30-مارس-2022
مراسلون

مراسلون صحفيون بجهة سوسة أثناء عمل ميداني

 

شبكة واسعة من المراسلين الصحفيين التونسيين تتوزع على كامل تراب الجمهورية، يمثل أفرادها مؤسسات إعلامية مرئية ومسموعة ومكتوبة وإلكترونية، يعملون على تدفق المعلومات والأخبار والتحقيقات في جميع المجالات.

مراسلون صحفيون بعيدون عن المركز، يبحثون عن المعلومة وينقلون الحدث من مصادره، يعيشون أدق تفاصيل المجتمع المحلي ويفصّلون بنية الجهة التي يعيشون فيها تفصيلًا، ويجسدون صحافة القرب في أهدافها السامية.

قد يبدو أن شبكة المراسلين الصحفيين التونسيين تتمتع بهيكلة وتنظيم محكم، ولكنها جسم مفكّك من أبرز نقائصه عوائق النفاذ إلى المعلومات، والتشغيل الهش..

مراسلون صحفيون عديدون التصقت أسماؤهم في المجال الإعلامي بأحداث كبيرة وعميقة في تونس على مرّ عقود، ولعل أهمها ما كان له علاقة بالحراك الاجتماعي والسياسي، وأحداث تتعلق بالأمن العام ومقاومة الإرهاب، ونذكر من ذلك أحداث الرديّف في عهد الرئيس الأسبق بن علي، وأحداث الثورة في 2011، والأحداث الإرهابية سوسة وبن قردان وجندوبة والقصرين.

قد يبدو لك منذ الوهلة الأولى، من خلال المادة الصحفية الدسمة والدقيقة والدائمة التي تتدفق من الجهات بغزارة نحو المؤسسات الإعلامية المختلفة المقيمة في المركز، أن شبكة المراسلين الصحفيين التونسيين تتمتع بهيكلة وتنظيم محكم، ولكن بمجرد التواصل معهم في كافة الجهات، تجد جسمًا مفككًا يعاني العديد من النقائص والهنات، لعلّ أهمها يتصل بعلاقة المراسل الصحفي بالمركز، وعوائق النفاذ إلى المعلومات، والتشغيل الهش الذي لا يتواءم مع طبيعة المهنة، والتهديدات المحتملة في ضرب الحقوق والحريات من السلطة القائمة.

محمد الهادي الرداوي (مراسل صحفي بقفصة) لـ"الترا تونس": بعد الثورة أصبح النفاذ إلى المعلومات أوسع نطاقًا رغم ارتهان المسؤولين إلى الخوف الدائم من تمكين الصحفي من المعلومة، وهو ما لمسناه مجددًا بعد 25 جويلية في زمن التدابير الاستثنائية

ولعل واقعة اعتقال الصحفي خليفة القاسمي -المراسل الصحفي بولاية القيروان لإذاعة "موزاييك" الخاصة- والاحتفاظ به لأيام في مركز أمني إثر امتناعه عن كشف مصدره الذي أمده بمعلومات تخص تفكيك مجموعة إرهابية، قد أدارت الرقاب مرّة أخرى إلى البيئة التي يعمل ضمنها المراسل الصحفي والعقبات التي تعيقه عن القيام بمهامه.

محمد الهادي الرداوي أحد المراسلين الصحفيين المخضرمين في ولاية قفصة الذين عملوا في فترة ما قبل ثورة 2011، وكان شاهدًا على أحداث الحوض المنجمي التي هزت عرش الدكتاتورية، كشف لنا عن حجم التضييقات التي كان يتعرض لها الصحفي في قفصة ضمن نظام ما قبل الثورة، "إذ لم يكن متاحًا للصحفي أن يتواصل مع المسؤولين في كافة المجالات خاصة إذا كان ينتمي إلى مؤسسة إعلامية معارضة للنظام. وما كان للمراسل الصحفي أن تتوفر له الآليات اللازمة لإرسال المعلومات بطريقة سلسة، بل إنّ عقبات المراقبة الأمنية والتضييق البوليسي كانت تلاحقه في كل زاوية وتهدد حياته في كل لحظة، ويجرّه العمل الصحفي إلى التخفي في الواقع والافتراضي"، وفق ما صرّح به لـ"الترا تونس".

