22-فبراير-2021

في معركة كسر العظام المتواصلة منذ زهاء شهر، يبدو واضحًا من يسهل التضحية به (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

مقال رأي

 

تتالت الأحداث خلال الأسبوع الأخير في تونس، البلد الذي يعيش على وقع أزمة سياسية حادة، تلت تعديلاً حكوميًا قام به رئيس الحكومة وصادق عليه البرلمان فيما يرفض رئيس الجمهورية تأدية الوزراء الجدد اليمين الدستورية.

في 26 من فيفري/شباط الجاري، يكون قد مر شهر منذ المصادقة على التعديل الحكومي في البرلمان، دون أن يستلم الوزراء الجدد مناصبهم. بدا الأمر في البداية أقرب إلى المأزق الدستوري، وتعددت المحاولات للخروج منه عبر فصل من فصول الدستور أو موقف هيئة من الهيئات الحريصة على حسن تطبيقه، لكن وفي غياب المحكمة الدستورية، التي لم تُنصب بعد، بدا أن مواصلة اجترار المسائل القانونية لا يساهم إلا في مزيد إضاعة الوقت.

اقرأ/ي أيضًا: جلسة منح الثقة للوزراء الجدد.. مأزق المشيشي

تسلسل الأحداث خلال الأسابيع الأخيرة كان التالي، عدم إقرار في البداية بوجود أي أزمة ومحاولة تجاهلها والذهاب إلى كون التعديل الوزاري يُمكن أن يمر، وفق الدستور ودون قلق، حتى رغم رفض رئيس الجمهورية قيس سعيّد تغيير الوزراء المحسوبين عليه.

كان الائتلاف الحاكم يتصوّر أنه بالإمكان وضع سعيّد ومن يشاركه المواقف أمام الأمر الواقع، تلى ذلك إقرار بوجود أزمة، حاولوا توجيهها نحو المنحى الدستوري، وبفشله صار الإقرار جليًا بأنها سياسية بحتة

كان الائتلاف الحاكم يتصوّر أنه بالإمكان وضع سعيّد ومن يشاركه المواقف أمام الأمر الواقع، تلى ذلك إقرار بوجود أزمة، حاولوا توجيهها لفترة نحو المنحى الدستوري، وبفشله صار الإقرار جليًا بأنها أزمة سياسية وانطلق حينها البحث من جديد عن توافقات وحوارات ولقاءات.

هكذا، لم يبق أمام الفاعلين في المشهد السياسي التونسي، حتى من ابتعد منهم عن الساحة منذ فترة، إلا أن يتحركوا في اتجاه الدفع نحو حل سياسي، طبعًا كل طرف وفق مصلحته ورؤيته.

آخر المبادرات كانت قد صدرت، السبت 20 فيفري/ شباط الجاري، عن رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي وجه مراسلة إلى رئيس الجمهورية مقترحاً عقد لقاء يجمع الرئاسات الثلاث في أقرب الآجال وداعيًا الرئيس "باعتباره رمز وحدة الدولة إلى تجميع الفرقاء لإيجاد مخرج ومجموعة من الحلول عبر تغليب الحوار"، كما ورد في بلاغ لرئيس البرلمان.

لم ترد رئاسة الجمهورية على هذه المبادرة إلى تاريخ كتابة ونشر هذا المقال. ولا يُرجح أنها ستجد تجاوبًا إيجابيًا من قبلها، وفق ما يتضح من مواقف سعيّد تجاه الغنوشي وحزبه والائتلاف الحاكم بشكل عام، فالخلافات أعمق من مجرد تعديل وزاري.

لا يُرجح أن مبادرة الغنوشي للحل ستجد تجاوبًا إيجابيًا من سعيّد، فالخلافات بين الرجلين أعمق من مجرد تعديل وزاري

في ذات السياق، وخلال الأسبوع الأخير، كثف عميد المحامين مساعيه لإعادة إحياء ما كان يُعرف بـ"الرباعي الراعي للحوار الوطني" سنة 2013 (الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية "منظمة الأعراف"، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين) من أجل مبادرة حوار جديدة، يقول بودربالة إنها قد تكون قادرة على إخراج البلاد من أزمتها الراهنة.

ووفق ذات التوجه، كان أمين عام حركة الشعب (معارضة لحكومة المشيشي) قد صرح منذ أيام، لصحيفة المغرب التونسية أن من بين الحلول الممكنة للأزمة "حكومة جديدة منبثقة عن حوار وطني بقيادة اتحاد الشغل".

خلال أسبوع، الكل قابل الكل تقريبًا. رئيس منظمة الأعراف، إحدى مكونات الرباعي الراعي لحوار 2013، قابل رئيسي الحكومة والجمهورية ولا يبدو أن اللقاءات خلصت إلى أي جديد على مستوى الأزمة الراهنة. وطرف آخر من الرباعي وهو اتحاد الشغل، قد التقى أمينه العام منتصف الأسبوع الماضي وفدًا عن أحزاب وشخصيات سياسية معارضة لحكومة المشيشي.

اقرأ/ي أيضًا: عن طوفان الشعبوية في تونس..

في مقابل "الكل الذي قابل الكل"، الطرفان الرئيسيان في الأزمة أي قيس سعيّد وهشام المشيشي لم يلتقيا، رغم تأكيد الأخير في وقت سابق أنه طلب مقابلة رئيس الجمهورية. هكذا تُدار السياسة اليوم في تونس، عبر الوساطة بين رأسي السلطة التنفيذية. تمر هذه الوساطة من خلال جمعيات، منظمات، شخصيات، رسائل متبادلة علنية أو أحزاب أو ربما غير ذلك أيضًا.

تُدار السياسة اليوم في تونس عبر الوساطة بين رأسي السلطة التنفيذية دون أن يلتقيا مباشرة، تمر الوساطة من خلال منظمات، شخصيات، رسائل متبادلة علنية أو أحزاب أو ربما غير ذلك أيضًا

ورغم تعدد اللقاءات والمشاورات، ما أعلن عنها وما خفي أيضًا، يبدو أن لاتحاد الشغل ومن يلتف حوله من منظمات وطنية (سواء الرباعي السابق الذي قاد حوار 2013 أو ما يروج عنه من التحاق منظمات أخرى كاتحاد المرأة واتحاد الفلاحين وغيرها)، الحظوة الأكبر للوصول إلى مخرج على الأقل للأزمة الراهنة الخاصة باليمين الدستورية. هنا طبعاً نتحدث في إطار فرضية أن يكون الجميع راغبًا في الحل ومستعدًا لتقديم تنازلات والدخول في اتفاقات، مع ضغط وتوجيه من الراعين للحوار أو للمبادرة بشكل عام.

لكن يجدر بنا التوضيح أيضًا أن مبادرة الاتحاد الأولى، والتي قدمها بمفرده إلى رئيس الجمهورية في موفى نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كانت تحمل خطة شاملة وتصورًا للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لكن الرئيس تردد كثيرًا حينها وحتى عند إعلانه دعمها نهاية العام الماضي، فقد أوضح في بيان للرئاسة أن التصور سيكون مختلفًا عن حوار 2013 من حيث المحتوى والمتدخلين.

رؤية الاتحاد حينها كانت تتجاوز الراهن لحل الأزمة بشكل عام والدخول في تفاصيلها بما في ذلك حتى النظر في إمكانية تعديل القانون الانتخابي والنظام السياسي أيضًا. لكن وبعد جدل التعديل الحكومي واليمين الدستورية، صار السياق الراهن الأساس وتجاوزه هو الغاية الأولى.

الآن، حول أي رؤية يمكن أن تتبلور مبادرة اتحاد الشغل والمنظمات الداعمة له اليوم ووفق المعطيات المتوفرة والسياق الحالي؟ من البديهي أن نجاح المبادرة يتطلب رضا عدد من الأطراف الفاعلة والمؤثرة وهي حاليًا في المشهد السياسي التونسي: رئيس الجمهورية قيس سعيّد ومن يدعمه ويشاطره التوجه من أحزاب في المعارضة في البرلمان، خاصة التيار الديمقراطي وحركة الشعب (يمكن اعتبار الرئيس قائدًا للمعارضة حاليًا في البلاد وإن لم يعبر عن هذا علنية لكن هذا ما تكشفه مواقفه وهي مفارقة تونسية لافتة)، ورئيس الحكومة هشام المشيشي ومن يدعمه من ائتلاف حكومي وبالأساس حزبي النهضة وقلب تونس.

ومن البديهي أيضًا أن لا سيناريو أو مبادرة يمكن أن تجمع حولها الأطراف المذكورة سابقًا وهي المتصارعة ويخرج من خلالها الجميع منتصرًا، ستكون مهمة اتحاد الشغل ومن معه صعبة للضغط من أجل الحصول على تنازلات ستشمل الجميع ضرورة من أجل الحل المرجو.

من البديهي أن لا مبادرة يمكن أن تجمع حولها الأطراف المتصارعة ويخرج من خلالها الجميع منتصرًا، ستكون مهمة اتحاد الشغل ومن معه صعبة للضغط من أجل الحصول على تنازلات ستشمل الجميع ضرورة

يصعب التكهن بالسيناريو الممكن في قادم الأيام لكن يمكن الخروج ببعض الملاحظات. فمن السيناريوهات شبه المستحيلة، تقديم المشيشي استقالته لرئيس الجمهورية، وهو ما قام به خلفه إلياس الفخفاخ. يصعب الذهاب لهذا الحل حتى لو وقع الضغط على المشيشي من الأحزاب الداعمة له في إطار صفقة ما.

