05-سبتمبر-2019

يخبرنا مسار إقرار "عقد الأهداف" بين التلفزة التونسية ورئاسة الحكومة و"الهايكا" عن مسارات إصلاح مؤسسات الميديا العمومية في تونس

 

أمضت مؤخرًا، وتحديدًا بتاريخ 30 أوت/أغسطس المنقضي، ثلاثة أطراف وهي التلفزة التونسية ورئاسة الحكومة والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) ما سمّي "عقد الأهداف والوسائل"، الذي من المفروض أن ينظّم علاقة الحكومة (والسلطة التنفيذية) بمؤسسة التلفزة الوطنية. وحسب البلاغ الصادر عن "الهايكا"، يمثل هذا العقد "خطوة محورية في مسار إصلاح الإعلام العمومي" وسيساهم في "ترسيخ مفهوم المرفق الإعلامي العمومي ودعم استقلاليته". لكن رغم أهمية هذه الآلية الجديدة فإنها لم تحظ بأي اهتمام يُذكر. 

ونقترح في هذا المقال قراءة نقدية حول هذه الآلية الجديدة، وحول مسار إرسائها، وأيضًا بخصوص اللامبالاة التي صاحبت الإعلان عنها، وكذا نتائجها على مكانة التلفزة التونسية وهي المؤسسة العمومية التي تقوم نظريًا بأداء مهام المرفق العام في مجال اختصاصها.

اقرأ/ي أيضًا: ما العمل ليكون لنا التلفزيون الذي نستحق؟

فرضيات حول لامبالاة الجميع إزاء "عقد الأهداف والوسائل" بين الحكومة والتلفزة التونسية

يُقدّم "عقد الأهداف والوسائل" على أنه آلية أساسية لإرساء حوكمة جديدة لمؤسسة التلفزة التونسية وشرطًا من شروط استقلاليتها عن السلطة السياسية وعن كل أنواع السلطات الأخرى. ويُقدّم هذا العقد أيضًا على أنه من شروط فعاليّة إدارة المؤسسة بما أنه يضبط الأهداف التي تحدد للإدارة العامة والوسائل التي تضعها الدولة لها. وهو، على هذا النحو، يضع آلية لمحاسبة هذه الإدارة العامة على النتائج التي حقّقتها. وبتعبير آخر، يبدو الأمر وكأنه ثورة صغيرة في منظومة حوكمة التلفزة التونسية.

وحتى نفهم أكثر أهمية هذا القرار، يجب أن نشير إلى أن آلية التعاقد هذه هي الآلية الأساسية التي تقوم عليها العلاقة بين الدولة والتلفزيون العمومي في الدول الديمقراطية على غرار فرنسًا وبريطانيا على وجه الخصوص. ويمثّل عادة توقيع هكذا اتفاقية حدثًا بارزًا يشغل الصحافة وتقوم الحكومات بالتسويق إليها كدليل على عنايتها بالمرفق العمومي التلفزيوني.

يُقدّم "عقد الأهداف والوسائل" على أنه آلية أساسية لإرساء حوكمة جديدة لمؤسسة التلفزة التونسية وشرطًا من شروط استقلاليتها عن السلطة السياسية وعن كل أنواع السلطات الأخرى

ولكن رغم أهميته القصوى نظريًا، لم يلق إعلان "عقد الوسائل والأهداف" في تونس سوى اللامبالاة الكاملة. إذ لم يعلّق السياسيون والأحزاب السياسية على هذا القرار رغم أنهم يشتكون دائمًا من السيطرة على التلفزة الوطنية وتوظيفها لصالح هذا الاتجاه أو ذاك. كما لم نر تعليقات، سواء أكانت مرحبة أم ناقدة، من النقابات المهنية عن هذا القرار، عدا أنه لم يحظ كل الموضوع بتغطية إخبارية تستحق الذكر رغم أهمية المسألة حتى أننا لا نكاد نعثر أصلًا على تقارير إخبارية حوله.

فما هي الأسباب التي تفسر هذه اللامبالاة الغريبة إزاء موضوع بهذه الأهمية؟ هل يرى السياسيون أنفسهم غير معنيين بمسألة مثل هذه؟ هل ينظرون إليها على أنها مسألة تقنية لا غير تتعلق بوضع إجراءات عملية لتنظيم العلاقة بين رئاسة الحكومة والتلفزة التونسية؟

وما الذي يفسّر غياب النقاش في هذه المسألة في الأوساط المهنية النقابية بشكل عام والحال أن الجميع يردد باستمرار أن لا "انتقال ديمقراطي بلا إعلام" وأنه يجب بناء  تلفزة عمومية قائمة على حوكمة جديدة؟ ثم بما يمكن تفسير عدم اهتمام الأوساط الصحفية بهذا الموضوع؟ فهل سبب ذلك أن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري لا تخضع عادة للمعالجة الصحفية المهنية المألوفة إذ يكتفي عادة الصحفيون بنقل أخبارها دون أية مبادرات أخرى تفسيرية أو تحليلية أو نقدية من باب دعمهم  للهيئات كما يدعوهم إلى ذلك البعض؟

ما هو عقد الأهداف والوسائل ومن أين اُستنسخ؟

يُصنّف "عقد الأهداف والوسائل" ضمن الآلية التعاقدية لتنظيم العلاقة بين الدولة والمؤسسات التلفزيونية والإذاعية، والتسمية مستنسخة كما هي بلا أي إضافة أو نقصان من التجربة الفرنسية (Contrat objectifs et moyens). وهناك آليات أخرى مماثلة في عدة دول ديمقراطية أخرى على غرار بريطانيا عبر عقد "الميثاق الملكي للبي بي سي" (BBC royal Charter) الذي ينظم بشكل واضح وعلى أسس دستورية علاقة الدولة (وتحديدًا كتابة الدولة للثقافة والميديا والرياضة)  بهذه المؤسسة الإعلامية. وقد بدأ العمل بهذه الآلية منذ 1926 ويمتد عادة على فترة عشر سنوات.

يُصنّف "عقد الأهداف والوسائل" ضمن الآلية التعاقدية لتنظيم العلاقة بين الدولة والمؤسسات التلفزيونية والإذاعية، والتسمية مستنسخة كما هي بلا أي إضافة أو نقصان من التجربة الفرنسية 

ونشرت الحكومة البريطانية، في جويلية/يوليو 2015، ما يسمّى "الكتاب الأخضر" عن حالة "بي بي سي" ومستقبلها، وهو نتاج استشارة شارك فيها قرابة 190 ألف بريطاني وبعد أن شارك أيضًا مسؤولو "بي بي سي" في عشرات الورشات التي انتظمت في  مختلف المدن البريطانية (اطلع على تقرير الحكومة البريطانية كإطار للاستشارة العمومية حول عقد أهداف "بي بي سي").

 وفي سبتمبر/أيلول 2016، قدمت الحكومة البريطانية مشروع العقد الجديد الذي يهدف إلى ضمان الشفافية والمساءلة، ومن الأهداف الكبرى التي يتضمنها العقد تقديم خدمة إخبارية ذات جودة لمساعدة المواطنين على فهم عالمهم وتمثيل تنوع المجتمع البريطاني ودعم الاقتصاد المبتكر.

أما في فرنسا، تبرم وزارة الاتصال "عقد الأهداف والوسائل" مع مؤسّسة التلفزيون الفرنسي بعد موافقة مجلس إدارة التلفزيون الفرنسي، ويمتد العقد الحالي من 2016 إلى 2020، وتلتزم فيه الدولة بالترفيع من مساهمتها في ميزانية التلفزيون الذي يلتزم بدوره بتطوير موارده الذاتية. ومن المشاريع الكبرى المحمولة على التلفزيون الفرنسي القيام بتنمية الدراما التلفزيونية الفرنسية وإحداث قناة إخبارية "franceinfo".

ملاحظات نقدية

- استنساخ التجربة الفرنسية واستبعاد فضائلها: الملاحظة الأولى التي لا مفر من الإشارة إليها تتعلق بمسار استنساخ آلية "عقد الأهداف والوسائل " أو بتعبير آخر آلية التعاقد بين الدولة وبين المرفق العمومي التلفزيوني.

 إذ نلاحظ بكل وضوح أن عملية الاستنساخ هذه لم تكن كاملة بما أنه استجلبت الآلية دون سياقها الديمقراطي، فهذه الآلية التعاقدية لا معنى لها دون النقاش العام المتصل بها سواء أكان ذلك في البرلمان كما هو الحال في فرنسا أو في المجال العمومي كما هو الحال في بريطانيا عندما طُرح الموضوع للنقاش. وإن حماية استقلالية مؤسسة التلفزة الوطنية شأنًا تقنيًا أو إداريًا يجب أن يبقى من اختصاص البعض يناقش بشكل يكاد يكون سريًا.

- استبعاد المؤسّسات العمومية الأخرى من آلية التعاقد: لماذا اقتصر عقد الأهداف والوسائل على التلفزة التونسية دون سواها والحال أن الإعلام العمومي يتكوّن من مؤسّسات أخرى، إضافة إلى التلفزة التونسية، والحديث عن الإذاعة التونسية ووكالة تونس إفريقيا للأنباء ومؤسّسة "سنيب لابراس"( SNIPE LA PRESSE) التي تصدر جريدة "الصحافة اليوم" وجريدة "لابراس" باللغة الفرنسية. اذ نشير إلى أنه في فرنسا، منشأ استنساخ هذه الآلية، تشمل آلية التعاقد بواسطة "عقد الأهداف والوسائل" التلفزيون العمومي والإذاعة العمومية.

لماذا اقتصر "عقد الأهداف" على التلفزة التونسية دون سواها والحال أن الإعلام العمومي يتكوّن من مؤسّسات أخرى هي  الإذاعة  التونسية ووكالة تونس إفريقيا للأنباء ومؤسّسة "سنيب لابراس"

اقرأ/ي أيضًا: كيف أصبح التلفزيون التونسي "رديئًا"؟

- غياب الاستشارة العمومية: في فرنسا أيضًا، بماهي منشأ هذه الآلية التعاقدية بين الدولة ومؤسّسة التلفزة العمومية، يجمه العقد الدولة بالمؤسّسة ثم يُستشار فيه بعد ذلك المجلس الأعلى للاتصال ("الهايكا" الفرنسية) واللّجان المتخصّصة في البرلمان ومجلس الشيوخ (Sénat) بما أنها تمثل الشعب الفرنسي الذي يموّل التلفزيون العمومي.

ولكن في تونس، لم يُستشر البرلمان، كما لم يُستشر المواطنون وهيئات آخرى حول موضوع هذا الاتفاق الذي يقدّم على أنه مصيري بالنسبة إلى حياة المؤسسة وأدورها في الحياة السياسية في الحياة العامة كمرفق عمومي مستقل. ويبدو استبعاد الاستشارة أمرًا غريبًا في سياق  أصبحت فيه آلية معتمدة في مجالات عديدة على غرار البلديات مثلًا. فكيف يمكن للدولة أن ترسي إطارًا للاستشارة العمومة وآليات لذلك على غرار موقع "بوابة المشاركة العمومية" ثم لا تفعّله في مسائل مثل استقلالية التلفزة التونسية وهويتها ومهامها وأدوارها؟

- غياب الشفافية: ففي الدول التي اُستنسخت منها آلية "عقد الأهداف والوسائل"، يكون مضمون العقد متاحًا للمواطنين قبل إصداره وبعده من خلال إتاحة نص العقد أولّا (اطلّع على عقد الأهداف الخاص بالتلفزيون الفرنسي)، ثم المداولات بخصوصه في البرلمان ومجلس الشيوخ ثانيًا وذلك قبل نشر الاتفاقية ومضمونها للعموم للإطلاع عليها.

 وعلى هذا النحو، فنحن نعلم كل شيء عن مضمون العقد الذي يجمع بين الدولة من جهة أولى والإذاعة العمومية الفرنسية (إذاعة فرنسا) والتلفزيون العمومي الفرنسي (المداولات البرلمانية مثلًا) من جهة ثانية. أما في تونس، فلا علم لنا بمضمون هذا العقد باستثناء بعض الفصول الواردة في البيان الصحفي الذي نُشر إبان الإعلان عنه.

لماذا الإصلاح الجزئي بدل الإصلاح الشامل؟

ما الذي يفسّر إرساء آلية التعاقد هذه والحال أن حوكمة التلفزة التونسية لم يتطلق بعد ولم تخضع المؤسسة إلى أي نوع من الإصلاح؟ فكيف يمكن إصلاح الجزء والكل لم يخضع إلى الإصلاح؟ وهل يمكن أن تعطى للتلفزة أهدافًا طموحة لتحقيقها وتحاسب عليه والحال أنها لم تخضع إلى عملية إصلاح؟ فكيف يمكن إسناد أهداف جديدة إلى مؤسسة لم تتغير وتتحول؟ أليس من باب أولى وأحرى الانطلاق في إصلاح التلفزة الوطنية ونظام حوكمتها قبل تكليفها بأهداف جديدة ومحاسبتها على ذلك؟ وهل يمكن إصلاح الجزء دون إعداد خارطة طريق واضحة للإصلاح حتى لا يكون الإصلاح الجزئي بلا فائدة؟

مشكلة التقييم

في الدول التي اُستنسخت منها تجارب التعاقد، يدوم هذا العقد إلى فترة زمنية محددة (عقد "بي بي سي" من 2017 إلى 2027، وعقد التلفزيون الفرنسي من 2016 إلى 2020 وعقد الإذاعة العمومية الفرنسية من 2015 إلى 2019). وإضافة إلى أن العقد محدد زمنيًا ويعتمد على تقييم نهائي عند انقضاء آجاله، فهو يخضع أيضًا إلى تقييم سنوي.

