16-سبتمبر-2019

العود إلى المدارس بالنسبة إلى التونسيين هو عود إلى الذّات ومواصلة النحت في كيانها (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

مقال رأي

 

في زحمة الموسم الانتخابي الساخن المراوح بين رئاسية سابقة لأوانها وتشريعية مثبّت موعدها في هذه الأشهر الأخيرة من سنة 2019، يطلّ موعد افتتاح السنة الدراسية في منتصف شهر سبتمبر/ أيلول كموعد مقدّس بالنسبة للمجتمع التونسي ليفتكّ الأضواء من السياسيين والأحزاب ويتصدر المشهد كحدث استثنائي.

العود إلى المدارس بالنسبة إلى التونسيين هو عود إلى الذّات ومواصلة النحت في كيانها بأزاميل المعاني والمعارف والعلوم والفنون اعتقادًا منهم بأن المدرسة هي أرض للحلم وسماء تخفّق في مداها أجنحة الحالمين، بل هي كنزهم الفريد، بها يجابهون صعاب الحياة وشدائدها، وهي أيضًا بالنسبة للفرد ذاك المكان السّحري الآسر يتوجّه إليه بحثًا عن بذور معاني الحياة، ففي المدرسة ينهل الفرد من القيم الإنسانية الكونية ويؤسس لعالمه المخصوص.

اقرأ/ي أيضًا: حتى لا يتحوّل القطاع الثّقافي إلى حطب انتخابي

لم يثن الطارئ الانتخابي المذكور وما حفّ به من حراك سياسي واتصالي المجتمع التونسي من الانشغال والاهتمام العميق بهذا الموعد السنوي الهام. لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا اللحظة هو: أي جديد يهم العودة المدرسية هذه المرة مقارنة بالسنة الدراسية الفارطة التي شهدت هزّات عديدة أثرت على الحياة المدرسية وكادت تعصف بها عصفًا؟

حوالي مليوني و174 ألف تلميذ معنيون بالتمدرس خلال السنة الدراسية 2019 ــ 2020 وهو رقم يشي أن المجتمع التونسي لا زال يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن المدرسة هي المصعد الأساسي للرقي والتطور والتقدّم. وبالرجوع إلى ما أعلنت عنه وزارة التربية من مستجدات سواء المعلنة في الندوة الصحفية السنوية التي عادة ما تسبق العودة بأيّام أو عبر المناشير والبلاغات المنشورة عبر موقع الوزارة لا نجد أي جديد جوهري يذكر.

حوالي مليوني و174 ألف تلميذ معنيون بالتمدرس خلال السنة الدراسية 2019 ــ 2020 وهو رقم يشي أن المجتمع التونسي لا زال يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن المدرسة هي المصعد الأساسي للرقي والتطور والتقدّم

وذلك باستثناء مواصلة عملية الترسيم عن بعد وسحبها على جميع المستويات التعليمية والتي شابتها إلى حد هذه اللحظة بعض التعثّرات الفنية من نوع الأخطاء في أسماء التلاميذ وتواريخ ميلادهم وعدم تنزيل جداول أوقاتهم، وأيضًا بطء الخدمات الافتراضية وخاصة الإرساليات الموجهة للأولياء رغم التزامهم بدفع جميع المستحقات المالية إلكترونيًا لصالح وزارة التربية، أو النيّة لبعث مركز وطني للصيانة تكون مهمته الأساسية صيانة آلاف المؤسسات التربوية التي تقادمت بنيتها التحتية.

وحسب أرقام وزارة التربية فإن نسبة اهتراء المؤسسات تصل الى حدود 80 في المائة وهذا يقودنا للحديث عن عدم جدية الوزارة في مراجعة طرق إدارة المؤسسات التربوية بالتكوين السليم للمسيرين في المدرسة الوطنية للإدارة وفتح باب التناظر وطنيًا للكفاءات وتحييد البيداغوجيين من التسيير وأن تكون هناك استراتيجيا خاصة بانتداب عملة مختصين والكف عن التشغيل الهش والمرتكز على الأساس الاجتماعي لأن كل ذلك أدى إلى تهاوي وعجز المؤسسات التربوية عن القيام بمهامها.

اقرأ/ي أيضًا: التونسي مواطن تفرّق دمه

إن وزارة التربية لم تعد عدتها جيدًا لعودة مدرسية مليئة بالأمل على الأقل في مستويين اثنين، ففي مستوى أوّل تقني وبيداغوجي لابد من الإشارة إلى تراخي الوزارة في تعاطيها مع لوبيات الأدوات المدرسية الذين لا يتوانون عن تهريب أدوات مسرطنة وضارة قادمة من الصين ومن غيرها، وأيضًا عدم جديتها في الحد من سطوة محتكري الكرّاس المدعم والذين يجبرون الأولياء على اقتناء كراسات يصل سعر بعضها إلى 20 دينار تونسي.

