15-نوفمبر-2019

هل يجوز الحديث بمنطق الدخلاء في قطاع الصحافة؟ (كيم بدوي/Getty)

مقال رأي

 

يتميّز المحامي في الغالب الأعمّ فضلًا عن كفاءاته المهنيّة بمهارات عديدة منها الغزارة المعرفيّة والثقافيّة والدراية الحجاجيّة والتفسيريّة والانفتاح الواسع على النماذج الواقعيّة والاطلاع اليوميّ على التجارب الحياتيّة.

إضافة إلى هذه المزايا والفضائل، يتميّز المحامي التونسيّ بسمات استثنائيّة نحتتها التجارب والمحن، فقد تمكّن هذا القطاع من اكتساب منزلة اعتباريّة رمزيّة في التاريخ التونسيّ المعاصر والراهن، فلا أحد ينكر دور هذه النخبة في بناء دولة الاستقلال والمساهمة في النضال ضدّ الاستبداد من حجرة سقراط في الثلث الأخير من القرن العشرين إلى شارع بورقيبة وباب بنات في الفصل النهائيّ من ثورة الحريّة والكرامة قبل أن يجنح بن علي إلى الرحيل سنة 2011.

يتميّز المحامي في الغالب الأعمّ فضلًا عن كفاءاته المهنيّة بمهارات عديدة منها الغزارة المعرفيّة والثقافيّة والدراية الحجاجيّة والتفسيريّة

تواصل هذا العطاء السياسيّ والنضالي من خلال حلقات أخرى فاعلة ومؤثّرة بعد الثورة، فقد توّج هذا السلك مساره الوطنيّ من خلال نياشين أخرى أثمرتها أحداث مفصليّة منذ سنة 2012، نذكر منها استشهاد المحامي شكري بلعيد ومشاركة الهيئة الوطنيّة للمحامين في إدارة الحوار الوطنيّ إثر الأزمة السياسية عام 2013، وذلك رغبة في حماية المسار الديمقراطيّ من مخاطر الانفلاتات والانقلابات، بعد أن لاحت بعد مقتل محمّد البراهمي بوادر الفوضى والتفكّك الاجتماعيّ وتعطّل المؤسسات السياسية، ومن أخطر تلك البوادر اعتصام باردو واستقالة نواب المعارضة في المجلس التأسيسيّ ودعوة بعض الأصوات إلى العصيان المدنيّ.

اقرأ/ي أيضًا: بؤس الحرية: في الرد على مغالطات "بارونات" الإعلام

رئيس، نائب، صحفيّ، ومحام...

تظارفت أسباب موضوعيّة وتكوينيّة وتاريخيّة عديدة جعلت المحامي يسيطر على مراكز هامّة في السلطة، وتحوّلت هذه السيطرة إلى لون من الهيمنة والنفوذ المطلق، فقد أحسن القطاع توظيف تلك المزايا الأصليّة والمزايا المكتسبة التي عدّدنا بعضها، فأنتج ذلك مشهدًا حقّ نعته على سبيل المبالغة والمجاز بعناوين من قبيل حاكميّة المحاماة ودولة المحاماة وبرلمان المحاماة وصحافة المحاماة.

ولئن بدت هيمنة المحامين على السلطة التنفيذيّة والتشريعيّة مألوفة منذ الاستقلال، فقد تعاظمت بعد الثورة لتكتسح سلطات أخرى أوضحها وأخطرها الإعلام. وبدأت بوادر هذه الهيمنة في أواخر عهد بن علي في فترة انفتاح نسبيّ تشكّل من خلال هامش الحريّات في الصحافة الرياضيّة وفي طرح بعض المشاغل الاجتماعيّة، وقد ظهر بعض المحامين ظهورًا لافتًا متميّزًا في عدد من البرامج التلفزيّة أهمّها "الحقّ معاك" و"بالمكشوف". حصدت تلك البرامج نجاحات جماهيريّة لافتة، واستعاد الإعلام المرئيّ شيئًا من عافيته وراهن على إعادة استقطاب الجمهور الذي أسرته عدّة قنوات غربيّة وعربيّة أهمّها "الجزيرة" التي كادت تأخذ عقل التونسيّ ومهجته، بل ساهمت في تكييف ذوقه ومواقفه السياسيّة والثقافيّة والفكريّة.

