28-أبريل-2019

التّوافق لا يكون محمودًا إلّا إذا انبنى على مبدأ خدمة المواطن (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

إنّ مَثَلَ التونسيّ هذه الأيّام بعد سنوات ثمانٍ من الثّورة كَمَثَلِ جريحٍ، أُخذ غدرًا في ليل أسود حزين، أفاق دامِيَ الرّأس والوجه واليدين على وقع عدسات المصوّرين وثرثرة السّياسيين وعربدة المتطفّلين، جاؤوا محتجّين نوّاحين، كلٌّ منهم يُبرّئ نفسه ويتّهم الآخرين. بدأ التحقيق في الجريمة فطفت على جسد هذه الضحيّة بصماتهم أجمعين، فتحوّل المنذرون منهم والمتوعّدون إلى ركن المـتّهمين المذنبين، لكنّ اللّجنة أقرّت أنّ الجاني في عداد الفارّين، وتلك البصماتُ أصحابُها أبرياء كانوا قد أمسكوا المُصابَ، وحملوه منجدين منقذين، قال الحكيم في ثقة ويقين: "مسكين هذا الجريح لقد تفرّق دمعه بين كافّة الحاضرين".

اقرأ/ي أيضًا: عفوًا انتهى رصيدكم النضاليّ

ذاك شأن المواطن التونسيّ، لقد أفسدت عليه الأكاذيب والمغالطات سبل معرفة مصدر الأزمة الشاملة التي وقع فيها، أزمةٍ عصفت بأمنه، وأتلفت قوته، وعاثت ببيئته، وخرّبت أسرته، وهدّدت حياته، وشوّهت سِحْرَ وجوده.

لستُ معنيًا في هذا المقام بتعديد وجوه هذه المأساة وآياتها وألوانها، فتراجُعُ كلّ مؤشّرات الخير والحقّ والجمال والسّعادة في تونس آية تُقرّها الصُّور والأرقام وسائر التّقارير الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

هذا اليقين المقترن بجسامة الأزمة وشدّة الضّائقة تُعادلُهُ حيرة في تعيين الطرف المتسبّب فيها وتردّدٌ في تحديد العناصر المساهمة في استفحالها وارتباكٌ في ضبط الأسباب الموضوعيّة التي خلّفت ما يُعانيه المواطن ويُعايِنُه من فوضى وتفكّك وإجرام وفساد.

من ثورة العزم إلى ثورة الشكّ

قبل الثورة، كان الشّباب المتمرّد وحتّى المُهادن والمناور عارفًا خصمَهُ الحقيقيَّ مُوقنًا من عدوّه الأصليّ، مدركًا غريمه الأساسيّ، فتمكّنت هذه الفئة بفضل وُثوق الحُكم وصفاء الرّؤية من حصر مساحات النِّزال الاحتجاجيّ، ومجالات التحرّكات النضاليّة. فكان المقصد جليّا، وكانت الوِجهة ساطعة وضّاحة تمثّلت في  رأس النّظام وأسرته وحزب التّجمّع والعنصر القمعيّ من الجهاز البوليسيّ،  وعبَّر المنتفضون عن ذلك بشعارات واضحة صريحة خالية من المُداهنة والمواربة والمداراة "يسقط جّلاد الشعب، يسقط حزب الدستور" و"Ben Ali dégage" (ارحل بن علي).

كان الشّباب المتمرّد وحتّى المُهادن و المناور قبل الثورة عارفًا خصمَهُ الحقيقيَّ مُوقنًا من عدوّه الأصليّ ومدركًا غريمه الأساسيّ، فتمكّنت هذه الفئة من حصر مساحات النِّزال الاحتجاجيّ

أثمر هذا اليقين الثّوريّ ثباتًا على الموقف وقوى الإرادةَ وشحذ العزائم، ذلك أنّ التحقّق من الأسباب يُعتبر في علم النفس وفي الفلسفة الشّرط الضروريّ للحركة في ثقة وثبات وإقبال واندفاع. في هذا السياق عرّف جميل صليبا العزم قائلًا: "هو مرحلة من مراحل الفعل الإراديّ التّامّ، وهو النهاية الطبيعيّة للتّفكير في الأسباب الداعية إلى الفعل" ( المعجم الفلسفيّ، الجزء الثّاني، ص73، دار الكتاب اللّبنانيّ، بيروت لبنان، 1982).

