18-أبريل-2021

المواطن التونسي بات مقبلًا على الرهان الرياضي بشكل إدماني (صورة توضيحية/ الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

دخلتُ مقهى البرومسبور بشارع الشاذلي قلاّلة بالعاصمة تونس، كان مزدحمًا بالروّاد على غير العادة، إضاءة خافتة في قاع المكان تنبعث من فوانيس تتدلّى من سقفٍ عالٍ و"كنتوار" طويل يديره "جيرون" كهل بأناقة السبعينات وشعر فضيّ مكتمل ولمّاع، يجلس على كرسيّ خشبيّ بنيّ، وكانت على يمينه "الكاسة" وعلى يساره "ماكينة البرومسبور".

كان يضع خاتمًا ذهبيًا ببنصر يده اليسرى، يبرق كلّما مدّ قصاصة أو أرجع الصّرف للزبائن، المقهى الشهير لا تنقضي عنه الحركة، دخول وخروج من أجل اقتناء قصاصات الرهان على مسابقة البطولة الوطنية لكرة القدم أو بعض البطولات العالمية وخاصة منها البطولات الأوروبية مثل البطولة الإيطالية والفرنسية والإسبانية... فئات عمريّة مختلفة تتحلّق حول طاولات المقهى لتبادل الآراء والنقاش وتحليل المباريات وما خفي من كواليس البطولة التونسية.

الهدف الأساسي من إنشاء البرومسبور هو تمويل قطاع الرياضة وخاصة جمعيات كرة القدم، و35% من العائدات تذهب إلى المتراهنين الفائزين

تتعالى الأصوات ويكثر الصخب الذي يصل أحيانًا حدّ العراك... إنّها سوق البرومسبور التي تنصبّ يوميًا بهذا المقهى وغيره من المقاهي الشهيرة بالرهان الرياضيّ المنتشرة بتونس من شمالها إلى جنوبها.

وكلمة "برومسبور" التي يعرفها القاصي والدّاني بتونس هي تلخيص للاسم الفرنسيّ "لشركة النهوض بالرياضة" وهي شركة عمومية أحدثت سنة 1984 ومهمّتها الأساسية تتمثّل في تنظيم ألعاب الرهان الرياضيّ وإدارتها في تونس، وتشرف عليها وزارة الشباب والرياضة والتربية البدنية.

أمّا عن الهدف الأساسي من إنشاء البرومسبور فهو تمويل قطاع الرياضة وخاصة جمعيات كرة القدم، حيث تذهب نصف عائدات الشركة إلى "الصندوق الوطني للنهوض بالرياضة" المحدث منذ سنة 1979 فيما يوزّع النصف المتبقي من العائدات بين المتراهنين الفائزين الذين ينالون 35%، وتُرصد 10% لأصحاب نقاط بيع القصاصات و5% تكون من نصيب الشركة.

إنها رحلة ما يقارب الأربعة عقود من النشاط بلا انقطاع للبرومسبور في تونس، وهو ما أرسى داخل المجتمع سلوك الإقبال على الرهان والمغامرة النفسية في اتجاه البحث عن الثروة والربح السريع. ورغم النقاش الأخلاقي الذي يندلع بين الحين والآخر بخصوص فكرة التراهن، فإنّ "البرومسبور" خلق عادات مجتمعية ترسّخت وباتت أمرًا طبيعيًا يأتيه التونسيّ متى شاء ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: نحو تسوية الديون المتخلدة بذمة الجمعيات الرياضية عبر جدولتها

لكنّ اللافت للانتباه في تونس في السّنتين الأخيرتين أنّ المواطن التونسيّ بات مقبلًا على الرهان الرياضيّ بشكل إدمانيّ، حيث تزايدت أعداد المتراهنين بالآلاف مقارنة بسنوات سابقة. فبعد أن كانت المداخيل خلال سنة 2004 في حدود 12 مليون دينار و16 مليون دينار في 2007 و40 مليون دينار في 2009، فإنّ المداخيل قفزت في سنة 2013 إلى 124 مليون دينار وإلى 150 مليون دينار في 2020 وذلك بمعدّل حوالي 350 ألف مشارك أسبوعيًا.

