24-يناير-2020

هجر "السوق المركزية" أكثر من 80 تاجر وفق بلدية تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

السوق المركزيّة بالعاصمة ("المارشي سونترال") تسير نحو الزوال والتلاشي، لا تغرّنّكَ بعض الإصلاحات والترميمات، قيمة هذا المرفق التجاري، إذ تكمن في مدى إقبال المستهلك عليه، أمّا شروط استمراره وانتعاشته فهي مرتبطة بأحوال التجار مكسبًا وراحة واستقرارًا، وهو ما أجمع عليه الناشطون في هذا الفضاء، ولم ينكره العديد من المواطنين الذين تحدّث إليهم "ألترا تونس"، فيما بدت الأزمة، في المقابل، قابلة للمعالجة في أذهان عدد من المسؤولين.

السوق المركزيّة بالعاصمة تسير نحو الزوال والتلاشي، لا تغرّنّكَ بعض الإصلاحات والترميمات، إذ تكمن قيمة هذا المرفق التجاري في مدى إقبال المستهلك عليه، أمّا شروط استمراره فهي مرتبطة بأحوال التجار

رغم هذا الخطر الداهم، ظلّ الحديث عن السوق المركزية منحصرًا منذ سنوات حول تجاوزات بعض التجار وأسعار السلع وتوفر الخضر والغلال والأسماء أو ندرتها خاصّة في شهر رمضان، وقد تأخذ الأخبار والتقارير حيزًا أكثر إثارة عندما يحلّ ركب أحد الوزراء أو السياسيين.

اقرأ/ي أيضًا: الأسواق البلدية في "سوسة العتيقة".. صراع البقاء وفوضى الاستغلال

"الفاجعة التجارية"

من شروط الموضوعيّة في معالجة القضايا التركيز على ما يرقى إلى مستوى الظاهرة الحرجة الحارقة العاجلة، ولئن بدت المشاغل في السوق المركزية عديدة فإنّ "أزمة النصابة" (أصحاب المحلات) تبدو الأخطر والأشدّ استعصاء والأقرب إلى مرتبة الأزمة.

أزمة التجار (النصابة) داخل السوق المركزية لا تحتاج إلى مزمار أو تظلم يشبه النحيب والنواح على النحو الذي نشاهده في بعض برامج الواقع، فمن أي المداخل ولجت هذا الفضاء قصفتك صور الأروقة الفارغة والمحلات الشاغرة الموحشة، وقد تحول بعضها إلى دكاكين تجمّعت فيها الأوساخ وسكنتها القطط في مشهد يمكن نعته بـ"الفاجعة التجارية" بالنظر إلى منزلة هذا الفضاء الحيوي والتاريخي.

مساحات مهجورة داخل السوق المركزية (أحمد الزوابي/ألترا تونس)

 

عدد التجار الذين هجروا محلاتهم في السوق المركزية بلغ حولي الثمانين وهو رقم مفزع أكّده لـ"ألترا تونس" محمد بن عثمان رئيس مصلحة الدراسات الاقتصادية ومتابعة المؤسسات ببلدية تونس، فيما أفادنا بعض التجار عن أرقام أضخم تتخطّى المائة والعشرين.

وبصرف النظر عن هذا التباين، فإنّ الحقيقة التي لا تحتمل المزايدة مفادها أنّ السوق المركزية في العاصمة قد لفظت حوالي خُمس العالمين فيها ودفعتهم دفعًا نحو الرحيل، ذلك أنّ عدد النصابة في هذا الفضاء يبلغ حوالي 500 تاجرًا بين 320 بائع خضر وغلال و120 بائع سمك، و30 بائع "ملسوقة" و18 بائع زهور ومشاتل.

"الاسم العالي والمربط الخالي"

تحظى السوق المركزية بالعاصمة بثلاث مزايا، أولها قربها من محطات النقل العمومية، مما يجعل بلوغها أمرًا يسيرًا بالنسبة إلى عامة المستهلكين، وثانيها وجودها في محيط تجاري وإداري يتصف بحركية فائقة، فهي مفتوحة على أنهج "شارل ديغول" و"يوغسلافيا" و"أسبانيا" ولا يبعد عنها "سوق بومنديل" و"شارع الحبيب بورقيبة" و"ساحة برشلونة" إلا عشرات الأمتار، وتعتبر هذا المعطيات وفق المعايير الاقتصادية من المزايا والفضائل التي يتطلع إليها سائر التجار.

أحد مداخل "السوق المركزية" (أحمد الزوابي/ألترا تونس)

 

أمّا المزية الثالثة فهي رمزية اعتبارية، فالسوق المركزية ذات أصل تجاري وثقافي وذوقي عتيق أخّاذ جذّاب، فقد كانت وما تزال تسمى "فندق الغلة"، ما الذي خلف الكساد في هذا المكان الذي يتوسط المدينة العتيقة والفضاءات العصرية؟ ما الذي جعل حال السوق الأضخم في قلب العاصمة ينطبق عليه المثل التونسي "الاسم العالي والمربط الخالي"؟

أرجع التاجر والمستهلك والمسؤول تقلّص الإقبال على "السوق المركزية" لعدة أسباب منها ما يتصل بالمنتصبين فوضويًا في مداخل السوق وغياب مأوى للسيارات إضافة لفتح أسواق شعبية جديدة

يُجمع التجار الذين تحدّث إليهم "ألترا تونس " أن تخلّي زملائهم عن "مراكز عملهم" يرجع أساسًا إلى أسباب ماديّة، فقد تقلّص المردود بشكل منذر بالإفلاس، فعدد الوافدين على هذا السوق في تراجع مستمرّ، هذه الشهادات يمكن التحقق منها بيسر من خلال المعاينة. في المقابل، لم نلمس توافقًا حول تعليل هذه المحنة وتحديد علّاتها، لكن من الأسباب المستبعدة لدى جميع المتدخلين هي ارتفاع الأسعار وتراجع المقدرة الشرائية، فلو سلمنا بصحّة هذين العاملين لباتت المصيبة عامة في جميع الأسواق.

