28-يونيو-2021

الأزمة السياسية الراهنة لا يمكن حلها بدون تفاهم الأطراف المنتخبة

مقال رأي

 

بعد ركود طويل تحركت المياه الآسنة للأزمة السياسية العميقة في تونس. لا يمكن تحميل لقاء قيس سعيّد بالغنوشي أكثر مما يتحمل. لكن هو فرصة كي يتم توفير أحد شروط حل الأزمة، أي ترميم بعض الثقة بين فاعلين أساسيين بمنطق موازين القوى رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الأغلبي (ولو نسبيًا جدًا) في البرلمان. سأتحدث هنا عن ثلاث نقاط. أولًا المعطيات الجديدة والتي كان من الممكن التثبت منها من أكثر من مصدر. عوامل تحرك الوضع. وأخيرًا الطبيعة الظرفية والهيكلية للأزمة والحل الممكن. 


أولًا، نحن إزاء تغير مهم يتمثل أساسًا في ترميم الثقة في الحد الأدنى بين شخصين رئيسيين في المعادلة الراهنة. العلاقة بين قيس سعيّد وراشد الغنوشي كانت في الأصل باردة وسطحية. لم يأخذ الغنوشي بجدية قبل انتخابات 2019 مؤشرات بعض استطلاعات الرأي التي كانت تصله حول تموقع جدي لسعيّد في السباق الرئاسي. وبقي يعتقد من موقع التجربة أن "الماكينة" الحزبية ستحدد المآلات. ولم يكن في كل الأحوال يعتقد أن مرشح النهضة معني بالوصول إلى قرطاج هو فقط فرصة لتسخين السباق التشريعي ولهذا لم يستثمر لا الجهد ولا الوقت للانتصار فيها، بمعزل عن أن الغنوشي كان يرى أصلًا أن ترشيح الرئاسة لا يجب أن يكون جديًا إلا في حالة كان هو معنيًا به. 

 نحن إزاء تغير مهم يتمثل أساسًا في ترميم الثقة في الحد الأدنى بين شخصين رئيسيين في المعادلة الراهنة بمنطق موازين القوى، رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الأغلبي في البرلمان

بعد الانتخابات مرت العلاقة بين الرجلين بمرحلتين. الأولى مرحلة "احتواء" من الغنوشي لسعيّد. وامتنع سعيّد عن الاستجابة. ورفض أن يأخذ موقع الباجي قائد السبسي ولايزال، إذ يعتبر أن تلك العلاقة انتهت بتلك المواصفات إلى وفاة الباجي سياسيًا قبل وفاته البيولوجية. لكن رغم ذلك لم يعطل جهد النهضة لتشكيل حكومة بل حاول تسهيلها مادامت معنية بمواجهة "لوبي الفساد والصهيونية" كما يرى حزب "قلب تونس" ورئيسه خاصة نبيل القروي. 

اقرأ/ي أيضًا: عناصر الأزمة السياسيّة في تونس وسبل تجاوزها

في المقابل وبعد الاتفاق بين النهضة وقلب تونس حول تركيبة رئاسة البرلمان أصبح كرسي "الرئاسة" الذي على الجميع في النهضة الدفاع عنه وعقد أي تحالفات على أساسه هو كرسي رئاسة البرلمان. وهكذا قررت النهضة وضع نفسها رهن قلب تونس وائتلاف الكرامة. كان ذلك مؤشرًا سيئًا لقيس سعيّد في "انقلاب السياسيين". رغم ذلك حاول تصديق ما قالته النهضة أي "الفصل بين المسارات".  لكن النهضة وبعد فشل "حكومة الصف الثوري" رفضت تدخل سعيّد، ودفع الغنوشي بكل قوة إلى "التوافق" المعتاد مع المنظومة، فقط يبدو أن الجملي أفلت منه، وأصبح معنيًا ومع القروي وحفاظًا على الكرسي المقدس.

هناك عوامل أساسية جعلت قيس سعيّد يتناسى تراكم ضرب الثقة والشك والريبة خاصة في رئيس حركة النهضة. وهي خاصة عوامل الوضع العام في البلاد الكارثية والمنذرة باحتقان اجتماعي

وهكذا أصر أيضًا على أولوية العلاقة مع القروي على حساب سعيّد عندما رشح لقيس سعيّد فاضل عبد الكافي رغم أن قيس سعيّد كان مستعدًا لاختيار منجي مرزوق القريب جدًا من النهضة، أو إلياس الفخفاخ المعروف بعلاقته الودية بالنهضة منذ الترويكا. القطيعة أصبحت شبه كلية عندما ساهمت النهضة بشكل أساسي في سحب الثقة من الفخفاخ تحت العنوان المخاتل لـ"ضرب المصالح" في حين هي غارقة في تحالف مع أكثر السياسيين شبهة في تونس في خصوص الفساد. واحتضان النهضة للمشيشي الذي انقلب على اتفاقه مع قيس سعيّد ومحاولتها استعماله كيوسف شاهد جديد عمّق الأزمة.