اتّضحت أسباب الأزمة في عهد بن علي، وسكنت أذهانَ المنتفضين وأنفسَهم، فانجلت معالم الطريق نحو الحريّة والكرامة، في المقابل اختلطت الأمورُ بعد الثورة، فتحوّلت الأوضاع المتردّية من مجرّد مشكلة يمكن تشخيصُها وربطها بدوافعها وأسبابها إلى إشكاليّة أو معضلة تتداخل فيها العناصر الجزئيّة والكليّة. فلا يستطيع المتضرّر أن يحصر أصل البليّة، ويُعيِّن مرتكب الجرم وصاحب الإثم، و وهو ما يُفضي سلوكيًا إلى العجز عن التمييز وضعف الإرادة، ذلك أنّ الإرادة حسب المعجم الفلسفيّ للالاند (Lalande) هي "التصميم الواعي ويشترط أن يتصوّر الفاعل الأسباب الداعية".

هذه الوضعيّة المُحرجة أتاحت لكلّ طرف من الأطراف السّياسيّة والاجتماعيّة المتضادّة والمتنافسة والمتباينة حيلًا تأثيريّة وإقناعيّة، تجعل السّامع يلتمس لكلّ متكلّم عذرًا، فتَضِيعُ مطالبُه هدْرًا. فحينما فشلت حكومة "الترويكا" اقتصاديًا وأمنيًا استطاعت أن تُقنع أنصارها والمتعاطفين معها وناخبيها وعددًا من المحايدين ببراءتها وطهارتها وحسن نواياها، واحتمت بسرديّات الدولة العميقة التي تضع العصا في العجلة، وحكايات التدخّل الخارجيّ ذي النّزعة الاستعماريّة، وقصّةِ موروث الفشل النوفمبريّ الذي يقتضي لفداحته دهرا لمعالجه.

لكّلٍ حقيقتُه

تواصل الخطاب التبريريّ مع كلّ الحكومات اللّاحقة حتّى أصبح سُنّة في تعويم القضايا والإفلات من المحاسبة، وظلّ حقّ المواطن ضائعًا في متاهات التملّص من المسؤوليّة. وقد ركب رئيس الحكومة يوسف الشّاهد كغيره هذا المطيّة السحريّة شأنه شأن سابقيه، ففي 15 نوفمبر/ تشرين الثّاني2017 خاطب أحدَ محتكري البطاطا قائلًا: "أنا اللّي نشكي بيك" هذه العبارة بسيطة وجيزة غير أنّ أثرها في المواطن بعيد المدى، إذ تدعوه إلى مراجعة معاييره التّقييميّة. فقد أصبحت الحكومة في موقع الضحيّة، وهو ما يحثّ على تصويب سِهام الاحتجاج إلى وجهات أخرى.

تواصل الخطاب التبريريّ مع كلّ الحكومات اللّاحقة حتّى أصبح سُنّة في تعويم القضايا والإفلات من المحاسبة وظلّ حقّ المواطن ضائعًا في متاهات التملّص من المسؤوليّة

 وفي خطاب ألقاه الشّاهدُ يوم 17 أفريل/ نيسان 2019، ندّد رئيس الحكومة بالفوضى وعبّر عن استيائه من عدم احترام المؤسّسات، وكشف عن قلقه من "ناس ماهيش فاهمة الديمقراطيّة"، وأظهر انزعاجه من "المطلبيّة المشطّة وابتزاز الحكومة". وأفصح عن سرّ هذه التجاوزات التي تبدو بالنسبة إليه مرتبطة بأغراض انتخابيّة، هذه المضامين تتناسب مع الشّعار الأبرز الذي رفعه الشّاهد "لازمنا لكلنا ناقفوا لتونس" وترجمه لاحقًا في سياق آخر بعبارة " كُلْ وَاحِدْ يْنَقِّصْ شْوَيَّهْ مِنْ رُوحُو، وْمُوشْ كُلْ شَيْ عَلَى الدَّوْلَة والحكومة".