هادي الرداوي
المراسل الصحفي بولاية قفصة محمد الهادي الرداوي

حدثنا الرداوي عن النفاذ إلى المعلومات بين حقبتي ما قبل الثورة وما بعدها، إذ عبّر عن "عامل الخوف من قمع السلطة الذي كان سائدًا قبل الثورة، مما يجعل من المسؤولين الرسميين خارج دائرة الاجتهاد في تقديم المعلومة خوفًا من الإدارة المركزية التي تستأثر بالقرار في كل شيء، كما كانت التعليمات واضحة في عدم التعامل مع أي نفس معارض" وفقه.

ويضيف الرداوي: "بعد الثورة أصبح الولوج والنفاذ إلى المعلومات أوسع نطاقًا رغم ارتهان المسؤول في تونس إلى الخوف الدائم من تمكين الصحفي من المعلومة، وهو ما لمسناه مجددًا بعد 25 جويلية/ يوليو في زمن التدابير الاستثنائية، مما أثار فينا شكوكًا في العودة إلى سابق عهد ضربت فيه الحريات رغم غياب التعليمات الواضحة في ذلك".

كما اعتبر الرداوي أن "المراسل الصحفي الذي يشتغل خارج المقر المركزي للمؤسسة الإعلامية، يُعتبر العجلة الخامسة، ولا يُلتفت إليه على كونه دعامة أساسية من دعائم صحافة القرب ومناصرة المجتمعات المحلية"، وضرب لنا مثلًا تونسيًا يقول: "الصحفي التونسي كجيش زوارة، مقدّمًا في الحرّ، متأخرًا في الراتب"، ويعني بذلك الهشاشة الاجتماعية التي يعاني منها.

وقد اعتبر الصحفي مولدي الزوابي (ولاية جندوبة) من جهته، أن "المراسل الصحفي في الجهات وفي مقدمتها الجهات الحدودية، يبذل مجهودات كبيرة ومهنية للوصول إلى المعلومة، ولم تستسغ بعد الإدارة التونسية مساعي الصحفي خاصة عندما يتعلق بالأخبار التي تنتظر، بما يفتح المجال إلى نشر الأخبار الزائفة أو المؤوّلة. فلم يتحرّر المسؤولون الجهويون والمحليون بعد، من الضغوطات الإدارية، بما يجعلهم إما يلجؤون إلى الجهات المركزية، وهذا يتطلب وقتًا يُفقد الخبر شروطه المهنية، وإما أن يُمكّنك من المعلومة طالبًا عدم ذكر اسمه أو الجهة التي مكّنتك منها، وتتصدر مؤسسات الداخلية والقضاء هذه الظاهرة، فهذه الجهات في غالب الأحيان تكون معلوماتها غير محيّنة، وإذا صادف أن تزامنت مع أيام عطل فالأمر يذهب نحو التعقيد، لاسيما وأن المناشير الصادرة في هذا الشأن باتت مخيفة بالنسبة إليهم".

مولدي الزوابي
صورة المراسل الصحفي  مولدي الزوابي في استقبال المراسل الصحفي خليفة القاسمي بعد الإفراج عنه

ويضيف الزوابي قائلًا: "المراسلون سواء كانوا في مؤسسات عمومية أو خاصة، يواجهون الثقل الماديّ لتنقلاتهم، وباستثناء مديري المكاتب، لا يتمتع بقيتهم باسترجاع مصاريف تنقلهم أو إعاشتهم، وهو عامل قد يُسقط الصحفي في مجال التوظيف من جهات معينة بما يفقده استقلاليته، فضلًا عن أن معدات العمل وتجهيزات المكاتب تكاد تكون غائبة، بالإضافة إلى أن وسائل النقل المستعملة -وباستثناء التلفزة الوطنية- فإنها تكون خاصة أو عمومية (تاكسي جماعي – ريفي – حافلات).

