مقال رأي
كان أول بيان تهنئة لتمرير التحوير الحكومي لـ11 وزيرًا (بأصوات تراوحت بين 144 و118) يوم الثلاثاء 26 جانفي/ يناير 2021 ليس للأحزاب المكونة للحزام السياسي للحكومة بل من قبل منظمة مهنية هي "الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة" (الأوتيكا).
ليس الأمر مصادفة إذ أن عددًا من التعيينات المهمة في التركيبة الجديدة تعود بالنظر إلى شبكة علاقات تتبع "الأوتيكا"، هم أيضًا يتقاطعون مع عدد من ترشيحات حزب "قلب تونس"، الذي أصبح عمليًا الحزب الأكثر تمثيلاً في الحكومة بحوالي أربعة وزراء على الأقل. في حين تم قبول مرشح واحد عن "النهضة" (الحزب الأغلبي)، وذلك بعكس الحجة التي رددتها الأغلبية البرلمانية حول أن تكون الحكومة ممثلة تراتبيًا للترتيب البرلماني.
الحكومة الحالية، أساسًا، تقاطع مصلحي لكتل حزبية لا يجمعها برنامج لكن خصومة مع الرئاسة، والأهم ترسيخ لنفوذ "الاستبليشمانت" الاقتصادي في البلاد ومالكي منظومة الريع
لكن الحكومة الحالية، أساسًا، تقاطع مصلحي لكتل حزبية لا يجمعها برنامج لكن خصومة مع الرئاسة، والأهم ترسيخ لنفوذ لا يتعلق بمجرد منظمة مهنية، بل بـ"الاستبليشمانت" الاقتصادي في البلاد (establishment)، ومالكي منظومة الريع.
اقرأ/ي أيضًا: عائلات الريع.. المستفيد الأول من الاستقطاب الثنائي
لنبدأ بالتدريج، عمليًا ووفق المعطيات، تم الانتقال من حكومة إلياس الفخفاخ التي مثلت تراتبيًا الأحجام البرلمانية (مثلاً النهضة ممثلة بسبعة وزراء على الأقل) إلى حكومة تقبل فيها النهضة بقبول مرشح واحد فقط عنها "مستقل" (أسامة الخريجي وزير الفلاحة).
في المقابل، لحزب "قلب تونس" على الأقل 4 وزارات، إذ رشح للمشيشي في التحوير الراهن الوزراء: الطاقة (سفيان بن تونس)، الشباب والرياضة (زكرياء بلخوجة)، الصحة (هادي خيري)، وأملاك الدولة (عبد اللطيف الميساوي). ويبدو أن وزير التشغيل يوسف فنيرة أقرب لقلب تونس منه للنهضة حسب مصادري (رغم أن سيدة الونيسي، وزيرة التشغيل السابقة، من حزب النهضة، هي التي عينته مدير عامًا في إحدى مؤسسات الوزارة سابقًا). وبالمناسبة، هؤلاء هم الوزراء تقريبًا الذين تتعلق بهم ملفات شبهات فساد حسب جمعيات مكافحة فساد ذات مصداقية مثل "أنا يقظ".
الوزراء المقربون من قلب تونس هم تقريبًا الوزراء الذين تتعلق بهم ملفات شبهات فساد حسب جمعيات ذات مصداقية مثل "أنا يقظ"
لماذا تقبل حركة النهضة بوضع كهذا؟ أي الانتقال من 7 وزراء إلى وزير واحد؟ الإجابة مزدوجة. من جهة، رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، وهو الذي قاد مسار الموافقة على هذا التوجه، يبدو مهتمًا أساسًا بالحفاظ على موقعه كرئيس برلمان ومستعد مقابل ذلك على القبول بكل الترضيات الممكنة لمن يمتلكون مفاتيح منع تمرير لائحة سحب الثقة منه في البرلمان.
وكان التمرين الماضي الذي حصل في الصيف السابق خلال محاولة سحب الثقة منه في البرلمان، مناسبة لإثبات الوضع المحوري لكتلة "قلب تونس" في الحفاظ على كرسي رئاسة البرلمان لشيخ النهضة. هذا الوضع أصبح أكثر إلحاحًا لأن الغنوشي سيفقد موقعه في رئاسة الحركة، وبالتالي لم يبق له من وضع مناسب إلا الحفاظ على كرسي رئاسة البرلمان، والذي هو عمليًا الطريق الوحيد الواقعي لوصوله إلى رئاسة الجمهورية، إذا تم عزل الرئيس الحالي قيس سعيّد، لكن ذلك أمر سابق لأوانه إذ يستوجب قبل ذلك إحداث المحكمة الدستورية.