 حوّل محامون منبر "الكرونيكور" إلى مساحة للمواقف المتشنجة والمتهافتة والمجاملة لهؤلاء والمتحاملة على أولئك، وفيهم من وظّف "البلاتو التلفزيّ" للإشهار والتأثير على الرأي العام خدمة لزبائنه من المشبوهين

هذا المعطى جعل البعض يشككون في نوايا النظام من جرعة الحريّة التي نالتها الصحافة الرياضيّة والاجتماعيّة، واعتبروا تلك القضايا المطروحة على ألسنة المحامين بأسلوب حجاجي فائق الحماسة والحرارة خطّة الغاية منها إلهاء المواطن عن المخاطر الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة التي تعرضها المحطّات الأجنبيّة، من تلك المخاطر آنذاك الاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 وإضرابات الجوع التي نفذها المئات من المناضلين طلبًا للحريّة، ثمّ أحداث الحوض المنجميّ سنة 2008، هذا فضلًا عن تواصل الاستبداد وقمع المعارضين والنقابيين والمدوّنين.

طال التشكيك النظام، لكنّه لم يشمل المحامين، إذ تحوّلوا إلى أعلام في مجال الإعلام، فعلقت أسماؤهم بالأذهان، وتأثّر الكثيرون بخطابهم المتميز الدقيق الشبيه بالمرافعات، ومازال نجمهم يرتفع بعد الثورة حتّى بلغوا ذروة الإشعاع، فطاردتهم الألسن، وتمّ رميهم بنبال شتّى قطاعيّة وقانونيّة وأخلاقيّة. وساهمت هذه النبال في شحذها بعض الإخلالات المفضوحة التي ارتكبها عدد من المحامين، ففيهم من حوّل منبر "الكرونيكور" إلى مساحة للمواقف المتشنجة والمتهافتة والمتعسّفة والمجاملة لهؤلاء والمتحاملة على أولئك، وفيهم من وظّف "البلاتو التلفزيّ" للإشهار والتأثير على الرأي العام خدمة لزبائنه من المورطين والمشبوهين، فمثّل ذاك اللون من الانحراف مطيّة إلى الدعوة الملحة للحدّ من حضور المنتمي إلى هذه المهنة في الوسائل الإعلاميّة حضورا متواترا.

ثلاثة على واحد

دخل المحامون المنخرطون في النشاط الإعلامي في مواجهة بدت غير متكافئة ضدّ ثلاثة أطراف في آن، تسلّح كلّ منهم بقرائنه وحيثيّاته وأدبيّاته، الطرف الأوّل تمثّل في الفرع الجهويّ لهيئة المحامين بتونس، فقد حرص رئيسها محمّد الهادفي المنتخب في جويليّة/يوليو 2019 على تفعيل الفصل 23 من مرسوم المحاماة الذي "يمنع الجمع بين المهنة والمشاركة في برامج إعلاميّة مهما كان نوعها بصفة دوريّة أو منتظمة بأجر أو بدونه" وقد تجلّى هذا التفعيل من خلال تخيير عدد من المحامين بين الالتزام بالقانون أو الإحالة على عدم المباشرة، فتعهّد 15 محام حسب تصريح الهادفي بعدم الظهور في وسائل الإعلام.

الصحفي والمؤلف شكري الباصومي يعتبر أن المحامين ليسوا دخلاء على الميدان الإعلاميّ لأنهم أثْروه وأضافوا إليه وفق تأكيده

الطرف الثاني الذي ساهم في الدفع نحو هذا الإجراء جمهور واسع من المحامين، وقد علّلوا آراءهم تعليلات أخلاقيّة، فأبانوا عن تعارض واضح بين نشاط المحامي في وسائل الإعلام وما يقتضيه القطاع من الاستقلاليّة والمصداقيّة ونظافة اليد، وهو ما يدعو إلى الالتزام بالفصل 105 من الدستور الذي ينصّ على أنّ" المحاماة مهنة حرّة مستقلّة تشارك في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريّات".

