مقال رأي
"الرجل يعتبر جسده كائنًا مستقلًا يتّصل مع العالم اتصالًا خاضعًا لإرادته هو، بينما يعتبر جسد المرأة حافلًا بقيود تعرقل حركة صاحبته، ألم يقل أفلاطون "الأنثى هي أنثى بسبب نقص بالصفات"، الإنسانية في عرف الرجل شيء مذكر، فهو يمثل الجنس الإنساني، أما المرأة فهي الجنس الآخر"، عبارة حاولت من خلالها الكاتبة والمفكرة الفرنسية سيمون دوبوفوار - منذ حوالي 7 عقود – تقديم صورة مبسّطة لواقع المرأة في العالم وللهيمنة الذكورية في كلّ المجتمعات.
ولئن شهد العالم خلال السنوات السبعين الأخيرة تطورات عديدة في مختلف المجالات، إلا أن المرأة ورغم المكتسبات التي تمكنت من نيلها مازالت تعيش تحت وطأة المجتمع الذكوري خصوصًا في العالم العربي، والذي ليست النساء التونسيات في منأى عنه.
اقرأ/ي أيضًا: ثقافة "اللهفة" في تونس
الذكورية المنغمسة في المجتمع التونسي لا تفوّت على نفسها فرصة للتكشير عن أنيابها
ولئن سجّلت البلاد التونسية في رصيدها مجموعة من القوانين التي يُفترض أنها تحمي حقوق المرأة، على غرار مجلة الأحوال الشخصية التي تعود إلى سنة 1956، وقانون مناهضة كلّ أشكال العنف ضدّ المرأة الصادر سنة 2017، إلا أن الواقع يعكس صورة مغايرة بعيدة عمّا تصوّره هذه القوانين التي لا تزال في عديد المواقع حبرًا على ورق.
فالذكورية المنغمسة في المجتمع التونسي لا تفوّت على نفسها فرصة للتكشير عن أنيابها والكشف عن وجهها الحقيقي، فهي تختبئ في تفاصيل يومية وفي عبارات يردّدها التونسيون نساء ورجالًا، ربما عن وعي أو عن جهل منهم بخطورتها.
والذكورية التونسية المقيتة تتجلّى في التعليقات التي تنتشر سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو بين المقاهي التي تغزو الشوارع أو في الأنهج الضيقة وحتى المنازل المغلقة، عند كلّ حادثة اعتداء أو تحرّش أو اغتصاب تتعرّض له فتاة أو سيدة. فردّة الفعل الأولى عند سماع هذا النوع من الأخبار يتوجه مباشرة إلى اتهام المرأة، فيتساءل عن الثياب التي كانت ترتديها، ويشكّك في تصرّفاتها، وقد يتهمها بالعهر والفجور وإغراء الرجل.
أما إذا حاولت الدفاع عن نفسها، تصبح متهمة فعلية ويصبح المعتدي ضحية، فصوت المرأة عورة، ودفاعها عن حقها عورة، وتشهيرها بمعنّفها أو مغتصبها أو المتحرّش عورة. والمجتمع له من القدرة العجيبة على التغاضي على كلّ أنواع الجرائم التي قد تتعرّض لها المرأة بتعلّة "السترة" و"العيب" و"العار".
اللافت هو تصاعد موجة العنف المسلّط على المرأة بالتزامن مع ما يُعرف بموجة "الفراريزم"
ولئن تعدّدت الحوادث التي كشف فيها السواد الأعظم من التونسيين عن "ذكوريتهم"، فقد شاءت الأقدار أن تتزامن المسيرات التي دعت إليها القوى المدنية والاجتماعية في تونس ضدّ العنف المسلّط على النساء في إطار الحملة الدولية ضدّ العنف، والتي تمتدّ من 25 نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 10 ديسمبر/ كانون الأول، مع حادثتين بارزتين مثّلتا دليلًا إضافيًا يثبت انغماس المجتمع التونسي في البطريركية.
وتتمثل الحادثة الأولى في خلاف وتباين في الآراء نشب بين الإعلامية بية الزردي ومغني الراب "كلاي بي بي جي" تطوّر إلى درجة صوّر فيها هذا الأخير فيديو أغنية تضمنت تحريضًا علنيًا على العنف وحتى اغتصاب الزردي، في حين تمثلت الحادثة الثانية في تداول فيديو – تبيّن لاحقًا أنه يعود إلى سنتين – لـ"ذكر" يعنّف فتاة بواسطة سلاح أبيض "موس" ويشوه وجهها وجسمها.
وعلى الرغم من اختلاف الحادثتين وتفاصيلهما، إلا أن التونسيين نجحوا في إيجاد قاسم مشترك بينهما من خلال تعليقات حمّلت المرأتين مسؤولية ما حصل لهما. فبالنسبة للحادثة الأولى، اعتبر الكثيرون أن بية الزردي تتحمل وزر الأغنية الصادرة ضدها لأنها أهانت مغني الراب، بل ذهب البعض إلى وصفها بـ"المتصابية" منتقدين جرأتها في الردّ عليه ومخالفته الرأي.
