01-فبراير-2020

نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ندوة حول الدين العمومي الجمعة 31 جانفي 2020

 

يشعر الناظرون في الشأن التونسي، أنّ الخطاب السياسيّ والتحليل الاقتصادي خطّان متوازيان، الأوّل رهاناته في الغالب إيديولوجية وحزبية وانتخابية ولغته سجالية ونرجسية وإقصائيّة، والثاني همومه وثيقة الصلة بقفة المواطن وأجره من جهة وثروة البلاد ومواردها وآفاقها التنمويّة من جهة ثانية.

يتقاطع هذان الخطان أحيانًا حينما يتم تحويل وجهة التحاليل الاقتصادية، إذ يقع توظيفها توظيفًا سياسيًّا، فتفقد دقتها ومصداقيتها، وتراودها الكثير من المغالطات، لكن في حضرة الباحثين والمختصّين تتكشّف الحقائق المدعومة بالحجج والأمثلة والأرقام والإحصائيّات.

ندوة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حول الدين العمومي

اقرأ/ي أيضًا: "المارشي سونترال".. سوق تاريخي يهجره التجار والحرفاء

يتفق هؤلاء الدارسون على بلوغ تونس مرحلة الأزمة الاقتصاديّة، بل فيهم من ينبه إلى مخاطر الإفلاس، مبرّرًا هذه الرؤية السوداويّة بما بلغته البلاد من مديونيّة، وقد تمّ التطرّق إلى هذه المسألة في العديد من المنابر العلميّة والندوات الفكريّة، منها المائدة المستديرة التي نظّمها بالشراكة مع دار الصباح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتونس يوم 31 جانفي/كانون الأول 2020، وقد تمحورت هذه الندوة حول "الدين العمومي: بين إكراهات الوضع الاقتصادي وخيارات السياسات العمومية".

قضية الدين العمومي بين التهويل والاستخفاف

خرج الحديث عن الأزمة الاقتصاديّة في تونس من ضيق المنابر المختصة ومحبس المجالس الأكاديميّة، إذ لم يعد حديث العامة مقتصرًا على التذمّر من ارتفاع الأسعار أو ندرة بعض المواد الاستهلاكية، إنّما تعدّى ذلك إلى مواضيع أدق منها التطرق إلى المديونية وميزانية الدولة والعجز التجاري وغيرها.

محسن حسن: ارتفاع مستوى الدين العمومي يعود إلى عدم كفاية حصيلة النقد الأجنبي للدولة

سريان هذه المسائل على ألسنة المواطنين حوّلها إلى قضايا رأي عام، غير أنّه خلّف ألوانًا من الأخطاء عرضًا وتقييمًا أفضت على حدّ تعبير المهدي المبروك وزير الثقافة الأسبق إمّا إلى الإفراط في التهويل والمبالغة أو الإمعان في التهاون والاستخفاف، وهو ما يقتضي الإنصات إلى "الخبراء" في هذا المجال والاستئناس بآرائهم.

الديون الحميدة والديون الخبيثة

اقتران الحديث عن المديونية بالأزمة المالية في تونس يوهم المواطنين بأنّ الديون الخارجية هي أصل البليّة وأنّ كل أشكال الاقتراض دون استثناء تعدّ آية فساد وسوء تقدير، والحال أنّ الدين الداخلي أو الخارجي يعتبر من منظور جل النظريات العلمية أحد أهمّ ركائز المعتمدة في الاقتصاد المعاصر لدفع الاستثمار وخلق الثروة.

أفضى ضعف معدل النمو إلى تفاقم العجز في ميزانية الدولة من 1 في المائة إلى 5.6 في المائة

يتحول هذا الاختيار من سلوك محمود إلى حالة محرجة "خبيثة" حينما يتفاقم أو يغدو عشوائيًّا أو يوجّه وجهة طارئة أو غير مدروسة، وقد أرجع محسن حسن وزير التجارة الأسبق أسباب ارتفاع مستوى الدين العمومي التونسي إلى "عدم كفاية حصيلة النقد الأجنبي للدولة لتمويل وَارداتها والتزاماتها المالية فقد التجأت بعد الثورة إلى استعمال احتياطها النقدي والقروض الأجنبية"، حسب تعبيره.

عجز متواصل وأرقام مفزعة

أثمرت الثورة مكاسب سياسيّة لا أحد ينكرها، غير أنّ الفاتورة الماديّة والاقتصاديّة خلال الفترة الانتقاليّة بدت مرتفعة، إذ لم يتجاوز معدل النمو خلال السنوات التسع الماضية 1.5. وقد أرجع محسن حسن هذا المؤشر إلى عاملين، الأوّل تمثل في تراجع الاستثمار من 21.9 إلى 18.5 في المائة، والثاني يرتبط بتراجع الادخار الوطني من 15.7 إلى 8.5 في المائة.

وقد أفضى ضعف معدل النمو إلى تفاقم العجز في ميزانية الدولة من 1 في المائة إلى 5.6 في المائة، وذلك بالتوازي مع ارتفاع العجز التجاري في نهاية سنة 2019 إلى ما يزيد عن 9 في المائة، إذ بلغ 19.4 مليار دينار بعد أن كان قبل تسع أعوام في حدود 8.2 مليار دولار.

أفاد محسن حسن أن الدين الخارجي للدولة بلغ حوالي 77 مليار دينار

اقرأ/ي أيضًا: قطاع اللحوم الحمراء.. مشاكل متراكمة والمستهلك يواجه ارتفاع سعر "الهبرة"

ومن الأرقام الرسمية المفزعة فعلًا التي عدّدها محسن حسن بلوغ مستوى الدين الخارجي الخاص بالدولة ومؤسساتها حوالي 77 مليار دينار (76.97) في نهاية سنة 2019، وهو ما يعادل 67.3 من الناتج المحلي الإجمالي موزعة بين الإدارة (59.4 مليار دينار) والمؤسسات (17.57).

محسن حسن لـ"ألترا تونس":  المخاوف الناتجة عن تفاقم الدين العمومي لا ترجع إلى ضخامة الديون فحسب إنما تعود كذلك إلى الإشكاليات المتصلة بهيكلته وكلفته وكيفية استخدامه

وإذا جمعنا الدين العمومي الداخلي والخارجي (دون احتساب ديون المؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية) وصلت الأرقام إلى 82.89 مليار دينار في نهاية 2019، وهو ما يعادل 75 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 25 مليار دينار سنة 2010 وهو ما يمثل 40.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

وصرّح محسن حسن لـ"ألترا تونس" أن المخاوف الناتجة عن تفاقم الدين العمومي لا ترجع إلى ضخامة الديون فحسب، إنما يعود كذلك إلى الإشكاليات المتصلة بهيكلته وكلفته وكيفية استخدامه وإدارته من قبل المصالح الحكومية، حسب قوله.

ديون تبتلع ديونًا وتجرّ أخرى

يبلغ معدل نسبة الفائدة الموظفة على الدين العمومي قصير المدى 8 في المائة وفق أرقام أدلى بها محسن حسن في حين تتراوح بالنسبة إلى الديون طويلة المدى بين 5.5 في المائة و7.5 في المائة.

وقد بلغت الديون التي تحصلت عليها تونس خلال السنوات التسع المنقضية 66 مليار دينار وأدركت خدمة الدين خلال نفس الفترة 51.7 مليار دينار، وهو ما يعني على حدّ تعبير محسن حسن "أن الجزء الأكبر من الديون الخارجية يوجه إلى سداد الدين الخارجي ولا يستعمل في خلق الثروة ممّا يحدّ من فاعلية الديون ونجاعتها".

من الجرأة الثوريّة إلى الشجاعة السياسيّة

أرجع سامي العوادي، الأستاذ الجامعي بكلية العلوم الاقتصادية والتصرف بتونس/بجامعة المنار، هذا النزيف الاقتصادي إلى أربعة أسباب أوّلها التهرب الجبائي، وحمّل السلطة القائمة مسؤوليّة التفريط في حق المجموعة الوطنية، واتهم الحكومات بالتواطؤ مع هؤلاء "المجرمين الجبائيين". وحثّ على التصدّي لهذه الظاهرة التي مسّت من هيبة البلاد وحوّلتها إلى "أضحوكة بين الأمم على حدّ تعبيره". ودعا إلى أن يتحلّى السياسي بالجرأة وتحمل المسؤولية في معالجة هذه القضية.

سامي العوادي: السبب الثاني للمديونية مرتبط بمسألة الدعم المفتقر إلى حسن الترشيد

السبب الثاني للمديونية وصله العوادي بمسألة الدعم المفتقر إلى حسن الترشيد، إذ تستفيد منه الأطراف الميسورة، ويقع توظيفه في بعض الصناعات، ويجري استخدامه في غير محله.