اقرأ/ي أيضًا: سوق الذهب في تونس.. كساد غير مسبوق وتجار المصوغ يستغيثون

وحرصًا على حصر الأسباب، استمتع "ألترا تونس" إلى ثلاثة أطراف التاجر والمستهلك والمسؤول، هؤلاء أرجعوا المعضلة إلى ثلاثة أسباب متضافرة، الأول يتّصل بالأسوار البشرية التي شكلها المنتصبون فوضويًا حول السوق عند أبوابه الأربعة وفي محيطه الخارجي عامّة، هؤلاء يمثلون مصدر إزعاج لما يحدثونه من هرج ومرج من جهة ولكثرة المطاردات والكر والفر بينهم وبين الشرطة البلدية من جهة أخرى، وهو ما يجعل "المستهلك النوعي" يتجنب الاقتراب من هذا المحيط، وقد تحققنا من ندرة لافتة خاصّة في عدد النساء المقبلات على هذه السوق، كما أكد لنا أحد التجار أن هذه الوضعية قد أفقدتهم فئة الحرفاء الأوفياء فلم يعد يأتيهم غير المارين مرورًا عابرًا.

الانتصاب الفوضوي أمام أحد أبواب "السوق المركزية" (أحمد الزوابي/ألترا تونس)

 

السبب الثاني الذي عدّه النصابة في "فندق الغلة" عاملًا منفرًا للمستهلكين هو افتقار هذا الفضاء التجاري لمأوى للسيارات مع وجود إشارات تمنع الوقوف في الأنهج المجاورة، وهو ما يجعل "الميسورين" يفضلون التسوق من الفضاءات الكبرى حيث تتوفر شروط الأمان والرفاهية.

والسبب الثالث عبر عنه أحد "الخضارة"، فقد أرجع حالة العزوف إلى كثرة الأوساخ والمياه الراكدة في بعض الأروقة، وقد ترجّانا أن ننقل الصورة دون تلميع، فالأمر بالنسبة إليه لا يعالج بحملات النظافة من حين إلى آخر، إنما يقتضي التزامًا يوميًا بهذا المطلب الصحي.

المياه الراكدة في "السوق المركزية" (أحمد الزوابي/ألترا تونس)

 

ولئن أظهر النصابة تملصًا من مسؤولية ما حل بالسوق من ضعف الوافدين عليه، فإنّ عددًا من المستهلكين قد حملوا هؤلاء المتظلمين المسؤولية، وهو ما يتضح في السبب الرابع، فقد صرّح الحريف لطفي لـ"ألترا تونس" بأنّ عزوفه عن هذا السوق يرجع إلى ما يتصف به العديد من النصابة من التعالي في التعامل مع الحريف، فهم يمنعون "الفرز" على النحو الجاري به العمل في الأسواق الأسبوعية، كما يتفننون في التحيل من خلال إظهار "وجه السوق" من الخضر والغلال، وحالما يعود إلى البيت يتفطّن أحيانًا إلى أن نصف المشتريات أو يزيد قد تسربت إليها قطع من الخضر أو الغلال متعفنة أو غير ناضجة، وفق تأكيده.

محمد بن عثمان (بلدية تونس): من المقترحات إحداث مأوى للسيارات وتركيز مشرب لائق وتعمير الأماكن الشاغرة بمحلات لبيع المواد البيولوجية 

السبب الخامس المتسبب في ضعف الإقبال على فندق الغلة كشف عنه لـ"ألترا تونس" رئيس مصلحة الدراسات الاقتصادية ومتابعة المؤسسات ببلدية تونس محمد بن عثمان والذي رجّح أن يكون الأمر راجعًا إلى فتح أسواق شعبية جديدة منها سوق الوردية سنة 2019، وسوق الملاسين في نهاية 2019 وسوق "سيدي سريدك" بالحفصية.

من جهة أخرى، أكد بن عثمان أنّ البلدية منكبة على البحث عن السبل الأمثل لتحسين أوضاع "النصابة"، ومن المقترحات التي تحرص سلطة الإشراف على النظر فيها في أقرب الآجال إحداث مأوى للسيارات لتسهيل وقوف الحرفاء وتركيز مشرب/ مقهى لائق في إحدى مداخل السوق، كما تعتزم البلدية النظر في إمكانية تعمير الأماكن الشاغرة بمحلات لبيع المواد البيولوجية وغيرها من البضائع التي يحتاجها المستهلك، وذلك وفق تصور متناسق ومناسب للفضاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثقافة المقاطعة لدى التونسي.. هل غلبتها ثقافة الاستهلاك؟

"عساس الليل".. تراجيديات تحت القمر