اقرأ/ي أيضًا: هل تُوظف الدولة في الصراع الداخلي لحركة النهضة؟
وعلى الرغم من أن بية الزردي هي جزء من منظومة ساهمت بشكل مباشر في التطبيع مع الثقافة الذكورية نظرًا لآرائها ولتعاطيها مع الكثير من القضايا المتعلقة بالمرأة ومشاركتها فيما يوصف بـ"سكتشات" تضمّنت إساءات وإهانات عديدة للمرأة، إلا أن ذلك لا يمكن أن يبرّر العنف الذي جوبهت به، ولا موقف "كلاي بي بي جي"، وهو يتجاوز شخص بية الزردي ليطال كلّ امرأة، ليس لأن الزردي تمثل نساء تونس، بل لأن كلّ النساء التونسيات مهددات بهذا النوع من العنف، ولأن جزءًا كبيرًا منهن تعرّضن للاعتداء والتحرّش والاغتصاب، والضرب والإهانة والشتم، ولأن أجسادهن في نظر ذكور المجتمع ليست ملكًا لهن، بل هي على ذمة هؤلاء الذكور.
أما في الحادثة الثانية، فلم يتوان العديد من المتابعين من النساء والرجال، عن توجيه أصابع الاتهام للفتاة التي تعرضت للاعتداء ووصفها بـ"الكلوشارة" قائلين إنها أخطأت لأنها تقابل مثل هذا الشاب، ولم يفتهم أن يعلّقوا على ثيابها أو تصرّفاتها أو وشمها.
وعلى الرغم من كون هذه التعليقات لم تعكس مواقف جديدة بل رسّخت الفكر الذكوري ذاته، إلا أن اللافت هو تصاعد موجة العنف المسلّط على المرأة بالتزامن مع ما يُعرف بموجة "الفراريزم"، والتي غالبًا تمثل شبابًا تائهًا يؤمن بقيم "رجعية" قائمة وفي الآن ذاته يبيح لنفسه الملذات التي يريدها، ويعيش حالة من التناقض في علاقته بالمرأة، فهو يقدّس "المراة الأم" ولكنها يحتقر غيرها من النساء، ويعمل إخضاعهن لما يعتبره "فحولته" وقوته ورجولته، فلا يتوان عن التحرّش بهن في الأماكن العمومية ولا يتأخر عن توجيه أبشع النعوت والشتائم إليها إذا هي تجاهلته أو أجابته بكلّ جرأة أو حتى اختلفت معه في الرأي.
ولئن تعدّدت الأسباب المؤدية لتنامي العنف المسلّط على المرأة، ولعلّ من بينها ما تروّجه عديد وسائل الإعلام من ثقافة بسيطة مستهلكة تساهم في جعل "الحمقى" و"الذكوريين" مشاهير وتجتمع فيه شخصيات تغيب عنه أبجديات التعامل مع مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية ولا تهدف إلى إحداث "البوز" والبلبلة بحثًا عن نسب مشاهدة، وهي أسباب تحتاج إلى دراسات ومقالات أعمق وأدق، فيمكن القول إن ثقافة الإفلات من العقاب التي باتت سائدة تعدّ سببًا بارزًا ساهم بطريقة مباشرة في تنامي هذه الظاهرة.
الإفلات من العقاب أصبح أيضًا ثقافة مكتسبة من البرامج التي تبثها بعض القنوات التلفزية
فالمعتدي والمتحرّش والمغتصب يدرك أن ضحيته في الغالب ستخيّر الصمت، وهي إن تحدثت ستواجه التهم المعلّبة والجاهزة المتدثرة بغطاء "العيب" و"العار"، في حين سيعثر جمهور المواطنين على آلاف التبريرات والحجج التي ستعمل على تبييض المتهم والدفاع عنه وتبرير موقفه، والضحية إن حاولت اللجوء إلى القضاء، فستجابه بإدارة عميقة ستحاول إقناعها بالتراجع عن القضية – في إطار التضامن الذكوري -، وستضطرّ إلى مواجهة رأي عام قاس لن ينظر برحمة إلى ما اضطرّت لمعاناته وسيطلب منها الصمت إما حماية لسمعتها وسمعة عائلتها، أو حفاظًا على تماسك عائلتها ومصلحة أبنائها، وهي تعلّات واهية أثبتت الوقائع أن تداعياتها دائمًا ما تكون وخيمة على الضحية.
الإفلات من العقاب أصبح أيضًا ثقافة مكتسبة من البرامج التي تبثها بعض القنوات التلفزية، والتي لم تكتف بتبرير العنف والدفاع عن المعتدي، بل قلّلت من خطورة العنف المسلّط على المرأة، وجعلته مادة مقبولة يتمّ الضحك بخصوصها من خلال سكتشات سخيفة عنّفت المرأة وسلعنتها ورسّخت صورة نمطية تظهر فيها المرأة سطحية مادية لا تبحث إلا عن المال مهما كان المقابل، دون أي تدخل من الهيئات التعديلية، والمتمثلة أساسًا في الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، للحدّ من كمية العنف والذكورية التي تحتويها مضامين هذه البرامج.
نحن اليوم أمام حاجة ضرورة إلى إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، وإلى إصدار عقوبات رادعة ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه أن يعتدي على امرأة، نحن اليوم بأمس الحاجة إلى جرأة من النساء للتشهير بالمعتدي أيًا كانت هويته دون خوف من ردود الفعل. نحن اليوم بحاجة إلى هبة تضع حدًا للتطبيع مع العنف، وتنهي ثقافة العيب والعار لتحلّ محلّها ثقافة الحقوق والمساواة.
اقرأ/ي أيضًا: