11-مارس-2020

من أعلام النهضة والفن التشكيلي في إيطاليا

 

في اللّحظة التي أنهى فيها تونسيان حياتهما بعملية إرهابية في محيط السفارة الأمريكية بتونس صبيحة 6 مارس/آذار الماضي، كانت تقودني خطاي إلى رواق "المقام"، الذي استحدثه المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر بتونس بمدينة الثقافة، الذي افتتح أنشطته بمشاركة العالم الاحتفاء بالذكرى المائوية الخامسة لرحيل الرّسام الإيطالي الفذّ رفائيل سانزو دي أربينو.

كانتا لحظتان غريبتان وعاتيتان جعلتا عقلي يقف على شفا تشبيه شعري فرعوني وهو أنّ "الله يعطينا قلبًا وعلينا نحن أن نملأه بالحياة التي نريد"، ولكلّ واحد أن يختار دربه إمّا جمالًا وإمّا قبًحا، وكلا الدربين باق بقاء النفس، وأنّ مشقّة الإنسان الحقيقية تكمن في إدارة ذاته التي تهوى الاتجاهين معًا حيث يبقى التغليب من نسبيّات الأمور. وها إننا في هذه اللحظة التاريخية التونسية الفارقة التي يتربص بها القبح، ننتصر للجمال فنغلّبه على الذّوات التّواقة للقبح ونحتفي بما خلّفت فرشاة البديع "رفائيل" أو "رفائيلو"

يستقبل رواق "المقام" بمدينة الثقافة معرضًا فنيًا يضمّ 14 لوحة منتخبة من أعمال أحد أبرز رسامي عصر النهضة الأوروبيّة الإيطالي "رفائيل"

رواق "المقام" بالبهو السفلي لمدينة الثقافة يشعرك رغم ضيق مساحته بشاسعة قلبه، وهو الذي يضمّ بين جنباته السوداء 14 لوحة منتخبة من أجمل وأجود أعمال أحد أبرز رسامي عصر النهضة الأوروبيّة "رفائيل" لتشكل هذه الأعمال معرضًا آخّاذًا انطلق يوم 28 فيفري/شباط 2020، بتنسيق وتنفيذ كل من السلطات التونسية والإيطالية في مستوى وزارتيْ لخارجية والثقافة إضافة لجمعية "راي كوم" الإيطالية، يتواصل إلى غاية 28 مارس/آذار الجاري.

"رفائيل" هو من أهم أعلام الفن التشكيلي في عصر النهضة الأوروبية

 

و"رفائيل" الذي يزورنا فنّه هو مولود بأربينو بإيطاليا سنة 1483، كان شغوفًا بالهندسة المعمارية ومتأثرًا إلى أبعد الحدود في ذلك بالرسام الشهير "ليوناردو دافنشي" صاحب "الموناليزا"، كما كان والده رسّامًا لدى دوق أوربينو، وكان يصرّ "رفائيل" على الذهاب معه لورشته الشهيرة وخاصة عند تنفيذ عمليات رسم الجداريات وهو ما مكّنه من النّبوغ مبكّرًا في رسم الجداريات الجصيّة والبورتريهات.

اقرأ/ي أيضًا: "الرجل الذي أصبح متحفًا".. حينما تحتفي السينما بالتشكيلي علي عيسى

ضمن هذه المناخات الفنية، نشأ الرسام الإيطالي فتفتقت قرائحه الفنية ونمت موهبته بشكل ملفت كما تأثر بالمدرسة الفلورنسيّة إلى حدّ بعيد عندما انتقل للعيش فيها بين 1504 و1508 فخرج من الدّقة النمطية في الرسم إلى تلك المسحات من التخييل التي كان يضفيها على لوحاته فعندما تتأمل عيون الشخصيات التي رسمها وطريقتها في النظر تتشكل لديك قصص وحكايا.

 تأثر "رفائيل" بالمدرسة الفلورنسيّة في رسم اللوحات

 

ومع ذيوع صيته، تمّت دعوته من قبل الفاتيكان بروما لرسم جداريات في قصورها وكنائسها فكلّفه البابا بتزويق أربع غرف من جملة الغرف الألف للقصر الرسولي أو قصر الفاتيكان وهي جناح الاستقبال، والقسم العام من الشقق البابوية، وغرفة التوقيع وغرفة أثينا، فأنجز "رفائيل" جداريات جصية في غاية من الفنية والبحث الميثولوجي.

