03-مارس-2018

تقدم بعض البرامج التلفزيونية فقرات موغلة في إهانة المرأة (يوتيوب)

لا يختلف اثنان بشأن الدور الذي تقوم به المرأة التونسية في الحياة العملية ببلادها رغم الهنات والتهميش والحيف الذي يطالها في عديد القطاعات حيث تعمل أحيانًا مقابل أجر زهيد جدًا أو دون الحصول على كامل حقوقها في مختلف القطاعات والميادين.

ولئن تفرض المرأة التونسية حضورها بقوة في قطاع الإعلام، سواء السمعي البصري أو المكتوب، إلا أنها غالبًا ما تضطلع بدور "جندي الخفاء" وتقوم بجلّ الأعمال الصعبة من تنقّل إلى مكان الحدث أو إعداد البرامج أو تحرير الأخبار إلخ. ومع ذلك لا تتجاوز نسبة حضورها، صحفية كانت أو ضيفة، في وسائل الإعلام بتونس 22 بالمائة. ويبرز ضعف حضور المرأة بشكل خاص في تقديم البرامج حسب ما كشفته نتائج مشروع رصد وسائل الإعلام في تونس سنة 2013.

المشاركة النسائية الضعيفة للمرأة في تقديم البرامج التلفزية في تونس، مهما تعددت أسبابها، فإنها لا تعود لغياب الكفاءة لدى العنصر النسائي بقدر ما ترتبط بعوامل اجتماعية وفكرية تعكس ثقافة المجتمع ونظرته للمرأة والتي تحصرها في أدوار معيّنة كالأنشطة الاجتماعية والاهتمامات المنزلية.

البرامج الترفيهية في القنوات التونسية تتسم بخاصية ترسيخ الثقافة البطريركية الذكورية والإضحاك عبر إهانة المرأة

اقرأ/ي أيضًا: "أمور جدية" في تونس.. هشاشة الإعلام الهجين

هذه المعضلة التي قد لا تبدو مهمة لطيف واسع من المواطنين وحتى الشخصيات العامة، تستوجب حلولًا واقعية وفعالة في آن واحد، كأن يتم الاتفاق، كتابيًا أو معنويًا، تحت إشراف الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، وهي هيئة مستقلة دستورية تونسية تعنى بتنظيم المشهد الإعلامي السمعي البصري بتونس، على وضع "كوتا" نسائية تحدد نسبة مشاركة النساء في تقديم البرامج التلفزية والإذاعية.

ولكن هذه المسألة تبدو جانبية إذا ما تابعنا محتوى غالبية البرامج التلفزية التونسية، بقطع النظر عن الشخصية التي تقدمها والشخصيات التي "تثريها" بحضورها ومشاركتها ممن يسمون بـ"كوميديين" و"فنانين" وأحيانًا محللين سياسيين وخبراء في هذا المجال أو ذاك ولا يمكن أن ننسى الـ"كورنيكور". هذه البرامج، والتي يمكن تصنيفها في خانة برامج المنوعات أو البرامج الترفيهية، تتسم بخاصية مشتركة عادة، وهي ترسيخ الثقافة البطريركية، الذكورية والاستصغار من شأن المرأة والاستهزاء بالآخر المختلف خاصة إذا تعلق اختلافه بالميولات الجنسية.

ما يحصل في مثل هذه البرامج هو أمر في غاية الخطورة والسكوت عنه يعدّ بمثابة الطامة الكبرى. فمن خلال "اسكتشات" قصيرة يؤديها "ممثل" أو مجموعة من "الممثلين" بنزعة فكاهية فاضحة وأحيانًا بذيئة، يتم تمرير عديد الرسائل السلبية التي ترسخ بشكل مباشر لدى متابعي القنوات التلفزية وبشكل خاص لدى الناشئة، والتي تحصر المرأة في صور نمطيّة وآراء مسبقة وتتسم غالباً بالسلبية والأنانية وحب المال.

كثيرًا ما تقمص هؤلاء المؤدون، رجالاً ونساء، أدوارًا مهينة للغاية للمرأة التونسية، فتظهر كتلك التي تغيّر حبيبها من أجل المظاهر والنقود، أو تلك التي تكذب على صديقها وتقنعه بأنها فتاة "بنت عائلة" ولا ترتاد النوادي اللّيلية إلى أن يأتي من يكشف خداعها، وغيرها من الأمثلة المشينة لعلّ آخرها "السكاتش" الذي عُرض على قناة الحوار التونسي ضمن برنامج "أمور جدية"، وتجاوز الخطوط الحمراء وحرّض على تعنيف المرأة ووصفها بـ"الكلبة" و"البغلة".. علاوة على ذلك، لا تفوّت قنواتنا التلفزية "الفذة" فرصة للتقليل من قيمة الاعتداءات الموجهة ضد المرأة وحتى الاغتصاب، فيقع على سبيل المثال عرض "سكاتش" يطلب فيه المؤدي الذي يتنكر كامرأة مسنة من مؤد آخر ينتحل دور سارق أن يغتصبه لا أن يكتفي بالسرقة.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة التونسية..بين أحلامي وأسرتي؟

خطورة بث مثل هذه الرسائل قد لا تبدو جلية وعادة ما يتم الرد على الانتقادات الموجهة لمضمون هذه البرامج بمقولة شهيرة "غيّر القناة" أو أن كل ما عُرض يدخل في خانة الهزل والكوميديا. وهنا المصيبة العظمى.

فالكوميديا فن عريق يهدف بالأساس للتسلية ويقوم على عدة أنماط كالدراما الهجائية والتهكم والهزل والمحاكاة الساخرة والمحاكاة التهكمية، فضلاً عن الكوميديا السوداء. وإذ تهدف الأنماط المختلفة للكوميديا إلى نقد أفكار وعادات ومؤسسات اجتماعية وحتى للاستهزاء بالحياة بخفة دم، فهي بعيدة كل البعد عن الإساءة لفئات اجتماعية معينة مهما كان جنسها أو نوعها أو عرقها أو لونها. 

ولكن يبدو أن القائمين على البرامج الترفيهية في تونس، بل وعدد لا بأس به من الممثلين وخصوصًا الشبان، قرّروا التغاضي عن الكوميديا الهادفة التي يحتاجها التونسي فعلًا، ووصل بهم البحث عن "الأوديمات" وعدد المشاهدات في مواقع التواصل الاجتماعي وفيسبوك والـ"youtube"، إلى درجة استسهال الكوميديا والاكتفاء بتقديم مادة لا ترتقي لمستوى "الفن"، بل تقوم على التلاعب بالألفاظ لتغطية رسائل جنسية فاضحة وإهانة المرأة والتقليل من قيمتها.

تخيلوا جيلًا بأكمله ينشأ على أفكار تحتقر المرأة وتسخر من المثلي جنسيًا

ولعلّ أخطر ما في المسألة هو أن هذه البرامج، عن وعي أو دون وعي، تقوم بأدلجة جيل كامل ناشئ يعتبر منشطي مثل هذه البرامج مثله الأعلى. تخيلوا جيلًا بأكمله ينشأ على أفكار تحتقر المرأة وتسخر من المثلي جنسيًا وتعتبر المختلف شاذا وترفضه. هل سيقبل مثل هذا الجيل بمن يعتنق دينًا غير ذاك الذي يعتنقه؟ هل سيحترم أصحاب الميولات الجنسية المغايرة لميولاته وهل سيحترم المرأة ويرفض أن يتم الاعتداء عليها؟ أم أنه سيجد ثقافة كاملة ذكورية تبرّر عنفه وكرهه لكل ما هو مغاير؟

الأمر لا يتوقف هنا. رغم كل الانتهاكات والخروقات التي تمارسها هذه القنوات التلفزية، لم تتحرك الهياكل المعنية لمحاولة التصدي لموجة الإساءات المتكررة للمرأة، على غرار هيئة الاتصال السمعي البصري أو النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين. طبعًا ليس المقصود وقف هذه البرامج أو صنصرتها أو منعها من البث، ولكن الوضع أصبح مخيفًا ويحتاج إلى حلول فورية عاجلة وفعالة.

تونس تعيش اليوم مرحلة مهمة قد تدخل فيها التاريخ مرة أخرى إذا تم إقرار المساواة في الإرث بين الجنسين وتغيير مجلة الأحوال الشخصية واحترام حرية الضمير والحريات الفردية. ولكن التشريعات وحدها غير كافية لتغيير العقليات المتكلسة. 

نحن اليوم بأشد الحاجة إلى إعلام وصحافة قويين يتبنّيان الدفاع عن المنظومة الكونية لحقوق الإنسان والمساواة التامة بين جميع المواطنين باختلاف جنسهم وعرقهم ولونهم ودينهم. على الإعلام التونسي اليوم أن يعي المسؤولية التي يتحملها باعتباره محرّضًا وموجهًا ومحرّكًا للرأي العام وأن يدرك أن دوره لا يقف عند التسلية أو الحوارات، بل لأن يقوم بالوظائف الثلاث المنوطة بعهدته وهي إنارة الرأي العام والتثقيف والترفيه بصفة متوازية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. برامج اجتماعية عنوانًا وجنسية أحيانًا؟

ألعاب الحظ في تونس.. باقية وتتمدد في صفوف الفقراء