 لقد تحوّل الأمر إلى ظاهرة لافتة للانتباه تلحظها العين أمام أكشاك بيع قصاصات الرهان الرياضي وداخل مقاه بعينها عُرفت بروّادها المهووسين بالبرومسبور. "الترا تونس" تطرّق إلى هذه المسألة السارية في جسد المجتمع التونسي وبحث في أسبابها والحلول الممكنة مع المختصّين في علم النفس وعلم الاجتماع.

مداخيل البرومسبور قفزت من 12 مليون دينار سنة 2004 إلى 150 مليون دينار في 2020 بمعدّل حوالي 350 ألف مشارك أسبوعيًا

"أحمد" (اسم مستعار) كهل خمسينيّ يضع بيريّة إيطالية على رأسه، كان يجلس بمفرده في ركن قصيّ بمقهى البرومسبور الشهير. على الطاولة "إكسبريس" برغوة ذهبيّة وعلبة سجائر تونسية الصنع. كان بصدد ملء قصاصة رهان عندما اقتربت منه واستأذنته في الجلوس، في البداية خالني مراهنًا طالبًا للمساعدة أو الاستشارة، ولمّا أفصحت عن صفتي عدّل من جلسته ونظرته ورحّب بي جليسًا، وأفصح مباشرة أنّه لاعب كرة قدم سابق لفريق عريق بالعاصمة، يقول: "لعبنا على المريول وعطينا أعمارنا للجمعية وما عطاتنا شي... تنسينا وما عاد يعرفني حد...".

وكي يخفي أحزانه وانكساراته يجذب أحمد نفسًا عميقًا من سيجارته ويخربش بعض الخربشات على لفيف من أوراق توجد فوق الطاولة، ويضيف أنّه أصبح مدمنًا على الرهان الرياضيّ بحثًا عن الثروة التي فاته الحصول عليها لمّا كان لاعبًا.

"أحمد" لم يتزوّج، واكتفى بالعمل في مصنع صغير للجوارب على ملك أحد أقاربه، وهنا يصرّح أنه اقتحم عالم البرومسبور بحثًا عن مجدٍ ما يريد تحقيقه عبر الثروة، يقول: "وقت نشوف ناس عطات أقل منّي للكورة والسّبور ومن بعد عملو اسم وثروة وإدارة تنظملهم حياتهم نحس بالغبينة...".

ويختم أحمد قوله بأن العيش في تونس في السنوات الأخيرة أصبح صعبًا فالأسعار حسب رأيه غير مستقرّة والسياسة كذلك.. وهو ما زاد خوفه أكثر فأكثر من المستقبل. الأمر الذي دفعه إلى مضاعفة نشاطه في اتجاه "البرومسبور" علّ الحظ ينصفه، فأصبح من روّاد المقهى الشهير، أين تعرّف فيه على عدد من الحالمين الذين وصفهم قائلًا "ناس محلاهم".

أحد المراهنين لـ"ألترا تونس": أصبحت مدمنًا على الرهان الرياضيّ بحثًا عن الثروة التي فاتني الحصول عليها لمّا كنتُ لاعبًا

في المقهى نفسه عرّفني "أحمد" على "مالك" (اسم مستعار) وهو كهل فارع الطول وبملامح إيطالية، يرتدي معطفًا أسود ويمسك بيده اليمنى مجموعة من قصاصات البرومسبور الخاصة بمباريات البطولة الوطنية التونسية، وأخرى تهمّ مباريات من بعض البطولات الأوروبية... "مالك" متزوّج وله ولد، ويعمل منذ سنوات "صانع تاكسي" (مساعد لصاحب سيارة أجرة). وقد أوضح لـ"الترا تونس" أنّه يصرف جزءًا كبيرًا من دخله على الرهان الرياضيّ علّه ييسّر حياته فيشتري "تاكسي" خاصة به. 

