مقال رأي
ليس سهلاً الحديث عن الليبرالية في تونس. ولن يتفهّم هذه الصعوبة إلاّ من عاش أو ألمّ بسياقات الخوض في فكرة الليبرالية في ستينيات القرن الماضي وسبعينيّاته، فلم تكن ترد الفكرة يومها إلاّ في مقام الذم. والطريف في الأمر أنّ بإزاء نخبة تستنكف من الليبرالية دون أن تكون اشتراكية.
ويأتي حديثنا عن الليبرالية في سياق ما تعرفه البلاد من انسداد شامل بعد انقلاب 25 جويلية على مسار عشر سنوات من الانتقال الديمقراطي المرتبك. ولقد استدعى الانقلاب على الدستور والديمقراطية والعجز عن التسيير والفشل الذريع في مواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الحديث عن الدولة وتجربتها في تونس وعلاقتها بالليبرالية.
اقرأ/ي أيضًا: مختصون في الاقتصاد:"قد نصل إلى مرحلة العجز التام ولا مفرّ من إصدار العملة"
- ليبرالية مزعومة
كثيرًا ما يشار إلى فترة السبعينيات مع الهادي نويرة (1911ـ 1993) على أنّها منعطف ليبرالي عرفته الدولة وعاشه الاقتصاد في تونس، بعد التجربة التعاونيّة بقيادة أحمد بن صالح (1926ـ 2020) والتي انطلقت في سنة 1964 بعد أن تبنّتها الدولة بتزكية من الزعيم الحبيب بورقيبة لتتوقّف سنة 1969 بقرار من الزعيم نفسه ويحاكم "ذو الوزارات" بتهمة الخيانة العظمى.
توجّه الدولة في عمومه في تونس ظلّ اجتماعيًا حتّى أنّ تجارب التنمية منذ 1956 مع دولة الاستقلال كانت أقرب إلى "الاشتراكية"، وقد ظلّ الاقتصاد في مؤسساته الكبرى عمومياً بنسبة تفوق الـ70%، وهو ما جعل من دولة الاستقلال "دولة اجتماعية"
تولّى الهادي نويرة الوزارة الأولى ومعه كان قانون أفريل 72، وهو القانون المتعلّق بالاستثمار، غير أنّ توجّه الدولة في عمومه ظلّ اجتماعيًا حتّى أنّ تجارب التنمية منذ 1956 مع دولة الاستقلال كانت أقرب إلى "الاشتراكية"، فقد ظلّ الاقتصاد في مؤسساته الكبرى عمومياً بنسبة تفوق الـ70%، وهو ما جعل من دولة الاستقلال "دولة اجتماعية".
وسيجد هذا التوجّه مبرّره في الحالة الاجتماعيّة الرثّة التي كانت عليها أوسع الفئات الاجتماعيّة وانتشار الفقر والأميّة وتوسّع البطالة والأمراض تحت الهيمنة الاستعماريّة. فكانت مهمّة الدولة إخراج الشعب من حالة البؤس الاجتماعي والصحّي بمساعدة قويّة من المنظّمات الدولية وفي مقدّمتها المنظّمات التي تتبع الأمم المتّحدة في الصحة والتغذية والتعليم كاليونيسيف والفاو وغيرهما.
ومن جهة أخرى، كان قيام دولة الاستقلال في سياق عالمي للاشتراكيّة والفكر الاشتراكي حضور كبير ودور بارز في تأجيج نزعات الاستقلال وما صار يعرف بحركات التحرّر من الاستعمار. وفي الخمسينيات والستينيات التي تمثّل ذروة الحرب الباردة، كان المعسكر الاشتراكي يعتبر نصيرًا للشعوب في التحرر والاستقلال.
وتحت تأثير هذا المزاج الدولي، غيّر بورقيبة اسم حزبه الحاكم "الحزب الدستوري" إلى "الحزب الاشتراكي الدستوري" وذلك في مؤتمر بنزرت سنة 1964 مع تجربة التعاضد. وبقي الحزب عضوًا بالاشتراكية الدولية حتّى بعد أن تغير اسمه إلى "التجمع الدستوري الديمقراطي" مع انقلاب 1987.
لا يمكن الحديث عن ليبرالية في تونس، ولم تعرف الساحة الفكرية ظهور تيّار ليبرالي إلاّ من بعض الليبراليين القادمين من أوروبا، بعد التخرّج، وقد استوعبتهم الدولة ولم يكن لهم صدى في الطبقة السياسيّة والحياة الفكريّة وما شهدته من حيويّة انطلاقًا من السبعينيات مع بداية أزمة النظام السياسي ومرض الزعيم المؤسس.