ويقول المراسل الصحفي مولدي الزوابي: "أما في خصوص ما يعبّر عنه بالدخلاء، فإن قطاع الصحافة وخلافًا لبقية القطاعات، بقي مفتوحًا، ولئن تمكّن البعض منهم من امتلاك قدرات محمودة، فإن طابع الاحتراف يكاد يكون مفقودًا في قطاع يتطلب دقة ومصداقية ومسؤولية، وهو أمر علاجه مطروح على المؤسسات الخاصة، وفي هذا الإطار سُجلت عدة تجاوزات أضرت بصورة الصحفي عمومًا".

وحول تجربته في خطة مراسل صحفي يقول الزوابي: "هي تجربة مرّت بمرحلتين مختلفتين: الأولى قبل الثورة، وبحكم عملي مع صحيفة الموقف والحوار التونسي وإذاعة كلمة، فإن الأمر كان فيه من الصعوبة ما ألحق بي سلسلة من الاعتداءات والاختطاف والحجز والمحاكمات.. إما بافتعال قضايا أو المحاكمة بتهم الثلب عن طريق الصحافة وإذاعة أخبار زائفة. لكن بعد الثورة، تغيرت المعادلة -بحكم عملي في وكالة تونس إفريقيا للأنباء- باتجاه مزدوج، حيث وجدت تعاونًا مع بعض المؤسسات، وصعوبات مع بعضها الآخر، خاصة إذا تعلق الأمر بملفات الفساد والملفات ذات الطابع الحقوقي أو السياسي، حيث قد يتطلب نشر خبر أكثر من أسبوع، وفي الغالب لا تستدعي المؤسسات العمومية الصحفيين إلا إذا تعلق الأمر بزيارات بعض المسئولين الكبار، وإذا تعلق الأمر برئاسة الجمهورية، فالأمر يصبح أكثر صعوبة، خاصة مع الرئيس الحالي، فغالبًا ما تكون الزيارات غير معلنة ولا نجد مصدرًا يمكّنك من طابع الزيارة ومخرجاتها".

مولدي الزوابي (مراسل صحفي بجندوبة) لـ"الترا تونس": لم يتحرّر المسؤولون الجهويون بعد، من الضغوطات الإدارية، فهم إما يضيعون الوقت بلجوئهم إلى الجهات المركزية، ما يُفقد الخبر شروطه المهنية، وإما أن يُمكّنوا من المعلومة طالبين عدم ذكر أسمائهم

وانتهى الزوابي إلى اعتبار أن "الأمر يستوجب أن تعتبر السلطة الحاكمة أن الصحافة والإعلام ليست سلطة عدوّة، أو معارضة، بل هي مراقبة، ضاغطة، ناقدة، كاشفة، ومدافعة عن حق المواطن في المعلومة ومعرفة ما يدور حوله، بل هي محمل من محامل التنمية، ونبراس القرارات الصائبة، ومعدّلة أو مقاومة للإخلالات والتجاوزات المحتمل حصولها، بل هي محمل من محامل البناء الوطني، والصحفي هو فاعل اجتماعي بامتياز، مؤثر ومحدّد في قاطرة رسم المسارات، وضامن للشفافية وناقل للحقيقة، فهو في النهاية جيش رديف، يبني ويُصلح ويصحّح البوصلة عندما يعجز صنّاع القرار على تحديدها" وفق وصفه.

وفي مقابلة لها مع "الترا تونس"، اعتبرت نائبة نقيب الصحفيين التونسيين أميرة محمد، أن "حق الوصول والنفاذ إلى المعلومة معقّد بالنسبة إلى الصحفيين، سواء في الجهات أو المركز، ولكن الأمر أعقد في الجهات، فطلب المعلومة من الإدارات الجهوية "يتطلب موافقة مسبقة من المركز، وهذا الإجراء يستغرق وقتًا ويعطل عمل الصحفي الذي يريد الحصول على معلومة آنية ودقيقة مما يضطرّه إلى الحصول على معلومة بطرق ووسائل أخرى غير الطرق الرسمية" وفقها.

