مقال رأي
الوباء بوصفه مناخًا استثنائيًا يصل إلى الإحساس بتهديد وجودي، وبمعزل عن واقع ذلك، هو أيضا مناخ خصب لظاهرتين: الأولى سلبية للغاية والثانية إيجابية تمامًا.
تتعلق الأولى بالانجراف المهووس بالمؤامراتية الفجة التي لا تنبني على أي معطيات جدية، أما الثانية فتتعلق بانقلاب الصور النمطية (stereotypes) إذ يمكن أن يتعرض من يمتثل "التفوق" على الآخر إلى ضحية لسلطة الطبيعة التي لا تعترف بالتمييز.
المشكل في "المؤامراتية الفجة" هو استسهال تخيّل المؤامرة بدون أدلة جدية وعدم القدرة على تقبل حدوث أمور عرضية وبالصدفة
لنبدأ بالمؤامراتية الفجة، فممّا لا شك فيه أن هناك مؤامرات، لكن المشكل في "المؤامراتية الفجة" هو استسهال تخيّل المؤامرة بدون أدلة جدية وعدم القدرة على تقبل حدوث أمور عرضية وبالصدفة. ويصل الأمر الى دائرة مثيرة للسخرية من المتناقضات. يمكن مثلًا أن نستعرض مراحل ومسار نظريات المؤامرة في علاقة بفيروس "كورونا" كما يلي:
أولًا، المؤامرة المؤسسة التي أطلقها المؤامراتي الفج كانت أن "أمريكا صنعت كورونا وأرسلته الى الصين لتدميرها"، ولكن انتشرت "كورونا" في أماكن أخرى.
ثانيًا، ينتقل صانع المؤامراتية الفجة ببساطة وبدون أن يرف له جفن إثر ذلك إلى فكرة أخرى: "لم توجد كورونا كان في الصين وإيران والدول الفقيرة فقط ولا توجد في الغرب؟!"، ولكن انتشر فيروس "كورونا" في الغرب خاصة في أوروبا.
اقرأ/ي أيضًا: نصف الوباء السلوك البشري: الاستخفاف والهلع
ثالثًا، ينتقل المؤامراتي الفج إلى سؤال "لماذا لم تصل إذًا إلى أمريكا وإسرائيل؟ هذا افضل دليل على المؤامرة"، فإذا بها تدخل دخلت إلى أمريكا وإسرائيل، لكن في المقابل الصين تسيطر على "كورونا".
رابعًا، لا يجد المؤامراتي الفج أي مشكل في الانقلاب على الأطروحة المؤسسة ويعتبر أن "كورونا اختراع صيني ضد أمريكا وأوروبا لسحب الأسهم الأوروبية والأمريكية من الشركات المختلطة الناشطة في الصين!!".
والظاهرة الثانية هي انقلاب الصور النمطية، وأهم مثال ما يحدث في إيطاليا. إذ لدينا في الأيام الأخيرة إيطاليون يهربون إلى إفريقيا هربًا من "كورونا"، ويجب أن نتوقع أن بعضهم سيأتي أيضًا الى تونس مثلما فعلوا بعد الحرب العالمية الثانية هربًا من الفقر، وجوازاتهم تسمح لهم بذلك بدون الحاجة لتأشيرة، ولنتخيّل في المقابل آفارقة يهربون من "إيبولا" إلى إيطاليا!
أيضًا المنطقة التي تمثل أحد معاقل أقصى اليمين الإيطالي (لومبارديا) المعادي للأجانب هي التي اصبحت منطقة طاردة للسكان ومعزولة، وأصبحت، من جهة أخرى، جوازات السفر الإيطالية في المطارات مصدر شبهة.
وأخيرًا، يمكن أن نرى في الأسابيع القادمة طواقم مساعدات قادمة من الصين (ذلك البعيد الذي طالما تعرض في الغرب إلى وسم الدونية) في إيطاليا تساعد الحكومة على محاصرة فيروس "كورونا".
المنطقة التي تمثل أحد معاقل أقصى اليمين الإيطالي (لومبارديا) المعادي للأجانب هي التي أصبحت منطقة طاردة للسكان ومعزولة
الفكرة ببساطة أن الصورة النمطية خاصة "التفوق القومي/العرقي" لدى بعض الإيطاليين ولدى بعض الأفارقة عن إيطاليا والآخر يمكن أن تنقلب رأسًا على عقب بسبب الوباء ولو بشكل مؤقت.
في الحالتين، انتشار المؤامراتية أو انقلاب النمطية، نحن إزاء أمر طبيعي وبشري تمامًا. إذ أنه، من جهة أولى، لا يمكن بسهولة تحمل التهديد الوجودي بدون إيجاد سردية "منطقية" تتجاوز التفسير البسيط للتهديد القائم في الطبيعة منذ الأزل.
ومجرد وجود عرضي لجرثومة أمر لا يُطاق بسهولة، اذ احتاج الإنسان عبر العصور إلى إسقاط سردية تجعل الأمر مدبرًا بليل وأنه ليس مجرد ضحية للصدفة. ومجرد التفكير أن الموت يمكن أن يكون نتيجة للصدفة أمر أكثر رعبًا من الموت نفسه.
من جهة ثانية، ليس أقوى من التهديد الذي تطلقه الطبيعة لإسقاط التمثلات العلوية ونظريات التفوق، إذ معها لا تصمد أي نظرية استعلاء، ويصبح الإسقاط العنصري تافهًا وغير قادر على المحاججة في الأدنى.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف تفاعل التونسيون مع فيروس كورونا؟.. قراءة سوسيولوجية ونفسية