توحي الطوابير اليومية على بوابات قصر المعارض بالكرم حيث يقام هذه الأيام "معرض تونس الدولي للكتاب" بأن التونسي علاقته بالكتاب سليمة وأنه شغوف بما تنضجه المطابع التونسية والعربية والعالمية من آداب ومعارف وعلوم، وأنه يقبل بنهم على الكتاب ومعارض الكتاب التي تقام هنا وهناك على مدار السنة، لكن هناك أسئلة عديدة متصلة بهذه العلاقة وهي: هل تعني الطوابير الطويلة أمام بوابات معارض الكتب أن التونسي يقبل على الكتاب وهو عادة من عاداته؟ وإن كان ذلك كذلك فما هو الكتاب الذي يقتنيه التونسي من مجمل أصناف الكتب؟ وهل أجريت الدراسات العلمية بخصوص هذه العلاقة حتى نفهم القواعد السلوكية للتونسي وهو يتحرك في اتجاه الكتب؟
بخصوص هذا الموضوع، نشرت مؤسسة "آمرود كونسلتينغ" لسبر الآراء بخصوص علاقة التونسي بالكتاب نتائج سبر آراء أجرته في 2019، وقدمت أرقامًا ومؤشرات مخيفة ومقلقة، إذ نجد أن 89% من التونسيين لم يشتروا كتابًا واحدًا طيلة الأشهر المنقضية من سنة 2021 وأن 82% لم يقرؤوا كتابًا واحدًا خلال نفس المدة من السنة نفسها، واللافت للانتباه أن 73% من التونسيين لا يملكون كتبًا بمنازلهم، كما أن 63% هي نسبة التونسيين الذين لا يقرؤون كتبًا على الإطلاق طيلة حياتهم وأن 4% فقط يقرؤون بصفة منتظمة. واختتم استطلاع الرأي بأن 53% من التونسيين يعتقدون أن الانترنت يمكن أن تعوض الكتاب مع حلول سنة 2030.
اقرأ/ي أيضًا: العزلة والخوف والتأمل.. ماذا تعرف عن طقوس بعض الكتّاب والفنانين التونسيين؟
كل هذه المعطيات بخصوص علاقة التونسي بالكتاب تأتي لتدحض الصورة المقدمة من بوابات "معرض تونس الدولي للكتاب" والتي تغمر شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت مع كل دورة وخصوصًا الدورة الحالية، تجعلنا نبحث في جذور تلك العلاقة وأسباب اهتزازها وتشوّف مستقبلها.
ولمزيد فهم هذه المسألة توجه "الترا تونس" إلى عدد من المختصين والكتّاب فكانت هذه هي آراؤهم:
- عندما تغيب الاستراتيجيات المتعلقة بتمتين علاقة المواطن التونسي بالكتاب
سفيان الفراحتي، أستاذ علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية، يرى أن علاقة الإنسان بالكتاب هي عادة ثقافية تكتسب وتترسخ بمرور الزمن، لكن هذا الاكتساب لا يكون بالسهولة التي نعتقد بل لا بدّ من استراتيجيات تزرع الكتاب في أرض المجتمع كما يزرع الفلاح حفنة الحبوب في أرضه، ومن الاستراتيجيات الأساسية وفق الأستاذ الفراحتي تلك التي تنفذ في المدارس حتى تنشئ الأجيال على الكتاب وهو ما لم يتحقق في السنوات الأخيرة حيث تقادمت البرامج البيداغوجية التي لها علاقة بالكتاب واندثرت المكتبات المدرسية.
سفيان الفراحتي (أستاذ في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": كلما ابتعد المجتمع عن الكتب يخيم الجهل والأمراض المجتمعية التي من المؤكد أنها تنخر المجتمع وتتسبب في تأخره وتراجعه وتخلفه، فيسري العنف والإرهاب والجريمة
ويرى المختص في علم الاجتماع أن الدولة التونسية لم تعدل بوصلتها بعد على الكتاب الرقمي والمكتبات الافتراضية. ويضيف الفراحتي أن الدولة ما زالت تشتغل بنفس الأدوات ونفس الطرائق وتتوخى نفس الوسائل في تمتين علاقة التونسي بالكتاب.
وفي قراءة للمعطيات والمؤشرات المقدمة من قبل مؤسسات استطلاع الرأي حول علاقة التونسي بالكتاب، يرى الأستاذ سفيان الفراحتي أن هذه الأرقام تبسط بين أيدينا واقعًا مخيفًا، لأنه كلما ابتعد المجتمع عن المعارف والعلوم والآداب الموجودة بين دفات الكتب يخيم الجهل والأمراض المجتمعية التي من المؤكد أنها تنخر المجتمع وتتسبب في تأخره وتراجعه وتخلفه، فيسري العنف والإرهاب والجريمة.
اقرأ/ي أيضًا: لا يحصل الكاتب سوى على 10% فقط من ثمن بيع كتابه.. كيف يقع توزيع النِسب؟
ويرى أستاذ علم الاجتماع أنه من أسباب عزوف التونسي عن الكتاب هو غلاء المنشورات التونسية والمستوردة وزد على ذلك تدهور القدرة الشرائية للقراء الأوفياء وهم بالأساس الأساتذة والطلبة، إذ لم تعد هذه الفئات تقدر على التوجه للمعارض المختصة واقتناء الكتب من المكتبات.
- الكتاب والتنشئة الاجتماعية
الأستاذ نوفل بوصرة، المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية، يربط مباشرة علاقة الإنسان بالكتاب بالتنشئة الاجتماعية، موضحًا أن العائلة التونسية عمومًا لا تهتم بالكتاب إلا إذا كان مدرسيًّا وبدرجة أقل تهتم بالكتاب الديني عدا ذلك لا نجد أثرًا للكتاب في السلوك العائلي وبالتالي فإن المراهق والشاب لا ينشأ على الكتاب، ثم يذهب إلى مدرسة تقدم كتبًا للمطالعة لا تتناغم مع مشاغل الشباب ومتقادمة وبالتالي نكون خسرنا قارئ المستقبل.
نوفل بوصرة (أستاذ في علم النفس) لـ"الترا تونس": علاقة الإنسان بالكتاب مرتبطة بالتنشئة الاجتماعية.. فالعائلة التونسية عمومًا لا تهتم بالكتاب إلا إذا كان مدرسيًّا وبدرجة أقل تهتم بالكتاب الديني عدا ذلك لا نجد أثرًا للكتاب في السلوك العائلي
وبخصوص الصور المتداولة حول الطوابير الطويلة أمام بوابات معرض تونس الدولي للكتاب، أوضح الباحث بوصرة أنها صور إشهارية لا غير وأشار إلى أن المعرض لا يقدم الأرقام والصور الحقيقة حول أعداد الوافدين مقارنة بالمساحة وعدد الكتب المعروضة ونوعية الكتب...
وأشار المختص في علم النفس إلى أهمية تجسير الهوة في تونس بين عالم الكتاب والإعلام لأنهما في تكامل من حيث تربية المجتمع على القيم الإنسانية العليا.
- ضرورة إحداث مادة مختصة للمطالعة
الأستاذ والكاتب عماد العباسي المختص في علوم التربية والباحث بالجامعة التونسية يصف علاقة التونسي بالكتاب بالمرتبكة "فلا القارئ قارئٌ ولا الكتب كتبٌ"، ويذكر أن كل الإحصائيات المقدمة سواء من الجانب الرسمي أو مؤسسات الرصد الخاصة لا تتسم بالموضوعية والدقة والصرامة العلمية لأن مفهوم القارئ في تونس لم يحدد بعد، كما أن المنشور الذي نسميه كتابًا لم نتفق حول مواصفاته بعد سواء في الشكل أو المضمون. وبالتالي فإن هذه العلاقة تبدو مطلقة وبلا حدود.