ومن أعماله الشهيرة التي رسمها بقصر الفاتيكان بين 1509 و1514 نذكر "الاحتفال بالقربان المقدس"، و"بارناس"، وهو جبل في بلاد اليونان تزعم الميثولوجيا اليونانية أنه مقرّ الإله "أبّلو"، وهي من ربّات الفنون ومهبط الإلهام الشعري، ولوحة "هوليودوري"، وهو كاتب إغريقي قديم، و"تجلّي السّيد المسيح" و"إنقاذ موسى".

 رسم النابغة "رفائيل" لوحات زيتية من أحجام مختلفة نذكر منها "زواج السيدة العذراء" والتي رسمها سنة 1504 وهي موجودة حاليًا بمتحف ميلانو

كما رسم النابغة "رفائيل" لوحات زيتية من أحجام مختلفة نذكر منها "زواج السيدة العذراء" والتي رسمها سنة 1504 وهي موجودة حاليًا بمتحف ميلانو، و"المرأة الشابة" التي رسمها بين 1518 و1520 والموجودة بقصر "بارباريي".

وتُوفيّ "رفائيل" سنة 1520 عن سن 37 سنة ليدفن بمقبرة كبار الشخصيّات بروما، وليخلّف مئات الأعمال الفنية والببورتريهات والجداريات العجيبة ذات النفس الفكري والميثولوجي التي تجسّد الإنسان في أبهى تجلياته.

رسم "رفائيل" لوحات زيتية من أحجام مختلفة 

 

اقرأ/ي أيضًا: الموهبة حسام خالد: خلقني الله رسامًا من وراء "البلايك"

ويمكن اعتبار الأعمال الأربعة عشر لـ"رفائيل"، التي تحتضنها تونس طيلة شهر مارس/آذار 2020 ضمن أنشطة متحفها للفن المعاصر برواق "المقام" بمدينة الثقافة، حفل ألوان لا تكلّ العين من النّظر إليه، فدقّة التنفيذ التي يقوم بها الرسام في أعماله لا تختلف كثيرًا عن الكاميرا الفوتوغرافية فهو يلتقط التفاصيل وما وراءها بلمسات باهرة. وقد قُدّمت هذه الأعمال بأسلوب تقني غير نمطي، فكل لوحة هي جهاز بمفرده يشتغل بوسائط إلكترونية يقدّم العمل بإضاءة خاصة تبرز قوام اللوحة وبهجتها وأدق تفاصيلها.

ومن ضمن الأعمال الهامة والشهيرة المقدمة ضمن المجموعة المعروضة في تونس، نجد لوحة "البابا ليون العاشر" المحفوظة في نسختها الأصلية في متحف "غاليري ديل أوفيتيري" في مدينة فلورنسا الإيطالية حيث عاش "رفائيل" بداية شبابه.

 لوحة "البابا ليون العاشر" من أشهر أعمال "رفائيل"

 

وأثارت هذه اللوحة مؤخرًا جدلًا واسعًا في الوسط الثقافي الإيطالي والأوروبي بعد استقالة اللجنة العلمية لمتحف فلورنسا بأكملها على إثر القرار الأحادي لمديرة المتحف الألمانية "إيكا شميد" بإرسال اللوحة للمشاركة في المعرض الرسمي بالقصر الرئاسي "سكوديري ديل كيرناله" بالعاصمة روما احتفاءً بالمائوية الخامسة لوفاة "رفائيل" بمشاركة عدة متاحف عالميّة مثل "اللوفر"، ومتحف "ناشيونال قاليري" بلندن، ومتحف مدريد ومتحف واشنطن. واعتبرت اللجنة العلمية لمتحف فلورنسا أن ما قامت به المديرة هو سلوك غير مسؤول في تحد لقرار علمي أُتخذ منذ ديسمبر/كانون أول 2019 يمنع إعارة ونقل 24 لوحة من مجموع رصيد المتحف لأي سبب من الأسباب نظرًا لهشاشتها.

بالنهاية، يمكن اعتبار حضور "رفائيل" إلى تونس حدثًا ثقافيًا ذا أهميّة بالغة لا بد من الترويج له حتى تبتهج العيون باللمسات الخالدة لأحد أساتذة الحركة الكلاسيكية الأولى زمن النهضة الأوروبية وأحد الملهمين الكبار لأغلب مدارس الرسم في العالم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفنان التشكيلي لمجد النّوري: الحروفية أعادت الرّوح لسبّورات المدارس (حوار)

عمار بلغيث.. رسام حوّل أحد كهوف جبال الكاف إلى فضاء للفن