04-فبراير-2019

عقد رجال أعمال تحالفات مع السلطة لحماية مصالحهم (صورة أرشيفية/سفيان الحمداوي/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

أُشتق مصطلح البرجوازية من كلمة "Bourg" وهي التجمع السكاني الذي يحمل ملامح المدنية، والبرجوازية هي طبقة اجتماعية ظهرت في أوروبا في أواخر القرون الوسطى تتوسط طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين الفقيرة. لعبت هذه الطبقة دورًا محوريًا في رسم الخريطة الفكرية والسياسية لأوروبا الجديدة بعد الثورة الفرنسية التي أعلنتها على طبقة النبلاء بالتحالف مع الطبقة الفقيرة.

وساهمت في بروز مفاهيم جديدة فكرية وثقافية واقتصادية، كما ساعدت في نشأة النظام الرأسمالي وهو ما يفسر أن الثقافة الفرنسية تغلب عليها البصمة البورجوازية، إلى أن ذهب البعض إلى حد وصفها بـ"الثقافة البورجوازية" التي تتميز بكثرة التدقيقات وتسيطر عليها البروتوكولات وتعقيدات "الإتيكيت"، كما أن اللغة الفرنسية أصبح يطلق عليها لغة الاحترام.

 لعبت الطبقة البرجوازية دورًا محوريًا في رسم الخريطة الفكرية والسياسية لأوروبا الجديدة بعد الثورة الفرنسية

هذه بعض مميزات الطبقة البرجوازية الأوروبية، فهل يمكن إسقاط كلمة البرجوازية على الأثرياء التونسيين؟

يقول أحد الباحثين في علم الاجتماع إنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال إسقاط مصطلح "البرجوازية" على الأغنياء في المنطقة العربية، فلا علاقة للبرجوازية الأوروبية ودورها التحديثي والتنويري بما تفعله الطبقات الثرية في العالم العربي.

ويؤكد الباحث أنه على متخصّصي السوسيولوجيا وعلم الاصطلاح "terminologie" والمؤرخين، إيجاد مصطلح بديل يشير إلى مفهوم دقيق ومحدد في هذا السياق لهذه الطبقة التي تجمع بين ملامح الإقطاعية القديمة، مع الاندماج في الرأسمالية العالمية الحديثة، مع غياب لأي دور إيجابي وتنويري نهضوي يؤثر في المجتمعات على المستوى الفكري والثقافي.

اقرأ/ي أيضًا: صفحة من تاريخ فساد تحالف السلطة والثروة في تونس..

لكن البرجوازية التونسية تخطت الدور السلبي إلى التآمر على الشعب التونسي من منتصف القرن التاسع عشر إلى زمن ما بعد الثورة، فلطالما كان للطبقة البرجوازية ارتباط وثيق بالسلطة وبمؤسسات الدولة.

تجربة أولى كانت قبل الاستعمار الفرنسي لتونس حينما عقدت البرجوازية التونسية والمتمثلة في عدد من رجال الأعمال على اختلاف مصادر ثرائهم تحالفًا مع قيادات الدولة ما تسبب، في نهاية الأمر، في انهيار ميزانية الدولة التونسية بعد هروب عدد من هؤلاء رجال الأعمال محملين بأموال الدولة التونسية إلى دول مثل تركيا وفرنسا، وهو ما تسبب تباعًا في تركيز ما سمي وقتها بالكومسيون المالي.

لم تؤكد الوثائق التاريخية إثر ذلك أي دور للبرجوازية التونسية في مقاومة الاستعمار الفرنسي على غرار البرجوازيات الأوروبية، بل على العكس سعت دائمًا إلى إرضاء المستعمر عبر عقد الشراكات معه لتسهيل عملياتها المالية والاقتصادية. 

وتوسعت هذه الطبقة بشكل لافت بعد السبعينيات إثر قانون 72 وعملية الانفتاح التي عاشتها تونس عقب تجربة التعاضد الفاشلة، ولم تتخل هذه الطبقة عن عاداتها فأقامت التحالفات مع نظامي بورقيبة وبن علي.

البرجوازية التونسية تخطت الدور السلبي في أحيان كثيرة إلى التآمر على الشعب التونسي من منتصف القرن التاسع عشر إلى زمن ما بعد الثورة

تتكون الطبقة البرجوازية في تونس من الأغنياء الذين تحصلوا على ثرواتهم سواء عن طريق الوراثة أو بسبب قربهم من رجال السلطة والسياسة، إضافة إلى نسبة معينة من كبار الموظفين والموظفين الفاسدين الذين مثل الفساد مصدر ثراء لهم.

كما صعدت بعد الثورة طبقة أخرى جديدة وهي المهربون الذي احترفوا تبييض الأموال وأدخلوا نسبة هامة من ثرواتهم في الاقتصاد الرسمي بمساعدة من البرجوازية التقليدية. وعلى خلاف الثورة الفرنسية، لم يكن للبرجوازية التونسية أي دور مساعد في الثورة التونسية لدحر النظام الدكتاتوري بل كان دورها سلبيًا للغاية بالنظر إلى علاقتها بالنظام، علاقة لم تتغير طبيعتها بعد الثورة.

اقرأ/ي أيضًا: عندما يصبح "الكناطري" في تونس رجل أعمال!

بل سعى عدد من رجال الأعمال إلى استغلال الوضع لصالحهم فتحدث البعض منهم باسم الثورة لعقد تحالفات مع أحزاب، ولعل أبرز الأدلة هو ما قاله رجل الأعمال الموقوف حاليًا شفيق جراية في تصريح إذاعي، في وقت سابق، حول شرائه لذمم بعض النواب، عدا أصلًا عن وجود رجال أعمال نافذين في البرلمان بعد ترشحهم على قائمات حزبية، لذلك يطلق البعض على البرلمان الحالي اسم برلمان رجال الأعمال.

وقد عمل هؤلاء على عقد تحالفات لحماية مصالحهم واستصدار قوانين لتسهيل أعمالهم. ولعل الدليل، في هذا الإطار، الأرقام التي تكشف التباين الكبير بين الضرائب على الشركات (تراجعت من 19 إلى 12 في المائة بين 2010 و2017) والضرائب على الاشخاص (ارتفعت من 21 إلى 29 في المائة خلال نفس الفترة المذكورة).

سمح تقرب هذه الطبقة من السلطة أيضًا من إفلات فاسديها من العقاب، إذ غابت المحاسبة والمساءلة رغم ما تضمنته تقارير عديدة حول تورط عديد رجال الأعمال في الفساد وبالخصوص على ضوء ما أورده تقرير الهيئة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة الفساد حول ما اقترفه رجال الأعمال زمن النظام السابق.

وقد كشف هذا التقرير عن فساد رجل الأعمال وصهر المخلوع بن علي مروان مبروك ما كبد الدولة خسائر بقيمة أكثر من 97 مليون دولار. بيد أنه اليوم بعد 8 سنوات من الثورة، تمكن مبروك من رفع التجميد عن أمواله في البنوك الأوروبية بعد تقربه من السلطة الحالية وإثر تدخل مباشر من رئيس الحكومة يوسف الشاهد.

 لم تتجاوب البرجوازية التونسية مع الدعوات المستمرة للاستثمار في المناطق الداخلية التي تحتوي على نسبة بطالة مرتفعة 

ولم تتجاوب، في الأثناء، البرجوازية التونسية مع الدعوات المستمرة للاستثمار في المناطق الداخلية التي تحتوي على نسبة بطالة مرتفعة بل إن بعض رجال الأعمال نقل مشاريعه إلى دول أخرى مثل المغرب.

من جانب آخر، سعى عديد رجال الأعمال إلى تجنب المشاريع ذات القدرة التشغيلية الكبيرة والقيمة الاستثمارية العالية مثل المصانع والشركات، وذلك بالاكتفاء بالاستثمار في مشاريع ذات قيمة مضافة ضعيفة على الاقتصاد الوطني وبقدرة تشغيلية محدودة مثل المقاهي الفاخرة والحانات وهي مشاريع حتى في حالة إفلاسها لا تسبب خسائر كبيرة.

وهي برجوازية تساند الفساد الاداري لأنه يمثل شريان الحياة بالنسبة لها، فهو من مصادر استمراريتها في ظل غياب منافسة شريفة تعتمد على معايير شفافة في توزيع الصفقات.

لئن خانت البرجوازية الفرنسية تحالفها مع طبقة بروليتاريا وذلك بالتحالف مع الجيش الفرنسي بتآمر مع الضابط من الأصول الإيطالية نابليون بونابارت ليصبح حاكمًا على فرنسا الجديدة في انقلاب عسكري، إلا أنه لا يمكن نكران مساهمة الطبقة البرجوازية في الثقافة الفرنسية والإرث الذي تركته في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية.

لكن في تونس ورغم ما اقترفته الطبقة البرجوازية في تونس في حق الشعب واقتصاد البلاد، إلا أن سلوكها وخياراتها لم تتغير بعد الثورة، بل لعلّها أصبحت أكثر تطرفًا في الدفاع عن مصالحها خاصة على حساب المصلحة العامة، وذلك بعد اتساع قاعدتها لتشمل لاعبين جدد ممن كدسوا الثروات بسبب استفحال آفة الفساد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. بلد العجائب السياسية

عن الاستثمار في مآسي الفقراء..