كما لم تذهب الوزارة إلى خفض وزن محفظة التلميذ التونسي وذلك برقمنة الكتب البيداغوجية وتحويلها إلى محامل رقمية على غرار ما يحدث في بلدان العالم لتبقى الأردن هي أول دولة عربية قامت بذلك ونجحت في النهوض بهذا الجانب.

وبالرغم ومن المؤشرات المخيفة والخطيرة فيما يتعلق باللغات وتراجع مستوى التلميذ التونسي في جميع المستويات التعليمية في اللغات، لم تفكر وزارة التربية في تفادي هذا الخطر ببعث مخابر للغات ومراجعة الضوارب ومزيد تكوين مدرسي اللغات وحثهم وتشجيعهم على التربصات في الداخل والخارج.

وفي مستوي ثان، يصفه المختصون والخبراء في التربية وعلومها بأنه على درجة من الأهمية ويتمثل أساسًا في غياب ميثاق عمل أخلاقي وفني بين وزارة التربية وشركائها الاجتماعيين الممثلين في تسع نقابات تربوية منضوية جميعها تحت راية الاتحاد العام التونسي للشغل، كبرى النقابات التونسية وأعرقها، ينظم العلاقة بينهما في مختلف الجوانب وذلك من أجل تفادي الهزات التي من شأنها أن تعطل سير العملية التربوية في البلاد.

من المسائل التي لم تعرها وزارة التربية أي اهتمام في حزمة مستجدات السنة الدراسية الجديدة هي النشاط الثقافي الذي بقي حبرًا على ورق

ويبدو أن ذلك لم يحصل البتة خاصة إذا وقفنا على تصريحات قياديي بعض نقابات التعليم التي أكّدت أن السنة الدراسية الحالية ستكون ساخنة ومرد ذلك هو عدم التزام الوزارة بمحتوى بعض محاضر الاتفاق وعلى رأسها ملف كل من المعلمين النواب والأساتذة النواب وأيضًا ملف العودة للتشغيل الهش عن طريق عقود المناولة التربوية.

ومن المسائل التي لم تعرها وزارة التربية أي اهتمام في حزمة مستجدات السنة الدراسية الجديدة، هي النشاط الثقافي الذي بقي حبرًا على ورق بالعودة للمناشير الوزارية القديمة والجديدة تجد أن الأرضية القانونية جد مشجعة لكن واقع الحال مختلف تمامًا.

ويمكن لنا هنا أن نشير إلى نقطتين وهما غياب الإطار التنشيطي المختص في الفنون والثقافة إذ مازال هذا النوع من النشاط موكولًا للمتطوعين من المربين ويحسب كساعات إضافية أغلبها لا ينجز إذ تغيب المتابعة والتوثيق. أما النقطة الثانية فتتمثل في غياب الميزانية الخاصة بالتنشيط الثقافي للمؤسسات التربوية وحتى إن وجدت فإنها لا تفي بالحاجة.

أما علاقة وزارة التربية مع النسيج المدني المختص فتبقى مشوبة بكثير من الحذر والعراقيل، فالإجراءات الإدارية الكثيرة وأمزجة مديري المؤسسات التربوية تخاذل العاملين عادة ما تكون عائقًا أمام الجمعيات من أجل التواصل الإيجابي مع التلاميذ والمدارس والمعاهد.

هذا فضلًا عن غياب خطة استراتيجية تعنى بالجانب الاعتباري والمعنوي الآخذ في الأفول والفتور داخل مدارسنا وهو ما يسميه أهل التربية بـ"منظومة القيم"، إذ تبدو المدرسة التونسية طاردة ومليئة بالعنف بجميع تمظهراته، وهي لعمري مسألة هامة وتتطلب نظرًا وتحقيقًا وحان الوقت أن تقلب وزارة التربية هذا الملف وتبحث له حلولًا مع جميع شركائها.

إن السنة الدراسة الجديدة 2019 ــ 2020، ورغم النقائص المذكورة، تبقى فرصة أخرى للمجتمع التونسي بمختلف مكوناته للحلم بمدرسة عمومية مجانية تقدم أفانين العلم والمعرفة وشتى بذور الثقافة والفنون للأجيال القادم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معركة الشعب.. معركة الوعي بين القديم والجديد

هل أثرياء تونس برجوازيون؟