والسبب الثالث تمثل، على حدّ تعبيره، في ارتفاع كتلة خلاص الموظفين. ونفى العوادي أن يكون ذلك راجعًا إلى الزيادة في الأجور، إنما مردّه الانتدابات العشوائية، عددًا وتوزيعًا، فجملة الموظفين الزائدين على النصاب تبلغ حوالي المائتي ألف أجورهم تصل حوالي 5 مليار دولار.

أكد فتحي النوري أنّ حاجة البلاد في هذه الفترة إلى حزام اقتصادي أوكد من حاجتها إلى حزام سياسي

السبب الرابع للمديونية يتمثل في التوريد العشوائي حسب العوادي الذي أبرز أنّ ضعف موارد الميزانية يحتاج إلى التدقيق في بعض المصادر الأخرى منها المحروقات، معتبرًا كل أرقامها المعلنة مغلوطة.

وردّا على سؤال "ألترا تونس" حول سبل تدارك المشكلة الهيكلية في توزيع الموظفين، أكّد محسن حسن ضرورة تحويل قسم من الموظفين إلى طاقة منتجة من قبيل توظيف عددهم منهم في المراقبة الجبائية والتشجيع على التقاعد الاختياري المبكر.

التداين حلّ لا غنى عنه

أكد فتحي النوري، الأستاذ الجامعي بكلية العلوم الاقتصادية والتصرف بتونس/بجامعة المنار وعضو مجلس الإدارة بالبنك المركزي، أنّ حاجة البلاد في هذه الفترة إلى حزام اقتصادي أوكد من حاجتها إلى حزام سياسي، ومن أبجديات الحزام الاقتصادي حسب رأيه التشجيع على الادخار والاستثمار الخارجي والداخلي.

ودعا النوري إلى الكف عن ترذيل التداين فهو عملية اقتصادية لا غنى عنها، "فالعجز لا يرجع إلى التداين في ذاته إنما يعود إلى غياب السياسية الاقتصادية الحكيمة والإفراط في التعويل على ما سمّاه السياسة السياسوية"، مضيفًا أنّ "الاقتصاد عندو (عنده) مّاليه (أهله)".

فتحي النوري لـ"ألترا تونس": اتهام البنك المركزي يعود إلى افتقار الخطاب للعمق وإلى دوافع سياسية لا تمت بصلة للقراءة العلمية الموضوعية

ولم يخف دهشته من قلق بعض النواب من التوجّه إلى صندوق النقد الدولي والحال أنّ لا ملجأ أفضل منه حاليًا، ومن المفارقات التي نبه إليها النوري توجيه الاتهام إلى البنك المركزي، والحال أن هذه المؤسسة الوطنية تستند في اتخاذ قراراتها إلى من مجلس نواب الشعب.

وأرجع هذا الأمر، وفق تصريح أدلى به لـ"ألترا تونس"، إلى افتقار الخطاب إلى العمق وإلى دوافع سياسيّة لا تمت بصلة إلى القراءة العلمية الموضوعية للوضع الاقتصادي.

الثورة والمديونية

عاب حمادي الفهري، الأستاذ الجامعي بالمعهد الأعلى للدراسات التجارية بقرطاج، على بعض الباحثين تعمدهم وصل الأزمة الاقتصادية بالثورة. وإجابة عن سؤال "ألترا تونس"، أرجع المشكلة في جانب منها إلى الضغط الذي تمارسه أطراف تعمد إلى تعطيل الإصلاحات الاقتصادية حينما تكون غير مناسبة لمصالحها، فمعلوم حسب رأيه أن كل تحوّل اقتصادي وسياسيّ يفرز بالضرورة فئة مستفيدة وأخرى متضررة.

وردًا على سؤال "ألترا تونس"، أكّد الفهري العلاقة الوثيقة بين السياسي والاقتصادي، مضيفًا أن الأول يمكن أن يكون سندًا محفزًا كما يمكن أن يتحول إلى عامل تشويش وتعطيل أحيانًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

توزيع مادة "السداري".. الصندوق الأسود للفساد في قطاع تربية الماشية

بسبب الساتر الترابي.. فلاحون في بنقردان والذهيبة محرومون من أراضيهم