24-نوفمبر-2019

تغيب ثقافة الاستهلاك الرشيد في تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

وضع الأستاذ المحاضر قلم السبورة على الطاولة بعدما أنهى الكتابة، وقف وسط القاعة ونظر في وجوهنا التي لم تتعود بعد على قاعات الجامعة قائلًا: "إذا فكرتم بالعقل ستجدون ما أكتبه سهلًا جدًا، لديك ميزانية معينة ولا تستطيع استهلاك غير منتوجين اثنين (X) و(Y)، كم عدد القطع التي ستشتريها من المنتوج الأول والثاني حتى تحقق الرضا التام مع العلم أن هذه الميزانية يجب أن توصلك إلى هذا الرضا التام باعتماد مبدأ تحقيق أقصى الرضا بأقل نسبة من الخسائر".

هكذا بدأ أستاذ مادة "الاقتصاد الجزئي" محاضرته، مادة معقدة في بداية الأمر لكن سرعان ما تكتشف أنها تحاكي الواقع وتهتم بتفاصيل الاقتصاد داخل الدولة. ويمكن القول إن التونسيين يحتاجون كثيرًا لفهم هذه المادة من أجل بناء ثقافة استهلاكية قادرة على الحفاظ على قدرتهم الشرائية وحماية أنفسهم من فوضى الشراء التي أدت إلى ارتفاع الأسعار.

يمكن القول إن التونسيين يحتاجون كثيرًا لفهم مادة الاقتصاد الجزئي من أجل بناء ثقافة استهلاكية قادرة على الحفاظ على قدرتهم الشرائية

قبل يومين، فتح مركز تجاري كبير في العاصمة أبوابه يقول باعثوه إنه الأكبر في إفريقيا، وما لفت الانتباه هو الصور المنقولة على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تظهر اكتظاظًا هائلًا ما تسبب في تعطيل حركة المرور في الجزء الجنوبي للعاصمة وعلقت صديقة على حسابها على فيسبوك غاضبة "أرجوكم، هل سيهرب المركز التجاري؟ سيظل مفتوحًا الأيام القادمة، نريد أن نعود إلى بيوتنا".

اقرأ/ي أيضًا: هل تكتفي الإشهارات بتحفيزنا على الاستهلاك فقط؟

وعلى غرار العاصمة، شهدت مدينة سوسة بدورها، خلال الأيام الماضية، افتتاح مركز تجاري جديد قبل أيام، وقبلها تسبب افتتاح محل شهير للمرطبات في المرسى إلى فوضى عارمة مع العلم أن ثمن قطعة المرطبات يعادل سعر قفة من الخضر. لم نجد في معجم اللغة العربية وصفًا لمثل هذه المظاهر سوى "اللهفة".

تؤكد تقارير معهد التغذية في تونس أن ثقافة الاستهلاك لدى التونسيين شبه غائبة، إذ أصبح النمط الاستهلاكي للتونسي مساعدًا على تدمير القدرة الشرائية وإرتفاع الأسعار. يبين أحد هذه التقارير أن أكثر من 54 في المائة من التونسيين يقبلون على المنتجات بعد زيادة أسعارها، فيما وصلت نسبة الانفاق المنفلت في المساحات الكبرى حوالي 20 في المائة، والإنفاق المنفلت هو الإنفاق غير المبرمج كأن تذهب إلى المركز التجاري لشراء منتوج ما فتُعجب بمنتوج آخر لتكتشف أنك وضعت نصف ميزانيتك.

هذه اللهفة جعلت التونسيين ضحايا الابتزاز التجاري وفقدان مواد من السوق بمجرد سريان إشاعات مثل ما حصل مع مادة الحليب في السنوات الماضية، إذ يبدأ الأمر بخبر مزيف على منصات التواصل الاجتماعي حول انعدام كميات الحليب في الأيام المقبلة، ليجزع المستهلك ويهرع إلى المركز التجاري لشراء كمية للتخزين، وتتوالى عمليات الشراء بأضعاف الحاجة حتى ينتهي الأمر بفقدان المادة فعلًا من السوق، وأدت هذه "اللهفة" إلى ارتفاع سعر الحليب بصفة مطردة في السنوات الأخيرة وانتشار البيع المشروط.

تؤكد تقارير معهد التغذية في تونس أن ثقافة الاستهلاك لدى التونسيين شبه غائبة، إذ أصبح النمط الاستهلاكي للتونسي مساعدًا على تدمير القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار

نفس الممارسة تحصل مع مادة البنزين، إذ أصبح إقرار إضراب في قطاع المحروقات حدثًا وطنيًا، تتعطل بسببه حركة المرور وتتشكل الطوابير الطويلة أمام محطات البنزين وتتوتر الحياة، كل سيارة تملء خزانها حتى يكتمل مخزون محطات البنزين كاملًا قبل التوصل إلى اتفاق بين الطرف الحكومي والطرف النقابي في ساعة متأخرة ليلة الإضراب. ويتكرّر المشهد نسبيًا لساعات طويلة في اليوم الموالي في انتظار ملء خزانات محطات البنزين، وهكذا يساهم المستهلك التونسي في صناعة الإضراب بلهفته.

يمكن القول إن الثقافة الاستهلاكية غائبة تمامًا في تونس ما جعل التونسيين يدخلون في دائرة التداين من أجل خلاص الديون، وتشجع "لهفة" التونسيين، رغم تراجع مقدرتهم الشرائية، التجار على الترفيع في أسعار المنتوجات. وغياب هذه الثقافة هو سبب في تراجع الوضع الصحي للتونسيين نظرًا لارتفاع استهلاك المواد غير الصحية إضافة إلى غياب البرامج التثقيفية عن الأكل ما رفّع من نسبة السمنة في تونس لتصل إلى 30 في المائة فيما يعاني 65 في المائة منهم من زيادة الوزن. وتبين الأرقام إتلاف 900 ألف خبزة يوميًا في المزابل مع معاناة 600 ألف تونسي من سوء التغذية، وكل ذلك نتيجة اكتسابهم النزعة الاستهلاكية الانتحارية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثقافة المقاطعة لدى التونسي.. هل غلبتها ثقافة الاستهلاك؟

المستهلك التونسي في رمضان.. بين الانتحاري والعقلاني والضحية!