لا يمكن الحديث عن ليبرالية في تونس، ولم تعرف الساحة الفكرية ظهور تيّار ليبرالي إلاّ من بعض الليبراليين القادمين من أوروبا، بعد التخرّج، وقد استوعبتهم الدولة ولم يكن لهم صدى في الطبقة السياسيّة والحياة الفكريّة
- معضلة الدولة الاجتماعية
من ينتبه إلى خطاب الأحزاب السياسية في تونس في المشهد الحالي سيلاحظ أنّ شعار "الدولة الاجتماعية" يكاد يكون القاسم المشترك في طبقة سياسيّة لم تنجح في بناء مشترك سياسي، في سنوات الانتقال العشر.
ومثلما كانت معارضة الاشتراكية في ستينيات القرن الماضي وسبعينيّاته مجازفة وتجديفًا ضدّ التيّار، صار إهمال الحديث عن دور "الدولة الاجتماعيّة" من برنامج حزب من الأحزاب نقيصة ومدعاة للتشكيك في علاقته بالثورة وبمطالبها الاجتماعيّة. في ربط متعسّف بين المطلب الاجتماعي وطرق تحقيقه. وقد يصنّف الحزب المتغافل عن "اجتماعيّة الدولة" ضمن أنصار الليبرالية المتوحّشة.
والبلد لم يعرف أكثر من "كومبرادور متوحّش" لا تربطه رابطة بالليبراليّة لا المتمدّنة ولا المتوحّشة. لأنّه لا توجد ليبراليّة، وكلّ ما هنالك "رأسماليّة زبونيّة" تحتكر فيها عائلات بعينها، بواسطة نظام الرخص في مجالات التصدير والتوريد واحتكار الاستثمار في مواد بعينها وفي قطاعات استراتيجيّة منها الطاقة.
مثلما كانت معارضة الاشتراكية في ستينيات القرن الماضي وسبعينيّاته مجازفة وتجديفًا ضدّ التيّار، صار إهمال الحديث عن دور "الدولة الاجتماعية" من برنامج حزب من الأحزاب حاليًا نقيصة ومدعاة للتشكيك في علاقته بالثورة وبمطالبها الاجتماعية
وكان بورقيبة قد مكّن، بعد الاستقلال، وخاصّة بعد 1962، بعض العائلات من دور المعمّرين وضياعهم ومن أراضي الأحباس بالشمال يأْتَلِفُهم بها، ويحصّن نفسه بحزام قوي من العائلات والمصالح. وهذا، في حقيقته، منزع كلّ سلطة جديدة. ولا سيما عندما تتعرّض إلى تهديد يطال وجودها وهي في أوّل عهدها. وهذا ما عرفته البلاد مع المحاولة الانقلابيّة في 1962. وكانت هذه الحادثة من الأسباب المباشرة في تصفية مساحات الحريّة الموروثة عن الحقبة الاستعماريّة، فتمّ منع الأحزاب وحلّ الحزب الشيوعي التونسي وتدشين حملة قمع نسقي ضدّ أنصار الزعيم الوطني صالح بن يوسف الذي اغتيل بألمانيا سنة 1961.
والخلاصة أنّ الدولة التي كانت عاجزة عن تغطية كلّ مجالها الاجتماعي بسبب مركزيّتها عمدت إلى "سياسة اجتماعيّة" لم تسعفها بأكثر من تغطية هشّة للهامش المفقّر في مستوى الصحة وبعض المساعدات الاجتماعية الأشبه بالصدقة المتواترة تسند إلى ضعاف الحال ومن لم تستوعبهم الوظيفة العموميّة، وهي إعانات قد لا تصل إلاّ إلى أنصار الحزب الحاكم من خلال ممثّليه في الجهات. وفي المركز كان لتوسّع عدد الموظّفين وما تقتطعه كتلة الأجور من الميزانيّة العامة من نسبة عالية تمنع كلّ استثمار وتنمية. إلى جانب نقابات ومنظمة أعراف كان تنازعها غنائميًا بعيدًا عن ثقافة الاستثمار والتنمية.