ويشير "مالك" إلى أنه يقطن في منطقة باب الخضراء وأنّ أغلب أبناء جيله يمارسون الرهان الرياضيّ "البرومسبور" منذ سنوات، وأنّه يعرف عائلات بأكملها تلعب الرهان وكسبت عدّة مرّات ومنهم من يدفع أكثر من مائتي دينار أسبوعيًا، وأنّ لكلّ منهم غاية من ذلك، فثمّة من يريد الخروج من الفقر والفاقة، وثمّة من يريد أن يستقلّ اقتصاديًا "يحبّ يولّي عرف عوض صانع".

اقرأ/ي أيضًا: ألعاب الحظ في تونس.. باقية وتتمدد في صفوف الفقراء

تنقّلنا إلى منطقة الدندان من ولاية منوبة وهو حيّ شعبيّ مزدحم بالناس ويشتهر بأنشطة الرهان الرياضيّ الورقيّ مثل البرومسبور أو الإلكتروني الذي ينشط خارج القانون ببعض المقاهي المعلومة... توجّهنا إلى أشهر الأكشاك التي تبيع قصاصات البرومسبور، كان الوقت مساءً، ومحيط الكشك مزدحمًا بالمتراهنين.. تحدّثنا إلى "لطفي" (اسم مستعار) وهو صاحب الكشك الذي أشار في البداية إلى أنّه أول من فتح نقطة بيع قصاصات البرومسبور في المنطقة، وزبائنه يأتونه من كامل الولاية، مضيفًا أنّ المحلّ كان طالع خير على العديد من المتراهنين الذين فازوا بالملايين.. "الكشك هذا غيّر حياة برشة ناس..". 

صاحب كشك لبيع قصاصات الرهان لـ"الترا تونس": المحلّ غيّر حياة الكثيرين، وكان طالع خير على العديد من المتراهنين الذين فازوا بالملايين..

وأوضح "لطفي" لـ"الترا تونس" أنّ عدد المتراهنين أو المقبلين على البرومسبور خلال السنتين الأخيرتين تزايد بشكل ملحوظ بل تضاعف. ويشمل هذا التزايد جنس الإناث اللاتي أصبحن يتابعن أخبار كرة القدم التونسية والعالمية ويُلممن بتفاصيلها. وبيّن أن كشكه يسجّل أسبوعيًا إقبال مئات المتراهنين من بينهم ما يفوق الستّين متراهنة... وفسّر "لطفي" هذا التزايد بالقول: "الناس ماعادش خالطة.. الدنيا صعبت عليهم.. والبرومسبور بالنسبة ليهم ثنية من الثنايا..".

قدّمنا "لطفي" إلى أحد زبائنه المخلصين واسمه "أحمد فرح" وهو شابّ لم يتخطّ الثلاثين من عمره، وقد سبق له أن فاز منذ سنتين بمبلغ محترم جدًا لم يرد إفشاء حجمه، وهو ما أحدث نقلة نوعية في حياته وفق قوله. لكن مقابل ذلك لم يتخلّ أحمد فرح عن الرهان فهو يلعب أسبوعيًا بمبالغ محترمة تفوق أحيانًا المائتي دينار دافعه في ذلك "الانتقام من الفقر، بل الخوف من عودته وتنمية مشروعه الاقتصادي الصغير". 

اقرأ/ي أيضًا: لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع

في محيط الكشك بالدندان تعرّفنا على "سَعيد" (اسم مستعار) أربعينيّ مبتسم وبقبّعة رياضية زرقاء تحمل شعار أحد أعرق الأندية الرياضية الإيطالية، قدّم نفسه لـ"الترا تونس" أنّه من قطاع التربية والتعليم وأشار أنّه يلعب ورقة واحدة في الأسبوع وتكون بخسة الثمن وذلك حتى لا يرهق ميزانية عائلته. مضيفًا أنّ ثقافته في الرهان الرياضيّ محدودة، لكنّه يلعب فقط بحثًا عن حظّه المختفي وفق قوله، "ما تعرفش عليها ممكن تخطفلي...". 