عماد العباسي (أستاذ مختص في علوم التربية): لا بدّ من إحداث مادة للمطالعة في المستوى الأساسي بشقيه الابتدائي والإعدادي وجعلها في شكل ورشة تجمع الترفيه بالإفادة وتكون فرصة لاكتشاف المواهب الأدبية
وأوضح المختص في علوم التربية أنه إذا ما رمنا علاقة سليمة تجمع التونسي بالكتاب لا بد من الذهاب إلى المدارس فهناك نؤسس لأجيال تحب الكتاب. وأضاف أن المدارس التونسية يفتقر أكثر من نصفها إلى المكتبات المدرسية وحتى إن وجدت فإنها مغلقة ومهجورة أو نهبت محتوياتها وكتبها أو تفتقر إلى الكتب التي من المفروض أن تكون بين رفوفها..
وأشار إلى أن المدارس الابتدائية التي يفوق عددها 5 آلاف مدرسة لا توجد بها مكتبات أصلًا، وهذا في حد ذاته عار على المنظومة التربوية التونسية التي تآكلت ولا تريد لها التغيير.
كما تحدث الأستاذ عماد العباسي عن أهمية إحداث مادة للمطالعة في المستوى الأساسي بشقيه الابتدائي والإعدادي وجعلها في شكل ورشة تجمع الترفيه بالإفادة وتكون فرصة لاكتشاف المواهب الأدبية وتشجيعها وربط المادة بفضاء المكتبة المدرسية، كما أنه بات من الضروري الحديث عن المكتبات الافتراضية وأهمية دخولها ودعوة المدرسين إلى تشجيع التلاميذ على حسن استعمال هواتفهم الذكية وذلك بتحميل الكتب ومطالعتها بواسطته.
- "عندما تغيب القوانين التي تحمي عملية التأليف ينقرض القارئ"
الروائية والكاتبة التونسية آمال مختار، صاحبة العشر إصدارات والمتوجة بجائزة الكومار الأدبي، شبهت علاقة التونسي بالكتاب بمناخات البورصة التي تكون المؤشرات بها غير مستقرة. وربطت عدم الاستقرار بوضعية النشر عمومًا في تونس، مشيرة إلى غياب القوانين التي تحمي التأليف والضامنة لحقوق الكاتب والقارئ معًا...
الكاتبة آمال مختار لـ"الترا تونس": الدولة تتحمل مسؤولية تردي وضع الكاتب والكتاب لأنها لم تخرج من وضع التشجيع إلى دور الاستثمار بجعل الكتاب صناعة قائمة الذات
وأوضحت الكاتبة آمال مختار أن السعر الموجود على ظهر الكتاب هو محل نقاش أدبي وقانوني في تونس ولم يحسم بعد، متسائلة عمن يحدد الأسعار، هل هو الكاتب؟ أم الناشر؟ أم صاحب المطبعة؟ معتبرة أن السعر المرتفع ينفر القارئ خاصة في ظل التدهور الاقتصادي الذي يعيشه المجتمع. وطالبت الكاتبة بالمسارعة بوضع خطة لحماية القارئ من الانقراض وذلك بالذهاب إلى الطبعات الشعبية والترويج لها.
وحملت الكاتبة مسؤولية تردي وضع الكاتب والكتاب إلى الدولة ذاتها لأنها لم تخرج من وضع التشجيع إلى دور الاستثمار بجعل الكتاب صناعة قائمة الذات يستفيد منها الجميع بما في ذلك الدولة ذاتها.
وطالبت الكاتبة بتوطيد العلاقة بين وزارة التربية والكتّاب سواء أكانوا أفرادًا أو هياكل نقابية، وذلك بإعطائهم جوازات مرور إلى المدارس والالتقاء بالأطفال والشباب وإدراج منتوجهم الأدبي في البرامج المدرسية، معتبرة أن "ذلك يخلق أجيالًا تقدر الكاتب والكتاب...".
اقرأ/ي أيضًا:
"خفّض الأسعار ليرتفع الإقبال".. الشعار السنوي غير الرسمي للمعرض الدولي للكتاب!