دولة الاستقلال التي كانت عاجزة عن تغطية كلّ مجالها الاجتماعي بسبب مركزيّتها عمدت إلى "سياسة اجتماعية" لم تسعفها بأكثر من تغطية هشّة للهامش المفقّر في مستوى الصحة وبعض المساعدات الاجتماعية
- الانقلاب والليبرالية المستحيلة
كثيرًا ما يشار إلى اتفاقيّة تونس مع الاتحاد الأوروبي (الأليكا) التي تمّ التوقيع عليها في 1995 على أنّها خطوة مهمّة في انفتاح تونس على اقتصاد السوق، وقد عدّت تونس التلميذ النجيب لصندوق النقد الدولي. إلاّ أنّ هذه الاتفاقيّة تمت في وضع سياسي موسوم بالمواجهة بين المعارضة ونظام بن علي وانغلاق السلطة السياسي. ممّا جعل المفارقة صارخة بين الانفتاح الاقتصادي (بشروط مجحفة) والانغلاق السياسي رغم امتثال المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف لسياسات بن علي.
اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص: "الأليكا".. وجهات نظر متباينة
لم يكن ممكنًا أن ينجح الانفتاح الاقتصادي دون انفتاح سياسي. وكان بن علي أوهم في السنتين الأوليين من انقلابه بأنّه سيؤسس للديمقراطية وحريّة المبادرة. ولكنّه بعد انتخابات 1989 التي أظهرت قوّة الإسلاميين جعلته يرتدّ عن وعوده ويذهب إلى مواجهتهم بغاية استئصالهم. وهو ما طبع كلّ مرحلة التسعينيات بغياب الاستقرار السياسي.
كانت سنوات الانتقال العشر تجاذبًا سياسيًّا لا ينتهي، ومثّلت انتخابات 2019 منعرجًا فعليًّا في المسار الانتقالي إذ انضاف إلى جانب الصراع الديمقراطي غير المنتج استهداف للديمقراطيّة واستثمار في أزمتها
مع الثورة انفتح مجال سياسي جديد ظنّ أنّه يمثّل الشرط السياسي الذي كان غائبًا لتحقيق تنمية مستدامة تنقل البلاد إلى حال من الانتعاش الاقتصادي والنهوض الاجتماعي. ولكنّ كان العجز عن بناء مشترك والاتفاق على هدنة اجتماعيّة وسياسيّة بغاية استكمال بناء المؤسسات الديمقراطية والتفرّغ للتنمية والبناء.
وكانت سنوات الانتقال العشر تجاذبًا سياسيًّا لا ينتهي، ومثّلت انتخابات 2019 منعرجًا فعليًّا في المسار الانتقالي إذ انضاف إلى جانب الصراع الديمقراطي غير المنتج استهداف للديمقراطيّة واستثمار في أزمتها. فكان استهداف البرلمان من قبل الدستوري الحر، والدستور ومرجعيّته من قبل الرئيس قيس سعيّد. وأفضت منهجيّة التعطيل والترذيل التي تقاطع فيها قيس سعيّد وعبير موسي إلى انقلاب 25 جويلية على مسار بناء الديمقراطية.
ومثّل الأمر 117 بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2021 تأسيسًا لهذا الانقلاب، ومقدّمةً لحكم فردي يجمع فيه رأس الدولة بين يديه كلّ السلطات. فكان الانقلاب في حقيقته انقلاباً على الدولة ونسفًا لكلّ إمكانيّة لليبراليّة سياسيّة وعودة إلى ما قبل دولة 56. وهو ما خلق توتّرًا داخليًّا وتعطّلاً لكلّ مؤسسات الدولة وعزلة دوليّة غير مسبوقة في ظلّ أزمة اقتصاديّة وماليّة متفاقمة وانسداد سياسي واجتماعي ينذر بالانفجار.
مثّل الأمر 117 تأسيسًا لانقلاب سعيّد ومقدّمةً لحكم فردي يجمع فيه رأس الدولة بين يديه كلّ السلطات فكان الانقلاب في حقيقته انقلاباً على الدولة ونسفًا لكلّ إمكانيّة لليبراليّة سياسيّة
جاءت الثورة على أنقاض مرحلة لم يكن بإمكان الدولة رغم "وجهها الاجتماعي" غير إنتاج الفقر. فكان بناء الديمقراطيّة في هذا السياق يواجه معضلتين: الأزمة الاجتماعيّة وبنية دولة منتجة للفقر وطبقة سياسيّة عاجزة عن بناء مشترك وإدارة اختلافها بما ينفع البلاد. فكان الانقلاب الضربة القاضية التي استهدفت الأصل وهو الدولة. ويصبح الحديث عن لبْرلة مع الفقر والدولة المختطفة والانقلاب الأصمّ ضربًا من التجديف.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: