18-سبتمبر-2022
الفلاحة في تونس

ما الذي أدّى إلى تدهور منظومات الإنتاج في تونس؟ (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

طغى النقاش السياسوي – القانوني في تونس منذ سنوات واحتلّ الفضاء العام، حاجبًا المشاكل الهيكليّة التي تعاني منها الدولة التونسية منذ عقود طويلة. فقد كان الجانب التشريعي (وهو مهمّ) حاضرًا بقوّة في تونس ما بعد الثورة ولكنّ الأمور لم تتطور من طرف أصحاب القرار ولم يتمّ توظيف هذا الجانب ليمسّ الحاجيات اليوميّة للمواطن التونسي.

غلال، خضار، لحوم حمراء وبيضاء، حليب.. كلّها منظومات إنتاج تمّ إرساؤها منذ ستينيات القرن الماضي تدريجيًّا عندما كان المواطن في قلب التخطيط السياسي. اليوم، وأمام اتساع رقعة الخطر وانهيار هذه المنظومات، بات التونسي مهدّدًا في قوته اليومي.

فما الذي أدّى إلى تدهور منظومات الإنتاج في تونس؟ وإلى أيّ مدى ساهمت السياقات الدولية والحرب الروسية الأوكرانية خاصة في تسريع الأزمة؟ وكيف يمكن أن يقف هذا النزيف؟ وهل تتبّع الحكومة التونسية الإجراءات المناسبة لإصلاح الوضع؟

 

 


  • منظومات الإنتاج: غذاء المواطن هدف دولة الاستقلال

منذ أواخر ستيّنيات القرن الماضي، ومع بداية تركيز ملامح النظام السياسي، كانت دولة الاستقلال تهدف إلى تحقيق نوع من الحدّ الأدنى المعيشيّ للمواطن التونسي. وقد وضعت مجموعة من الأهداف على بساطتها كانت مهمّة والوصول إليها يتطلّب تخطيطًا محكماً واستراتيجيّات دقيقة. ولعلّ أبرز هذه الأهداف هي بطن المواطن. نعم. العقل السياسي آنذاك كان على يقين أنّه لا يمكن أن تنهض دولة يعاني شعبها الجوع. لذلك، سعت الدولة إلى المحافظة على غذاء العائلة التونسية. وهو ما جعلها تركّز منظومات إنتاج في اللحوم والألبان والحبوب.

لقد اختارت دولة الاستقلال أن تتدخّل من خلال تعديل السوق وتوفير اللحوم الحمراء والبيضاء والحليب وغيرها لكن هذا النموذج بات مهدّداً اليوم في تونس بعد تعدّد الأزمات وندرة بعض المواد 

والحقيقة أنّه منذ بداية السبعينيات، كانت الاستراتيجيا قائمة على دعم الفلاحين لتعزيز الإنتاج ومحاولة الدفع نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحليب مثلًا بعد أن كنّا من الدول التي تستورد احتياجاتها من هذه المادّة.

لقد نجحت الدولة في تغيير نمط استهلاك التونسي خلال عقدين من الزمن. فمن التخزين الذي تعتمده العائلة التونسيّة والمعروف بـ"المونة/ العولة" لإيجاد مواد موسميّة في غير فصلها، إلى نوع من الوفرة من خلال مضاعفة الإنتاج وتعصير الفلاحة ومساندَة الفلاحين.

لقد اختارت الدولة منذ السبعينيات أن تتدخّل من خلال تعديل السوق وتوفير اللحوم الحمراء والبيضاء والحليب والخضار. وهي عناصر مهمّة تحضر بقوّة في العادات الغذائيّة للعائلة التونسية. وقد دام هذا النموذج – رغم العديد من الهنات – لمدّة سنوات طويلة ونجح في توفير الحد الأدنى المضمون من الغذاء. وهو أمر بات مهدّداً اليوم في تونس بعد تعدّد الأزمات وندرة بعض المواد التي كانت الدولة في الأمس القريب تعتبر توفيرها أمرًا يرتبط بالأمن القومي.

 

 

  • تخلّي الدولة عن دورها: هل رُمي المواطن في براثن الجوع؟

تخلّت الدولة تدريجيّا عن دورها الحمائي لقوت المواطن. وقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة تعزّز نظام ريعي يحاول أن يبسط نفوذه على كلّ المجالات. فمع ارتفاع أسعار الأعلاف، اضطر العديد من مربّي الماشية إلى التخلّي عن مشاريعهم أمام العجز عن تغطية التكاليف. كما عبّر العديد من الفلاحين عن سخطهم من عدم توفّر الأدوية والمواد الكيمياويّة التي حتّى وإن وجدت فإنّ أسعارها لم تعد في المتناول.

تخلّت الدولة تدريجيّا عن دورها الحمائي لقوت المواطن. وقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة تعزّز نظام ريعي يحاول أن يبسط نفوذه على كلّ المجالات

تنعكس هذه الوضعيّة على قوت المواطن. فالكلفة الأوليّة ان ارتفعت سيرتفع معها المنتج النهائي. هذا بالإضافة إلى أنّ الأمر يزيد من تهالك منظومات الإنتاج كما وضعتها الدولة التونسيّة منذ عقود. كما يمكن أن نُضِيف أنّ ضُعف الدولة في الآونة الأخيرة والخطاب المروّج من رئاسة الجمهورية عمّقا الأزمة وبرهن أنّ الحلول الفعليّة غائبة تماماً.

 

 

  • غول الاحتكار: سبب الانهيار أم شمّاعة مناسبة لقيس سعيّد؟

لقد كان التخطيط هو أبرز ما يميّز العقل السياسي في سبعينيات القرن الماضي. ويكفي أنه تفطّن إلى نقطة تأمين الغذاء للمواطن وتوفير كلّ الآليّات الماديّة والبشريّة لتحقيقِ ذلِك. ولعلّ المقارنة مع ما يحصل اليوم تفرض نفسها في ظلّ تردّي الأوضَاع وعودة خطر الجوع مجدّدًا. فما الذي ينتجه العقل السياسي التونسي حاليّا؟

الإشكال الجوهري هو غياب الرؤية والاستراتيجيات المناسبة لمحاولة إنقاذ منظومات الإنتاج التي باتت رهينة في يد الريعيّين

يطرح رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد إشكاليّة ندرة المواد الاستهلاكيّة من زاوية الاحتكار. وهو -وإن كان محقّا أحيانًا – إلاّ أنّه يطلّ على المشهد من نافذة ضيّقة. فالاحتكار هو مجرّد مشكل ثانوي يحلّ من خلال مراقبة مسالك التوزيع وتعزيز عدد المراقبين في وزارة التجارة كما يشير العديد من الاقتصاديين. لكن الإشكال الجوهريّ هو غياب الرؤية والاستراتيجيات المناسبة لمحاولة إنقاذ منظومات الإنتاج التي باتت رهينة في يد الريعيّين.

فالحل كما يطرحه المختصّون، يتلخّص في عودة دور الدولة لتأمين قوت المواطن والتدخل لدعم الفلاح والمنتوجات التي تعتبر حيويّة للمواطن التونسي. 

الحل كما يطرحه المختصّون، يتلخّص في عودة دور الدولة لتأمين قوت المواطن والتدخل لدعم الفلاح والمنتوجات التي تعتبر حيويّة للمواطن التونسي

أمام تفاقم أزمة منظومة الإنتاج والانحسار المطّرد لدور الدولة، ما يلاحظ اليوم هو إلقاء قيس سعيّد بالمسؤوليّة على مجهولين يسعون إلى تجويع التونسيّين دون الإفصاح عن هويّاتهم. وهذا لا يمكن أن يفسّر إلاّ بأمرين: إما أنّ الرئيس لم يفهم أنّ الإشكال يتجاوز المحتكرين أو أنّه يعي تمامًا عجز حكومته أمام الأوضاع الحاليّة ويسوّق خطاباً هدفه استمالة المواطنين والتملّص من المسؤوليّة. وفي كلتا الحالتين، يبقى المواطن مواجهًا مصيره في ظلّ توسع الأزمة الاقتصادية في تونس

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"