17-ديسمبر-2020

كم كانت انتظاراتنا كبيرة وكم تراجعت اليوم إلى ما كان قد يثير السخرية لو قيل ذات جانفي/يناير 2011؟ (كريستوفر فيرلونغ/ Getty)

 

مقال رأي

 

"وقد يزهر الورد بعد أوانه.. لا تيأسوا"

 

تبدو فكرة الحديث عن الثورة، بعد كل هذه السنوات، مؤرقة ومتعبة بالنسبة لي. أنا التي آمنت بها وبقيمها منذ البداية. كتبت عنها لسنوات تدوينًا حرًا داعية للغضب والاحتجاج ومتمسكة بأدق تفاصيلها، وكتبت عنها بحكم العمل الصحفي، في الصحافة المكتوبة والإكترونية إضافة إلى عديد النصوص التلفزية والبرامج والتحقيقات وغيرها الكثير بما أعتقده من مهنية وإيمان بالصحافة ودورها في النقد والمحاججة وكشف الحقائق والتغيير. 

وهأنذا اليوم، بعد عقد، وقد "هزتني" الثورة مرات ومرات وغيّرت الكثير داخلي وفي دواخل الكثيرين من أبناء جيلي غالبًا، وخلال سنواتها بكل أفراحها وأحزانها، لم أكن يوميًا قلقة بشأنها كالحال اليوم.

حَملت الثورة وما مرت به من أطوار وأقوال دروسًا لا تحصى، أكاد أجزم أن الثورة جعلتنا أوسع خبرة وأكثر حسرة وقلقًا أيضًا

في عيدها العاشر ما تحقق واضح على قلته وما لم يتحقق على كثرته واضح أيضًا. لا جدال هنا ولا فوائد تذكر من الإعادة. شخصيًا، حَملت الثورة وما مرت به من أطوار وأقوال دروسًا لا تحصى بالنسبة لي. أكاد أجزم أن الثورة جعلتنا أوسع خبرة وأكثر حسرة وقلقًا أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: أفيون الثورة التونسية

فلماذا أكتب عنها؟ ولكن هل يمكن أن لا أكتب عنها وهي في ربيعها العاشر؟ هذا الربيع، الذي خطف منذ أيام روح طبيب شاب بسبب مصعد معطّل، "مصعد" يعكس بنية تحتية متهالكة وفسادًا منتشرًا وممتدًا وانقسامًا مجتمعيًا متزايدًا؟ أكتب وسأواصل الكتابة لسبب وحيد.. وهو أن لا يبقى "المصعد" معطلاً.

المصعد بمعناه المجازي، المصعد بما هو تعبير عن حال البلد ماديًا وحال أهلها معنويًا، لكن هل لا يزال هناك أمل؟ هل تأخرنا؟ ما أعرفه هو أن التونسي تلميذًا يحب مراجعة دروسه "ليلة صلالة" وعاملًا يهوى تأخير عمل اليوم إلى الغد ومسؤولًا عن أسرة يتفنن في تأجيل معظم مواعيده. طالما اعتبر والدي أن التونسي "يحب الدزان والزحمة والدقيقة تسعين"، وأنا أصدق ما يقوله والدي، ولذلك واقتداء برأيه وبناء عليه، سيهب التونسي في آخر لحظة لإنقاذ الثورة الجميلة وهي لا تزال في ربيعها.. هذا ما لا أزال أؤمن به.

فكرة أن "الشرق لا يحكم إلا من مستبد عادل" لا أراها قابلة للتحقق حتى في هذا السياق التونسي الذي يغلب عليه التشاؤم

هل أجزم أني أعرف الحل؟ لن أقول ما حدّث به وزير سابق منذ فترة وجيزة عن أن "الحل في تصحاحة" لكن قد لا يكون الحل مضنيًا وشبه مستحيل كما نتصور أو صُور لنا. هناك مبادرات عدة على الساحة التونسية اليوم لمغادرة الأزمة الواضحة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، مصادرها متباينة وأفكارها كذلك وإن تقاربت في بعض المسائل والخيارات. يذهب بعض هذه المبادرات إلى حلول قصووية قد تبدو أقرب لمغامرة مجهولة العواقب أو للانقلاب كما يحلو للبعض التحذير والاستنجاد.

فكرة أن "الشرق لا يحكم إلا من مستبد عادل" لا أراها قابلة للتحقق حتى في هذا السياق التونسي الذي يغلب عليه التشاؤم خاصة بالنظر إلى ارتباطات البلد خارجيًا ورفض جزء واسع من الشعب التخلي عن خيار الحرية والنهج الديمقراطي قولاً وفعلاً.

اقرأ/ي أيضًا: بورتريه: لذّة الثورة التي لا تنتهي..

أشك أن أحدًا يعرف ما يمكن تسميته "الحل" اليوم لأزمات تونس المتعددة، حتى أكثرهم معرفة بالتفاصيل والملفات والأرقام وخفايا الكواليس، وربما يفسر تعدد المبادرات الهادفة للخروج من الأزمة وتناقضها أحياناً دليلًا جزئيًا على ذلك، إضافة إلى تنوع مصالح كل طرف وحساباته وخلفياته.

أقترح أن "نسير خطوة للخلف جميعًا ثم خطوتين للأمام"، ما أقصده هو أن نتحرك لنلتقي بتضحية وعقلانية غايتها الوحيدة مصلحة الوطن، جميعًا الأخيار والأشرار

كم كان سهلاً إطلاق العنان للأحلام إبان اندلاع الثورة، كم كان الحلم والقول سهلاً، كم يصعب اليوم تجميع الناس حول فكرة واحدة وهدف واحد، كم فرقهم الحُكم رغم عقود الألفة في المعارضة زمن بن علي وحتى في زمن بورقيبة، كم يسهل تصدير الشعارات وكم يصعب التمسك بها عند الشدائد، كم كانت انتظاراتنا كبيرة وكم تراجعت اليوم إلى ما كان قد يثير السخرية لو قيل ذات جانفي/يناير 2011؟ كم تغيرنا.. وكم غيرتنا الثورة.

بالنظر إلى كوني لا أعرف الحل كما حال معظمكم لكني لم أركن بعد للربوة فأنا أقترح أن "نسير خطوة للخلف جميعًا ثم خطوتين للأمام". ما أقصده هو أن نتحرك، في اتجاه بعضنا البعض، لنلتقي بتضحية وعقلانية غايتها الوحيدة مصلحة الوطن، جميعًا الأخيار والأشرار، ما دمنا جميعنا لا نرى الخير إلا في أنفسنا، فالوطن سيتحرك بالجميع. الوضع سيء يا صديقـ(تـ)ي وجنوني جدًا لدرجة أن السير خطوة إلى الخلف وخطوتين للأمام قد يكون رفاهية يصعب الحلم بها في زمن قريب قادم. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يمكن صناعة الثورة والحركات الاجتماعيّة مخابراتيًا؟

عقد على ثورة "الكرامة" بتونس: حلم ينتظر التحقيق