في هذه المعادلة، ليست فقط كتلة "قلب تونس" مهمة، (معادلة "145" اللازمة لعزل قيس سعيّد في مرحلة لاحقة)، بل طيف واسع يصل إلى حوالي 50 نائبًا في البرلمان يتمسكون بمفاصل القرار في كتل مختلفة، هي شبكة متوزعة من منتمين سابقًا لـ"طلبة التجمع" والذين يحافظون عمليًا على درجة عالية من التنسيق ويسعون لتشكيل كتلة وازنة في مقابل منافستهم على "الريع التجمعي" عبير موسي.
الأهم من التعبيرات السياسية هو الأصل المصلحي الاقتصادي الذين يعبرون عنه. من الواضح الآن أن كتلة قلب تونس تحوّلت إلى إحدى أهم واجهات منطقة مركزة من المصالح. لنتمعن في التعيينات في الحكومة خاصة في الحقائب الاقتصادية، في التحوير الجديد إضافة إلى التركيبة الأصلية لحكومة المشيشي:
- سفيان بن تونس وزير الطاقة كان مديرًا لجنرال إلكتريك في الشرق الأوسط ومقرب من أوساط تشتغل على ملف الطاقة في أوساط الأعمال
- رضا بن مصباح وزير الصناعة من المعروف قربه من أوساط الأوتيكا، وتم ترشيحه في التحوير الأخير من قبل أوساط قريبة منها
- زكرياء بلخوجة وزير الرياضة وهو مسؤول كبير في مؤسسة "Meninx Holding" التي تتبع مجموعة عائلة تامارزيست وهي إحدى أكبر عائلات الريع في تونس
- يضاف إليهم علي الكعلي الذي بقي في وزارة المالية والاستثمار الدولي وهو رئيس بنك خاصة ويمثل مصالح "الجمعية المهنية للبنوك"، والتي تمثل العصب الأساسي ورأس منظومة الريع.
من الواضح الآن أن كتلة قلب تونس تحوّلت إلى إحدى أهم واجهات منطقة مركزة من المصالح
للتذكير هنا أن أشهرًا قليلة قبل انتخابات 2019، وعندما بدا واضحًا في الاستطلاعات تقدم نبيل القروي، وتحديدًا يوم 2 جويلية/ يوليو، تم الإعلان على انضمام مجموعة شخصيات من بينها رجال أعمال وممثلين لشركات من حزب قلب تونس. وكان من بينهم سفيان بن تونس، ولكن أيضاً لمياء الفوراتي (ممثلة مجموعة السلامي الاقتصادية). كان هناك حينها توقع لتقدم نبيل القروي وقلب تونس في الرئاسية والتشريعية وتبني أطراف اقتصادية استباقيًا لهذا البديل.
نحن بصدد تحوّل نوعي عن مخرجات انتخابات 2019 التي مثل فيها فوز قيس سعيّد على القروي تعبيرًا عن هزيمة هذه الأوساط. إسقاط حكومة الفخفاخ وتحويل وجهة المشيشي بالتعاون مع حركة النهضة وبالتنسيق مع قلب تونس استطاع إعادة ترتيب الأوراق ولو إلى حين، وليس من المبالغة أن نتوقع أن النقلة القادمة في رقعة الشطرنج هذه، خاصة بتحريض بعض الأطراف الدولية، هو قيس سعيد بعد لمسه للخط المحرّم المتعلق بالتطبيع.
هل يمكن أن يسمى هذا "انتصارًا"؟ نعم هو انتصار "السيستام" على مصالح فئات شعبية ستتضرر أكثر فأكثر بترسيخ منظومة الريع في البلاد، وانتصار على إمكانية إصلاح الوضع جذريًا. هل قيس سعيّد مسؤول عما يحصل وإن كان ما يفعله صحيحًا؟ نعم وذلك بتعيينه هشام المشيشي كرئيس حكومة مثلاً. هل يعني ذلك "انتصار الديمقراطية ضد العبث"؟ نعم إذا كان المقصود بالديمقراطية نظامًا انتخابويًا يخدم مصالح الأوليغارشية.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: