15-سبتمبر-2019

تُعتبر الانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها خامس تجربة اقتراع حرّ مباشر يخوضها المواطن التونسيّ بعد ثورة 2011 (ناصر طلال/ الأناضول)

 

تُعتبر الانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها يوم 15 سبتمبر/ أيلول 2019 خامس تجربة اقتراع حرّ مباشر يخوضها المواطن التونسيّ بعد ثورة 2011، وهو ما جعله يبلغ درجة متميزة من النضج الديمقراطيّ، إذ تحوّلت قاعات التصويت إلى فضاء ذي قداسة سياسيّة يحجّ إليه المؤمنون بالتداول السلميّ على الحكم كلّ أربع سنوات، ولم يكتسب الناخب هذا النضج بسبب تعدّد التجارب وتواترها فحسب، إنّما بفضل اختلافها وتنوّعها، إذ غمس المواطن التونسيّ إصبعه في الحبر الانتخابيّ مرّة لاصطفاء ممثّلي المجلس التأسيسيّ سنة 2011، وثانية وثالثة لتخيّر أعضاء مجلس النواب ثمّ رئيس الجمهوريّة سنة 2014، ورابعة لانتقاء المجالس البلديّة سنة 2018، وخامسة للمفاضلة بين ستّة وعشرين مترشّحًا لكرسيّ قرطاج في انتخابات استثنائيّة سابقة لأوانها بسبب الشغور النهائيّ في منصب رئاسة الجمهوريّة بعد رحيل الباجي قائد السبسي.

هذه الخبرة التي اكتسبها التونسيّون تشريعيًّا وتنظيميًّا كانت محلّ مدح وثناء من قبل العديد من المتابعين العرب والغربيين من سياسيين وإعلاميين.

اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات الرئاسية 2019.. انتخابات بلا نقاش ودون أفكار؟

التشويق والتهيّج العصبيّ

من العناصر التي تؤكّد ترسّخ الثقافة الديمقراطيّة في تونس صعوبة التّكهّن بالفائز في الانتخابات، وتبلغ هذه الصعوبة أعلى درجات التشويق حينما يحكم التردّد ضمائر حوالي نصف الناخبين أيّامًا وساعات قبل دخول الخلوة.

تدور الانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها في ظروف استثنائيّة تشريعيًّا وقضائيًّا وأخلاقيًّا وإعلاميًّا

بهذا تحوّل التشويق من الحيّز الرياضيّ والمجال الدراميّ إلى المقام الانتخابيّ، غير أنّ الإثارة إذا طالت واشتدّت قد تدفع بالمترشّحين والناخبين إلى الانفعال الشديد والتهيّج العصبيّ، وهي وضعيّة نفسيّة يمكن أن تخلّف ردود فعل متوتّرة ومتشنجة تتشكّل خاصّة من خلال مواقف الاحتجاج والتشكيك التي لم تنج منها الانتخابات السابقة سنوات 2011 و2014 و2018 رغم شبه الإجماع على نزاهتها وشفافيتها، ولئن اتخذت هذه المواقف في بعض الجهات طابعًا حادًّا عنيفًا فقد نحت في جهات ومقامات أخرى مسالك إعلاميّة وقضائيّة من خلال عقد الندوات ورفع عرائض التظلّم.

بذور الشكّ

تدور الانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها في ظروف استثنائيّة تشريعيًّا وقضائيًّا وأخلاقيًّا وإعلاميًّا، وقد تظافرت هذه العناصر كلّها لتساهم في تعقيد المشهد السياسيّ وإلقاء بذور الشكّ في النتائج مهما كانت وجهتها.

ويرجع هذا الحرج خاصّة إلى وضعيّة نبيل القروي مرشّح حزب قلب تونس إذ تزامن إيداعه السجن مع بداية الحملة الانتخابيّة، وتبعًا إلى ذلك فإنّ مروره إلى الدور الثاني أو إخفاقه نتيجتان تحملان بذور الرفض والتشكيك.

لن يقتصر التشكيك على ما ستؤول إليه النتائج الخاصّة بنبيل القروي فقط إنّما قد تشمل كذلك جلّ المترشحين

فنجاحه قد يكون محلّ احتجاج يمكن أن يستند إلى سببين، الأوّل أخلاقيّ يتمثّل في رفض قسم كبير من المواطنين تحوّل رجل أعمال تحوم حوله شبهات فساد من سجن المرناقيّة إلى قصر قرطاج، أمّا السبب الثاني فهو تشريعيّ، إذ يمكن العودة إلى الجدل الحاصل حول تنقيح القانون الانتخابيّ يوم 18 جوان/ حزيران 2019 الصادر عن مجلس النواب، وقد تضمن نقاطًا منها ما يجعل ترشّح القروي لاغيًا، لولا رفض الرئيس الراحل الإمضاء عليه، ورغم ذلك يصرّ بعض رجال القانون على إمكانية العمل بذاك التنقيح واعتباره نافذًا نظرًا إلى أنّ السبسي لم يعلن رفضه في الآجال القانونيّة.

في المقابل تحمل إمكانية فشل القروي في بلوغ الدور الثاني شروطًا موضوعيّة قد تدفع أنصاره إلى الاعتراض والتشكيك بحجّة أنّ مرشّح قلب تونس لم يستفد من مبدأ تكافؤ الفرض بين المترشّحين في الحملة الانتخابيّة.

اقرأ/ي أيضًا: المناظرات الرئاسيّة.. عن الأفكار والبرامج في السباق التونسي

تهافت الشكّ والتخوين

لن يقتصر التشكيك على ما ستؤول إليه النتائج الخاصّة بنبيل القروي فقط إنّما قد تشمل كذلك جلّ المترشحين بل يمكن أن يتخطّى الأمر مع عدد منهم مستوى التشكيك في بعض الشخصيات والأحزاب إلى درجة التخوين، لتأكيد ذلك يمكن عرض ثلاثة احتمالات:

الأوّل يتّصل بعبد الفتّاح مورو، ففي صورة فوزه ستسري على الألسن تلك المخاوف والشكوك المتّصلة برغبة النهضة في "التغوّل" والسيطرة على الرئاسات الثلاث، وهو أمر لم ينفه عبد الحميد الجلاصي القيادي بالحزب في حوار مع "ألترا تونس" حينما قال إن الحركة ستراهن على كلّ مواقع السلطة، أمّا في حالة الإخفاق فسيكون المجال خصبًا لعودة بعض الشكوك وتناميها، منها عدم جدّية النهضة في التطلّع إلى قرطاج وتلاعبها بالشيخ مورو، وقد يبلغ الشكّ درجة التخوين كأن تُرمى الحركة بتهمة قطع الطريق على المنصف المرزوقي الذي كان قد استفاد في انتخابات 2014 من خزّان الإسلام السياسي، ويأمل هذه المرّة في إعادة الكرّة.

هذه الشكوك والتخوينات فيها ما يتّصف بالواقعيّة والموضوعيّة وفيها ما نراه أقرب إلى الافتراء والتلفيق والخيال والعبثيّة

الاحتمال الثاني يرتبط بصعود عبد الكريم الزبيدي، فقد يفضي نجاحه إلى شكوك توحي بسعي الساحل إلى إعادة السيطرة المطلقة على مقاليد الحكم، كما يمكن أن تذهب الظنون بالبعض إلى استعداد هذه الشخصيّة للوقوف مع محور ضدّ آخر في الصراع العربي، وهي ظنون تنتعش كلما تزايد دعم الإعلام المصري والإماراتي لهذا المترشح، ويخشى بعض المتابعين أن يقع الزبيدي في ما وقع فيه الرئيس الأسبق المنصف المروزقي الذي دائمًا ما يُتهم من خصومه بميله إلى ما يُسمّى "المحور القطريّ التركيّ".

الاحتمال الثالث يتعلق بفوز يوسف الشاهد، إذ يمكن رميه بادعاءين أوّلهما استفادته من إزاحة بعض خصومه ومنهم خاصّة نبيل القروي وحافظ قائد السبسي، وثانيهما اعتباره العصفور النادر الذي راهنته عليه النهضة في الخفاء، ويستندون في ذلك إلى دعمها له في معركته ضدّ الرئيس الراحل وردّه الجميل للحركة بأن ساهم في تفكيك نداء تونس من الداخل، فأكسبها معركة حاسمة ضدّ منافسها الأكبر.

هذه الشكوك والتخوينات فيها ما يتّصف بالواقعيّة والموضوعيّة وفيها ما نراه أقرب إلى الافتراء والتلفيق والخيال والعبثيّة، صحيح أنّنا إزاء مجال سياسيّ إنسانيّ يهيمن فيه الإخفاء والإضمار والمراوغة ويحتمل التنسيب والظنّ وتعدّد القراءات، غير أنّ ذلك لا ينبغي أن يفضى إلى هذه الألوان من الاستخفاف في رمي التهم والتعسّف في الفهم والتسرّع في التأويل، حسبُنا دليلًا على هذه الفوضى في تقدير المشهد الانتخابيّ أنّ إعلان حركة النهضة عن ترشيح عبد الفتاح مورو لم يرفع عنها تهمة "المرشح الخفي" الذي ظلّ لدى بعض المتهافتين بمثابة اللغز، فهو الشاهد عند هذه الفئة، وهو الزبيدي في حسبان تلك المجموعة، (رغم تبرؤ هذا وذاك من إمكانية التحالف مع الإسلام السياسي)، وهو قيس سعيد بالنسبة إلى هؤلاء، ولم ينج من هذه التخمينات غير عدد من اليساريين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من أبطالها الرياحي والشاهد ومورو والزبيدي.. حمّى الأكاذيب والتكذيبات

تفكّك العائلات السياسيّة: عداوة "الكار" من المهن إلى السياسة