هناك عوامل أساسية جعلت قيس سعيّد يتناسى تراكم ضرب الثقة والشك والريبة خاصة في رئيس حركة النهضة. وهي خاصة عوامل الوضع العام في البلاد الكارثية والمنذرة باحتقان اجتماعي سيؤدي إلى تصادم بين الأمن والمواطنين وهو الأمر الذي يعتبره الرئيس مقوضًا لما تبقى من الدولة. أيضًا الخطر الوبائي الوجودي المتفاقم خاصة هذا الصيف. وكذلك دعوات الحل السياسي ممن يعتبرهم قريبين منه في حزامه السياسي خاصة اتحاد الشغل وكذلك من حزامه قبل الانتخابات ممن رافقوه في الحملة. خشيته أيضًا من العزلة السياسية وانقلاب موازين القوى أمام تحالف واسع للمصالح والسياسة التقليدية. جاءت مبادرة لطفي زيتون في وقت مواتٍ. ولو أن محاولة التشويش عليها متواصلة وأحيانًا من داخل حركة النهضة وخاصة ممن سربوا كلمة رئيسها في اللقاء الافتراضي مع مكتبها في فرنسا. 

اقرأ/ي أيضًا: مفارقات المشهد السياسي في تونس بعد انتخابات 2019

 الانتقال الديمقراطي أصبح مؤسساتيًا انتخابويًا ولم يؤد إلى إصلاحات عميقة خاصة في اتجاه تفكيك هيمنة عائلات الريع. هذه القضية الهيكلية الرئيسية الآن

وهذا يطرح الأسس الهيكلية والظرفية للأزمة وبعدها الراهن. الأولى تتعلق بالطبيعة الهيكلية والظرفية للأزمة عمومًا في البلاد. الثانية تتعلق بالطبيعة الراهنة للأزمة السياسية. النقطة الأخيرة سيناريوهات الحلول الممكنة. في الطبيعة الهيكلية للقضية الأساسية إن الانتقال الديمقراطي أصبح مؤسساتيًا انتخابويًا ولم يؤد إلى إصلاحات عميقة خاصة في اتجاه تفكيك هيمنة عائلات الريع. هذه القضية الهيكلية الرئيسية الآن. الآن فوق القضية الهيكلية هناك قضية ظرفية عاجلة وهي التوازنات المالية التي تسمح بتواصل الدولة وخاصة الاتفاق الذي يتم تحضيره مع صندوق النقد. وهنا أحد أهم مظاهر الأزمة الراهنة أن اتفاقًا سياسيًا بامتياز مثل هذا يتم تهيئته من قبل حكومة ضعيفة غير كفؤة وغير سياسية. هذان الجانبان جوهر الأزمة السياسية.

الأزمة السياسية الراهنة لا يمكن حلها بدون تفاهم الأطراف المنتخبة وإبعاد الطرف المعين أي المشيشي، والتفاهم على حكومة سياسية. نعم كل الأطراف السياسية تتحرك ضمن مساحة ومنطق موازين القوى وتوسيع النفوذ. لكن هناك قوى سياسية أصبح ذلك هدفها الأساسي والأوحد ومنها أساسًا قوى حزام المشيشي، في حين هناك قوى أكثر جدية في علاقة بالإصلاح.

في خصوص الحلول، يجب التمييز بين السياق الراهن وسياق سنتي 2019-2020. حينها كان موضوع مكافحة الفساد رافعًا لانتصارات عديد القوى وعلى رأسها قيس سعيّد. الآن نحن بصدد إنقاذ "شقف الدولة". 

هناك سيناريوان: إما الأزمة الاجتماعية القادمة ستفرض على الأطراف التفاهم على حكومة سياسية أو تستبق ذاك وتتشكل حكومة سياسية دون المشيشي وتتبنى بوضوح برنامجًا إصلاحيًا وتتفاوض من زاوية وطنية اجتماعية مع صندوق النقد

هناك سيناريوان: إما الأزمة الاجتماعية القادمة ستفرض على الأطراف التفاهم على حكومة سياسية مثلما فرض العامل الامني حوارًا في 2013. أو تستبق ذاك وتتشكل حكومة سياسية دون المشيشي وتتبنى بوضوح برنامجًا إصلاحيًا وتتفاوض من زاوية وطنية اجتماعية مع صندوق النقد وليس تقنية كما تفعل الحكومة الحالية. برنامج إصلاحي اقتصادي يبعث رسالة أن كل الفئات الاجتماعية ستضحي هو الوحيد القابل للتطبيق وإلا نحن إزاء فوضى.

منها أساسًا محاولة فهم توجهات مختلف أطراف الأزمة، وكيف أن خصوم قيس سعيّد هم من دفعوه لتغيير موقفه منهم، مستشهدًا في ذلك بمعطيات محددة. أيضًا كيف أن حكومة المشيشي تؤثر فيها مجموعات سياسية مختلفة أحدهم "طلبة التجمع"، لكن أيضًا النهضة وقلب تونس. والأهم وفوق هؤلاء جميعًا عائلات الريع وقيادة الأوتيكا.

درس انتخابات 2019 أنها فككت الطرح الذي يتحدث عن أن القوى "القديمة" هي فقط تلك التي كانت تحكم قبل 2011 و"الجديدة" التي أتت بعده. "القديم" و"الجديد" لا يتحدد كورونولوجيًا بل على أساس التموقع السياسي لكن أيضًا الاجتماعي والموقف من الإصلاح. 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحوار في تونس.. عود على بدء

سعيّد يقترح العودة لدستور 59 وتنقيحه.. أساتذة قانون دستوري يعلقون