اقرأ/ي أيضًا: ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - سطوة "الكرونيكور" (3/3)

الطرف الثالث بدا خجولًا لأنّ حجّته لم تكن قانونيّة أو أخلاقيّة بقدر ما كانت ماديّة قطاعيّة، فقد أعرب عدد هامّ من الصحفيين عن قلقهم من الحضور الطاغي للمحامين في البرامج التلفزيّة والإذاعيّة، وهو ما يهدّد إشعاعهم من جهة ويحدّ من مكاسبهم من جهة أخرى فقد مدّ المحامي يده إلى سلّة خبزهم وزاحمهم في مصدر لقمتهم.

هذا الموقف تخلله آراء تبدو موضوعيّة متوازنة منها ما ورد على لسان شكري الباصومي الصحفي والمؤلّف في تصريح لـ"ألترا تونس" جاء فيه" المحامون ليسوا دخلاء على الميدان الإعلاميّ فقد أثْروه وأضافوا إليه" مضيفًا بالقول "أنا شخصيًا ضدّ أيّ "متكرنك" سواء كان إعلاميّا أو محاميًا يحضر بصفة دائمة وقارّة ويفتي في كلّ المواضيع، والأفضل أن يكون "الكرونيكور" من أهل الاختصاص حسب البرنامج وحسب الموضوع المتناول".

الدخلاء متطفّلون أم مبدعون

لا شكّ أنّ المساحة الكميّة والنوعيّة التي نالها المحامون في الفضاء الإعلامي من شأنها أن تساهم في الحدّ من آفاق التشغيل وفرض العمل بالنسبة إلى المتخرّجين من معهد الصحافة وعلوم الأخبار، لكنّ هذه المسألة أسبابها أوسع وأعمق، ويمكن ردّها إلى ثلاثة عوامل على الأقل أوّلها اتّساع دائرة "الدخلاء" على ميدان الصحافة، فجلّ من التحقوا بهذا القطاع قدموا من مجالات أخرى كاللغات والفنون والاقتصاد والعلوم الصحيحة، وبناء على ذلك فإنّ المحامين أو دارسي الحقوق هم مجرّد عيّنة من عشرات المجالات التي أقبل خرّيجوها على الميدان الإعلاميّ، فهيمنة المحامين لم تكن كميّة بقدر ما كانت نوعيّة.

السبب الثاني يتمثّل في عدول العمل الصحفي عن سماته المهنيّة النمطيّة وتحوّله إلى مجال إبداعيّ، في غير إخلال بالضوابط الأساسيّة، حتّى أصبح بعض النقاد يصنّف الكتابة الصحفيّة ضمن الأشكال الأدبيّة، فكتاب "باغندا" لشكري المبخوت أقرب إلى المقال الصحفيّ حسب بعض القراءات رغم أنّه مصنف ضمن جنس الرواية.

حينما ينحو قطاع الصحافة منحى الإبداع تصغر الدقائق التقنيّة أمام اللمسات الفنيّة، ويتراجع مردود الناظرين إلى الصحافة باعتبارها مهنة أمام من يتعامل معها مهمّة إنسانيّة وفضاء لكشف الحقائق

حينما ينحو قطاع الصحافة منحى الإبداع تصغر الدقائق التقنيّة أمام اللمسات الفنيّة، ويتراجع مردود الناظرين إلى الصحافة باعتبارها مهنة أمام من يتعامل معها مهمّة إنسانيّة وفضاء لكشف الحقائق والتعبير الحرّ والابتكار والتطوير والتنوير والنضال ضدّ كلّ ألوان التعتيم والتجهيل والمغالطة. وتبعًا إلى ذلك فإنّ من يدخل الإعلام متطفّلًا أو طامعًا أو مكرهًا لا أمل له في المنافسة والتطوّر حتّى إن كان من أهل الاختصاص، وسيظلّ متواكلًا سطحيًا ساذجًا متسلّحًا بضوابط إداريّة أو بمراسيم قانونيّة حمّالة لصنوف من التأويل. وفي المقابل من يطرق باب صاحبة الجلالة هاويًا محبًا متيّمًا مهووسًا يكون في الغالب الأعمّ أقدر على الاجتهاد وتجويد إنتاجه وتعهّد معارفة ومراجعتها وشحذها، ويقول التوحيديّ في هذا المعنى"متى كانت الحركة بشوق طبيعيّ لم تسكن البتّة".

السبب الثالث الذي يجعل الإعلام فاتحًا ذراعيه للوافدين من آفاق أخرى يتنزّل ضمن نقلة جوهريّة تعرفها سائر الأنشطة والأعمال والفنون والآداب، هذه النقلة تندرج ضمن ما يسمّى بانكسار الأنساق، فما عاد كلّ اختصاص مغلق على نفسه، بل بات مفتوحًا على المجالات الأخرى حتّى استعصى التصنيف وتعذّر الفصل بين الأنشطة، ولنا في ذلك أمثلة شتّى، ففي المجال الرياضي على سبيل المثال نحت "مورينهو" الذي بدأ مشواره المهنيّ مترجمًا صورة أسطوريّة استثنائيّة مع أعظم الأندية الأوربيّة رغم انخراطه المتأخّر في مجال كرة القدم الذي يعدّ من أكثر الاختصاصات تعقيدًا في مستويات عديدة بدنيّة وفنيّة وتكتييّة ونفسيّة ومعرفيّة وتواصليّة وتسويقيّة.

في المقابل، تمكّن بعض الرياضيين والمتخرجين من جامعات الآداب والعلوم الإنسانيّة والحقوق من بلوغ ذروة النجاح في ميادين فنيّة عديدة كالغناء والمسرح والسنما والتنشيط التلفزي، ورغم ذلك لم تطرح ثنائيّة الدخيل والأصيل في هذه الميادين فقد كان لظافر العابدين وهند صبري حظوة فائقة في الدراما والسنما المصرية رغم أنّ الأول كان لاعب كرة قدم والثانية متخرجة من كليّة الحقوق، فالرهان إذًا على الكفاءة والرغبة والحرص والمكابدة لا على الشهائد العلميّة، فرُبَّ شهادة بلا رصيدٍ.

الطرح الأسلم في نظري ينبغي أن يرتكز على جودة المادّة الصحفية وعمقها وطرافتها بغض النظر عن صاحبها وأصوله المهنيّة والتكوينية

قد يفضي الجمع في التكوين بين مجالين أو أكثر أو التحوّل من نشاط إلى آخر إلى الارتباك والخلط والعجز بالنسبة إلى المتهافتين والمتسلّقين والمتطفّلين، لكّنه بالنسبة إلى الجادّين والمولعين يمكن أن يغدوَ مصدر خلق وإبداع، فمن أوكد شروط الابتكار في المفاهيم والمصطلحات والأفكار التأليفُ بين عالمين مختلفين متباعدين. فالنقد الأدبيّ مثلًا حسب رأي عبد السلام المسدّي الباحث في اللسانيّات تطوّر سجلّه الاصطلاحيّ وبلغ درجات في الفهم أوسع وأعمق وأدقّ  حينما انفتح على علوم أخرى كالكيمياء والفلسفة والرياضيات والفيزياء وغيرها، فمنها استعار كلمات من قبيل الباث والمتلقّي والمرسل والمرسل إليه والتفكيك والتركيب والقناة وغيرها.

وقد بلغ الولع بالتلاقح بين المجالات والفنون والعلوم حدّ إعلان الكثيرين كفرهم بالاختصاص، فهو يضمن الدقّة والصرامة لكنّه لا يثمر إبداعًا وطرافة وابتكارًا. من هنا يمكن أن نفهم الدور الذي قام به الوافدون على المجال الإعلاميّ من قطاعات أخرى، وبناء على ذلك فإنّ الطرح الأسلم في نظري ينبغي أن يرتكز على جودة المادّة وعمقها وطرافتها بغض النظر عن صاحبها وأصوله المهنيّة والتكوينية، وهذا المعيار التقييمي لا ينطبق على مجال الصحافة فحسب، بل ينسحب على سائر المجالات في غير إخلال بالقوانين والتقنيات والمناهج وضوابط العمل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الكرونيكور" في تونس.. من يقدم الإثارة أكثر؟

كيف أصبح التلفزيون التونسي "رديئًا"؟