أميرة محمد (نائبة نقيب الصحفيين التونسيين) لـ"الترا تونس": السلطة الحالية لا تحترم حقوق الصحفيين وحق الرأي العام في المعلومة، ولا تحترم حرية الصحافة والإعلام

واعترضت أميرة محمد على "المنشور عدد 19 الذي أصدرته نجلاء بودن بعدما تولت مهام تسيير الحكومة الحالية والذي يتضمن ضربًا وحدًا لحرية التعبير وحق الوصول إلى المعلومة، وهذا المنشور يعطل عمل الصحفيين ككلّ، ويعطل بصفة خاصة عمل المراسلين الصحفيين والمؤسسات الإعلامية الجهوية البعيدة عن المركز".

كما قالت عضو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين "في إطار السياق العام، السلطة الحالية لا تحترم حقوق الصحفيين وحق الرأي العام في المعلومة، ولا تحترم حرية الصحافة والإعلام. وقد لاحظنا في المدة الأخيرة أن الحكومة تقصي الصحفيين وتستعمل أساليب إقصائية من قبيل إعداد قائمات للمؤسسات على المقاس، فتستدعي جانبًا دون آخر، والأغلب يتم إقصاؤهم، ورأينا ذلك في الجهات والبداية كانت من المركز".

أميرة محمد (نائبة نقيب الصحفيين التونسيين) لـ"الترا تونس": الإعلام ليس بوقًا للسلطة، وليس من دوره الدعاية لإنجازات وهمية من خلال ترديد بيانات تصدر على صفحات فيسبوك للمؤسسات الرسمية

وأضافت أميرة محمد: "مؤخرًا عقدت رئاسة الحكومة لقاء مع الصحفيين في قصر الحكومة بالقصبة لتستعرض إمضاء لعقود في الطاقة المتجددة، ولكن تم خلالها إقصاء عدد من ممثلي الإعلام المحلية والأجنبية، كما تم مؤخرًا في وزارة الداخلية إقصاء عدد من ممثلي وسائل الإعلام الأجنبية والدولية مما اعتُبر سياسة ممنهجة للسلطة الحالية التي تعتمد ضرب حق المواطن في المعلومة، وتعرّض الرئيس سعيّد للإعلام من خلال حديثه عن عدم مواكبة الإعلام لإنجازات الحكومة، في حين لا نرى للحكومة إنجازات، وعكس ذلك، فإن الصحفيين هم الذين يطالبون بتغطية أنشطة الحكومة لإنارة الرأي العام بما يخدم الجهة والشعب التونسي. والإعلام ليس بوقًا للسلطة، وليس من دوره الدعاية لإنجازات وهمية من خلال ترديد بيانات تصدر على صفحات فيسبوك للمؤسسات الرسمية" على حد قولها.

أميرة محمد
نائبة رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أميرة محمد

وحول الوضعية الهشة للمراسل الصحفي تقول أميرة محمد: "ليس بالجديد أن المراسلين الصحفيين في الجهات يتم النظر إليهم كأنهم من الكماليات، والدليل على ذلك أننا نرى المؤسسات الإعلامية تعتمد على أشخاص ليس لهم صفة صحفي، بل يشتغلون في مهن أخرى، وموظفين يرضون بالنزر القليل ولهم مورد رزق من غير مهنة الصحافة، كما أن المراسلين الصحفيين المتفرغين للمهنة لا يتمتعون بالامتيازات نفسها التي يكتسبها الصحفي في المركز، بل يعمل بعقد هش ويُحرم من التغطية الاجتماعية ولا يتمتع براتب محترم يحفظ له حقوقه وكرامته وخاصة في القطاع الخاص".

ومن خلال ما تقدّم من وضعية المراسل الصحفي الهشة، نلمس عامة افتقاد المؤسسات الإعلامية الخاصة لسياسة واضحة تجاه صحافة القرب والانتشار في الجهات.