لم يُبد المشيشي منذ انطلاق أزمة اليمين الدستورية أي لين أو تراخ، الرجل يؤكد إلى اليوم أنه لا يعرف الوزراء محل الشبهات ولم تصله من رئاسة الجمهورية قائمة واضحة بالأسماء، ويصر على أن الحكم على الأشخاص يكون عبر القضاء وليس عبر ما يُشاع ويُتداول، وقد تلقى "إهانات" عديدة من رئاسة الجمهورية والأحزاب الداعمة لها  وهو ما يُوحي أن أسوأ الفرضيات للمشيشي هو التوجه للبرلمان لطلب تجديد الثقة له، وفي هذه الحالة سيُفصل الأمر وفق التحالفات التي ستعقد، إما بتثبيته أو التخلي عنه وعن حكومته كما حصل سابقاً مع رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد، لكن استقالته ببساطة أو بضغط ما غير مرجحة.

بقيت فرضيات عدة ومنها أن يتوجه المشيشي إلى البرلمان لطلب تجديد الثقة، ويكون الأمر بيد البرلمان إما عبر تجديد الثقة له أو سحبها أو تقديم عدد من النواب للائحة سحب ثقة من رئيس الحكومة أو يطلب سعيّد من البرلمان تجديد ثقته من عدمها في رئيس الحكومة. ولنجاح أي سيناريو من المذكور أعلاه، على الأطراف المبادرة به عقد تحالفات وصفقات تضمن أن يخرج مختلف الأطراف بمكسب ما.

اقرأ/ي أيضًا: 10 سنوات على الثورة.. حتى لا يبقى "المصعد" معطّلًا

يحق التساؤل هنا هل يمكن أن يعتبر إعفاء المشيشي للوزراء الذين يُشتبه أنهم محل الخلاف حلًا ولو ظرفيًا؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك، فأزمة الثقة بين رأسي السلطة التنفيذية في أعلى مستوياتها. كانت رسالة سعيّد للمشيشي الأخيرة "قاسية"، وفي معركة كسر العظام، وأمام شخصية منتخبة من الشعب وأخرى معيّنة، يبدو واضحًا من يسهل التضحية به.

في معركة كسر العظام، وأمام شخصية منتخبة من الشعب وأخرى معيّنة، يبدو واضحًا من يسهل التضحية به

لكن مقابل التضحية بالمشيشي مثلًا، أي استفادة ستكون لحركة النهضة؟ هل سيكون حينها من المطروح سحب الثقة من رئيسها كما تُهدد المعارضة وعلى رأسها حزبي الدستوري الحر والتيار الديمقراطي بينما يتم التفاوض للحصول على دعمها من أجل التخلي عن المشيشي؟ وفي حال لم يُوفق هذا المسار التفاوضي كيف يمكن إجبار المشيشي على المغادرة (والذي يبدو مطلبًا ملحًا غير معلن للرئيس) بينما تملك النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة عددًا من النواب يسمح له بالمواصلة وتجديد الثقة في حكومته عبر البرلمان؟

منطقيًا يجب أن تجلب مبادرة الاتحاد وشركائه في هذه الحالة اتفاقاً أيضًا حول اسم رئيس الحكومة الجديد وحكومته، لكن وفق أي حسابات ومصالح سيتم ذلك؟ هل يمكن عقد اتفاق من جديد بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان بعد ما بدا واضحًا من تدهور العلاقة خاصة من جانب قيس سعيّد؟ هل يمكن أن تتوقف النيران المتبادلة بين النهضة والتيار الديمقراطي ووفق أي اتفاق؟ في حال فقدت النهضة دعم حليفها قلب تونس، من يؤكد لها أن لا يتم سحب الثقة من رئيس البرلمان بعد التضحية بحكومة المشيشي وبدء الحكومة الجديدة مهامها؟.. إجابات عن كل هذه الأسئلة يجب أن تُضمن في الاتفاق/ الحل/ المبادرة.

لا شيء محسوم إلى الآن، ما يمكن تأكيده هو ضرورة التنازل والتفاوض وعقد الاتفاقات من الجميع، ما يبدو أكيدًا أن تغيير المشيشي وحكومته، إن تم الاتفاق حوله، فهو ليس إلا حلًا ظرفيًا فالأزمة الأساسية هي أزمة ثقة بين رأسي السلطة التنفيذية وهي عسر وتعطيل في العمل على مستوى البرلمان، وبالتالي فإن أي مبادرة متكاملة من الأطراف المتفاوضة وعلى رأسها اتحاد الشغل يجب أن تنظر من الآن لما بعد المشيشي وإلى خلق مناخ يسمح بتوفير حد من التوافقات في إطار القانون والدستور. ما عدا ذلك وفي حال تواصل التمترس فالبلد مفتوح على المجهول كما لم يكن يومًا في تاريخه الحديث وكل السيناريوهات حتى أكثرها قتامة قد تكون واقعًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حكومة الـ144 هي حكومة السيستام

المشيشي وتحويره: من وسادة القصر إلى وسادة البرلمان