مقال رأي
لم يصبح لدى الرئيس التونسي قيس سعيّد من إجابة على ارتفاع نسب التضخم وصعوبة توفر بعض السلع سوى كلمة واحدة "الاحتكار"! هنا يكمن معنى المؤامراتية. إذ لا يمكن نفي المؤامرة، وهنا مثلاً الاحتكار، بوصفها جزءًا أصيلًا من الواقع. يبقى أن المؤامراتية هي السعي لتفسير الواقع فقط من زاوية المؤامرة.
المؤامراتية يمكن أن تتحوّل من سردية حجاجية لتبرير القصور وحشد الأنصار إلى فخ يتسبب في اهتراء المصداقية
المشكل بالنسبة للرئيس هو أنه يمكنك أن تردد بكل أريحية سردية مؤامراتية كلما كنت في كرسي المعارضة، لكن سيصعب ذلك كثيرًا عندما تكون في كرسي السلطة: سيجيبك أي شخص، "وماذا تفعل بالسلطة لم لم تكشف بعد المؤامرة؟". المؤامراتية يمكن أن تتحوّل من سردية حجاجية لتبرير القصور وحشد الأنصار إلى فخ يتسبب في اهتراء المصداقية.
أمضى الرئيس قيس سعيّد منتصف الأسبوع الماضي قرضًا من بنك الإعمار الأوروبي بقيمة 150 مليون يورو ضمن برنامجه "الصمود الغذائي" وهو أحد مكونات برنامج دولي أشمل لتوفير نوع من الوسادة لتخفيف شطط ارتفاع أسعار المواد الأساسية عالمياً بسبب آثار كورونا ثم الحرب الروسية في أوكرانيا.
القرض موجه بشكل مباشر وإسمي لديوان الحبوب لكي يدعم قدراته المالية لاشتراء الحبوب. يأتي ذلك إثر الصعوبات التي اعترضت المؤسسات التي تمثل الدولة في الشراءات والعروض الدولية بما في ذلك ديوان التجارة سواء لاضطراب سلسلة التزويد (supply chain) عالميًا أو بسبب صعوبات الأطراف التونسية في توفير السيولة. مثلاً ديوان الحبوب يعاني من تراجع ثقة البنوك التونسية ذاتها بسبب ديونه المتراكمة ومن الجهة الأخرى الارتفاع المطرد للأسعار وهو ما يتجاوز توقعات الديوان ومن ثمة ميزانيته المرصودة.
تواصل الحكومة بالتعاون مع البنك المركزي الاعتماد على آلية الاقتراض الداخلي وهو ما سيؤثر على توفر السيولة ولا يمكن أن يكون حلًا مستديمًا في ظل ارتفاع النفقات التي تستوجب عملة صعبة
وتواصل الحكومة التونسية حتى الآن بالتعاون مع البنك المركزي الاعتماد على آلية الاقتراض الداخلي وهو ما سيؤثر على توفر السيولة ولا يمكن أن يكون حلًا مستديمًا في ظل ارتفاع الالتزامات المتعلقة بالنفقات التي تستوجب عملة صعبة، إضافة إلى سياق تواصل ارتفاع أسعار المواد الأساسية والمحروقات في الأسواق العالمية بنسب قياسية، إضافة إلى صعوبة توفرها والصعوبات في الإمدادات.
ولعل تصريحات مسؤولين رسميين تونسيين من وزارة الطاقة في جوان/يونيو الماضي حول صعوبات توفير التمويل لضمان شراء المحروقات هي دليل على حساسية هذا الموضوع وإمكانية تأثيره على تأمين حاجات تونس من المواد الطاقية.
في اجتماعات الربيع الماضي لصندوق النقد الدولي تم الإقرار الرسمي لبرنامج "Resilience and Sustainability Trust" والذي تم إحداثه كآلية خاصة موجهة لدول الجنوب ولاسيما منها الدول الإفريقية في مواجهة مخاطر الجوع.
وفي هذا السياق، تحصلت تونس على مساعدات أوروبية جديدة. إذ تم في آخر شهر ماي/آيار الإعلان عن صرف 300 مليون يورو وهي القسط الثاني من قرض بقيمة 600 مليون يورو لدعم الميزانية في مواجهة آثار جائحة كوفيد-19 (تحصلت تونس على القرض في شهر ماي/آيار 2021).
كما أعلن الاتحاد الأوروبي في ذات الفترة أنه منح قرضًا آخر بقيمة 150 مليون يورو لديوان الحبوب لدعم شراءات تونس للحبوب في سياق ارتفاع أسعارها في السوق العالمية إثر الحرب الروسية. ومن الواضح أنه بالنسبة لدول أوروبية مثل إيطاليا بدرجة أساسية وفرنسا أيضًا، سيكون النظر إلى الملف التونسي في سياق الضغوط الطارئة التي خلقتها أجواء الحرب الروسية ليس فقط من زاوية تقييم المسار السياسي الداخلي ومدى تهديده للديمقراطية بل أيضًا موضوع انفلات الوضع الاقتصادي وآثار ذلك الاجتماعية خاصة تزايد موجات الهجرة غير النظامية.
يفضل سعيّد سردية مؤامراتية تركز أساسًا على مقولة الاحتكار تسمح له بإلقاء اللوم دائمًا على خطر قابع في غرف مظلمة
الرئيس قيس سعيّد يتبع سياسة مزدوجة: خطاب مؤامراتي لا يسمح بأي حال من الأحوال القبول بسردية مركبة تعكس تعقيدات الواقع حيث عوامل ارتفاع الأسعار متعددة وحيث أنه كممثل للدولة مسؤول عن التخفيف من آثار هذه التعقيدات. يفضل عوضًا عن ذلك سردية مؤامراتية تركز أساسًا على مقولة الاحتكار تسمح له بإلقاء اللوم دائمًا على خطر قابع في غرف مظلمة.
وقد توالت تصريحات غرف تجارية مختلفة ومنها الخاصة بتعليب المياه والتي تلقي اللوم ضمنيًا على سياسة الرئيس في التسبب في ندرة قوارير المياه بسبب تهديده بعقوبات صارمة على أي شبهة احتكار حتى المعنيين بالتخزين الدوري مما تسبب في تخوف المزودين من أي عمليات تخزين خوفًا من خطر السجن.
هذه الازدواجية من سعيّد بين سياسة يتم تسويقها في صفحة الرئاسة والأخرى مع المانحين الدوليين لا يمكن أن تصمد طويلاً، مأزق الشعبوية الأساسي هو في تحملها مسؤولية السلطة وتشبثها بذات الخطاب والذهنية التي أوصلتها إليها
في المقابل على مستوى السياسة الفعلية هو عمليًا ذاهب في اتجاه البحث عن دعم مالي دولي لتجاوز أزمة ذات بعد دولي. سواء البنوك الأوروبية أو البرامج التي تخص المؤسسات المالية الدولية من صندوق نقد أو بنك دولي، هي الطرف المفاوض الفعلي. هذه الازدواجية وخاصة الحرص على ترك مسافة بينهما، واحدة يتم تسويقها في صفحة الرئاسة والأخرى في الرائد الرسمي والاتفاقات الدولية، لا يمكن أن تصمد طويلاً. مأزق الشعبوية الأساسي هو في تحملها مسؤولية السلطة وتشبثها بذات الخطاب والذهنية التي أوصلتها إليها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"