها وعدم دراستها الكافية للسوق، وهو ما جعل أغلبها غير قادرة على المنافسة وجلب اهتمام المواطن. كما تفتقر لمصادر تمويل قارّة، ويمثل تعويل جلّها على الإشهار عنصر هشاشة، خاصّة في ظلّ محدودية السوق الإشهارية وقابليته الدائمة للتغيّر.

من جانب آخر، ظلّت عديد وسائل الإعلام حبيسة مشاريع أصحابها وهم غالبًا رجال أعمال من خارج القطاع الصحفي، الذين انحصرت غايتهم في الاستثمار في الإعلام في السنوات الأخيرة من أجل تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية محضة، فمثلت هذه الوسائل الإعلامية مجرّد مشاريع تنتهي بمجرّد انتهاء نزوات وأهداف أصحابها.

كما يمثّل ضعف المؤسسات الإعلامية الرقابية وقصور التأطير القانوني عاملان أساسيان في مزيد تأزم الحقل الإعلامي التونسي، حيث تعاني الهيئة الوقتية للإعلام السمعي والبصري، وهي الهيئة التي تتولى منح التراخيص ومراقبة أداء وسائل الإعلام السمعية البصرية، من عراقيل في عملها سواء على المستوى المالي واللوجيستي. ويعتبر مراقبون أن النخبة السياسية الحاكمة تستهدف قصدًا إضعاف هذه الهيئة الوقتية، كما تحول دون إنشاء الهيئة الدستورية القارّة للإعلام رغم مرور زهاء ثلاثة سنوات ونصف منذ إقرار الدستور ذلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

انتهاك حرية الإعلام في تونس من جديد.. السلطة متهمة

الإعلام التونسي ونظرية "المؤامرة" العربية