أما في تونس، لم يتضمن الإعلان عن "عقد الأهداف" بين رئاسة الحكومة والتلفزة التونسية و"الهايكا" أية معلومات عن عملية التقييم. ومن يقيّم؟ هل هي الحكومة أم الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري أم البرلمان أم أجهزة الدولة الرقابية؟

 يخبرنا مسار إقرار "عقد الأهداف" بين التلفزة التونسية ورئاسة الحكومة و"الهايكا" وبشكل جيد عن المسارات المتعثرة لإصلاح مؤسسات الميديا العمومية في تونس

ولسائل أن يسأل أيضًا هل أن التقييم قائم على معايير مالية أو إدارية أو إجرائية أم أنه يتعلق بالمضامين؟ وإن كان التقييم يتعلق بالمضامين،  فمن وضع هذه الأهداف المتعلقة بالمضامين وما هي؟ فهل تتعلق بتطوير مضامين المخصّصة للشباب أو بتلفزيون القرب والتلفزيون المحلي؟ وهل ستقوم التلفزة بتطوير الصحافة الاستقصائية والتحقيقات وما يسمّى مضامين الجودة؟ وهل ستعزز التلفزة المضامين الخاصة بالأطفال؟ أم أن هذه الأهداف تتعلق بمعايير كميّة على غرار قيس نسب المشاهدة؟

فهل تضمن هذا العقد مثلًا أهداف خاصة بتحقيق نسبة ما من المشاهدة بشكل عام أو لدى فئات بعينها من الجمهور؟ وهل يتضمّن "عقد الأهداف والوسائل" مشاريع إستراتيجية على مؤسسة التلفزة الوطنية تنفيذها؟ وهل تتعلق هذه الأهداف بالتمويل الذاتي وتطوير الموارد الذاتية من إشهار وخدمات أخرى؟

التلفزة التونسية ليست مرفقًا عموميًا بعد

لقد كان تحليل مسار إقرار "عقد الأهداف" بين رئاسة الحكومة من جهة أولى، والتلفزة التونسية والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري من جهة أخرى  فرصة جيدة لاستكشاف تحولات التلفزة التونسية من مؤسسة عمومية إلى مرفق عمومي.

والواضح أن فلسفة المرفق العمومي لم تترسّخ بعد، إذ نرى بوضوح عملية استبعاد العموم من النقاش في مستقبل مرفقهم أي بتعبير آخر استبعاد المواطنين من المشاركة في عملية تصميم العقد الذي يهم التلفزيون باعتباره مؤسّسة عمومية ومرفق عمومي يُقال عنه أنه إستراتيجي  والحال أن مضمون العقد يهم هوية التلفزيون العمومي المفترض أن تمثل موضوعًا للنقاش.

فالاتفاق لا يتعلق بإدارة المؤسسة وبتنظيمها بل بالخدمات التي تقدمها للمواطنين وبإستراتيجيتها في مستوى المضامين وأدوارها وخياراتها. والتلفزة التونسية ليست مؤسسات ككل المؤسسات الأخرى الصناعية أو المتخصصة في مجال الخدمات، بل هي مؤسسة ذات علاقة وطيدة بالمجال السياسي وبالهوية الوطنية وبالثقافة والتنشئة الاجتماعية، مما يدعونا إلى التساؤل حول خيار عدم اعتماد الاستشارة العمومية في تحديد أهدافها.    

ختامًا، يخبرنا مسار إقرار "عقد الأهداف" بين التلفزة التونسية ورئاسة الحكومة و"الهايكا" وبشكل جيد عن المسارات المتعثرة لإصلاح مختلف مؤسسات الميديا العمومية في تونس، وقد يكون سبب ذلك أن مسألة الإصلاح ذاتها لم تتحوّل بعد إلى مشغل جماعي.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

المفارقة التونسية: هل الصحفيون التونسيون أحرار حقًا؟

هل للصحافة الاستقصائية مستقبل في تونس؟