اقرأ/ي أيضًا: معركة الشعب.. معركة الوعي بين القديم والجديد

لسنا معنيين في هذا المقام بتصديق حجج رئيس الحكومة أو تكذيبها إنّ ما يعنينا هو وقعُها على المتلقّي البسيط، فهذه الحجج وأمثالها تزيد في تشتيت ذهن المواطن وتُطيل تردّده في ضبط أسباب الأزمة وتحديد سبل مواجهتها ومعلومٌ أنّ التردّد إذا طال "كان مضيعة للوقت وغلّا للإرادة وسقمًا للروح والجسد". وهو من العوامل التي جعلت التّجمّعات الشّعبيّة تفقد زخمها وحماستها وطابعها "المليونيّ" رغم النّداءات المتكرّرة من هنا وهناك، وآخرها دعوة الجبهة الشّعبيّة على لسان المنجي الرّحوي يوم 1 أفريل/ نيسان 2019 إلى الاحتجاج على قرار التّرفيع في أسعار المحروقات.

التّوافق وتواطؤُ الأضداد

يلجأ المواطن المهضومة حقوقه عادة إلى طرف سياسيّ أو حقوقيّ أو نقابيّ بحثًا عن الحماية وطلبًا للدّعم والمساندة خاصّة في ظلّ نظام مستبدّ، هذا المنفذ بات مهدّدًا في إحدى مراحل التوافق بين الأعداء والخصوم. فقد تشكّلت الحكومة الثامنة برئاسة يوسف الشّاهد بمقتضى وثيقة "قرطاج 1" سنة 2016 تلك التي وقّعتها تسعة أحزاب وثلاث منظّمات كانت قبل ذلك متباينة شديد التباين في خطاباتها ومرجعيّاتها. هذا التوافق إن قرأناه قراءة تثمينيّة قلنا إنّه قد كان خطوة نحو التأليف بين القلوب والعقول والبرامج، وإن واجهناه مواجهة موضوعيّة نقديّة انتهينا إلى أنّه توافق يمارس ضربًا من الحصار على المواطن، ويسلبه بعض القوى المؤثّرة والفاعلة التي يُفترض أن تكون دائمًا في صفّ الموظّفين وعامّة الشّعب، ومنها الاتحاد العام التونسي للشغل

فقد تحوّلت هذه المنظّمة آنذاك إلى شريك في الحكم رغم ما أعلنته من شروط واحترازات، وأقبلت بعضُ الأحزاب اليساريّة كالحزب الجمهوري وحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي على التقاط نصيبها من الحقائب الوزاريّة، ولَبِس جلّ الشّركاء جبّة المحافظين المتمسّكين بأولويّات الاستقرار وإلزاميّة إحلال النّظام، فلم يعد على سبيل المثال إياد الدهماني الوزير المكلّف بالعلاقة مع مجلس النّوّاب مهوُوسًا بالعدالة الاجتماعيّة وهموم المدن المنسيّة، وما عاد سمير الطّيّب وزير الفلاحة شغوفًا بكشف الحقائق والتّصدّي للمخاطر التي تتهدّد الحرّية.

 إذا قام التّقارب بين الخصوم السّياسيين على المُحاصصة وتبادل المصالح فإنّ هذا من شأنه أن يُفضيَ إلى ضياع حقّ المواطن

هذا الائتلاف الحاصل بعد فرقة واختلاف غذّى في المواطن هواجس الخوف من الوِدَادِ المفضي إلى التّستّر على الفساد، فاشتدّت في النّفوس الخشية من تواطؤ الفُرقاء على الفقراء والبسطاء. وسرى في الأذهان وعلى الألسن تصوّر يائس سوادويّ نمطيّ مفاده أنّ السّياسيين حكّامًا ومعارضين لا خير يُرجى منهم، فإن اختلفوا جرّوا البلاد عن قصد أو عن غير قصد إلى الفوضى والإرهاب، وإن تصالحوا جعلوا المواطن يتجرّع فواتير العذاب، ويدفع وحده الحساب، وينال، إن لم يصبر على المحن، شرّ التّشويه والعقاب.

هكذا يتبيّن أنّ التّوافق لا يكون محمودًا إلّا إذا انبنى على مبدأ خدمة المواطن وحمايته وإنقاذه، أمّا إذا قام التّقارب بين الخصوم السّياسيين على المُحاصصة وتبادل المصالح وترتيب المصالحات وعقد الصّفقات واعتماد رياضة التلويح بالملفّات ومنطق خُذْ وهات، فإنّ هذا من شأنه أن يُفضيَ إلى ضياع حقّ المواطن ضياعًا يجعل دمه وماله وعرضه مستباحًا مهدورًا ومفرّقًا بين الفُرقاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حمّى المبادرات المواطنية.. الطبيعة تأبى الفراغ

ديمقراطية بلا ديمقراطيين...