وبيّن "سَعيد" أنّه لم يسبق له في السنوات السابقة لعب البرومسبور، لكن الحياة في تونس اضطرّته لذلك، وأرجع إقباله الأسبوعيّ على المراهنة إلى تدهور المعيشة جرّاء الارتفاع الجنونيّ لأسعار المواد الغذائية وإيجار البيوت... وختم "سَعيد" تدخّله بأنّه يمنّي النّفس بالفوز بمبلغ يستطيع من خلاله الخروج من وضعية الفقر التي بات يعيشها كرجل تعليم في تونس في هذه السنوات الأخيرة.

حملنا كل هذه الاستجوابات إلى المختصّين فكانت هذه آراؤهم:

سفيان الفراحتي المختصّ في علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية: عندما يغيب الإنصاف الاجتماعي يذهب الناس إلى القمار..

أكّد الأستاذ الفراحتي أنّ الإفراط في الإقبال على الرهانات الرياضية والقمار بشكل عام في تونس يعدّ أمرًا طبيعيًا، مُرجعًا ذلك إلى غياب الإنصاف الاجتماعي في السنوات الأخيرة جرّاء عجز المنوال الاقتصادي هلاميّ الشكل المعتمد في تونس على تغيير أنماطه الإنتاجية وتقسيمه للثروة بشكل يمسّ كل الفئات والجهات.

وأضاف المختصّ في علم الاجتماع أنّ سنوات الانتقال الديمقراطي التي مازالت متواصلة منذ 2011 إلى اليوم، والتي تعاني هشاشتها وتشظّيها أحدثت زلزالًا في الطبقات الاجتماعية، صعدت بمقتضاه قلّة ونزلت كثرة. فنجد مثلًا أنّ طبقات كانت مستقرّة مثل رجال التعليم والممرّضين وعمّال البريد ورجال الشرطة والمحامين والأساتذة الجامعيين وسائقو الباصات... تدحرجوا اجتماعيًا ومنهم من أصبح يعيش تحت مستوى خط الفقر بالمعنى العلميّ للكلمة، وبالتالي لا غرابة في أن يذهب الكثير منهم إلى القمار من أجل تغيير واقع الحال، وفق رأيه.

كما أشار الفراحتي إلى معدّلات التضخّم في تونس والتي وصفها بالمرتفعة جدًا وهو حسب رأيه ما زاد في تعميق ظاهرة مجتمعية قديمة وهي البطالة وخاصة بطالة المتخرجين من الجامعة ومراكز التكوين المهني. مضيفًا أنّ ذلك يرهق جسد المجتمع الذي أخذ منه تفشي وباء الفيروس التاجيّ (كورونا) مأخذًا.

ويرى أستاذ علم الاجتماع أنّ الحلول لهذه الظواهر المتفشية وعلى رأسها الرهان الرياضيّ البرومسبور والقمار بأنواعه، تقتضي بحثًا من المجتمع عن تغيير ما، وتكمن في لحظة انسجام قصوى وضرورية بين السلطة الحالية في تونس والشركاء الاجتماعيين وخاصة الشريك الاستراتيجي "الاتحاد العام التونسي للشغل" وأن ينشأ حوار بنّاء من أجل إعادة بناء مؤسسات المجتمع لأنه من دونها سنذهب إلى المجهول وفق وصفه.

نوفل بوصرّة المختصّ في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية: انهيارات رمزية بالجملة ولا بدّ من ترميم خزّان القِيَم.. 

يرى الأستاذ بوصرّة أنّ خزّان القِيَم في تونس قد انخرم وذلك نتيجة للوضع السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ التونسيّ غير المستقرّ، وهو ما أسفر عن انهيارات رمزيّة بالجملة يعيشها الفرد كما تعيشها الفئة أو المجتمع بأسره. ويضيف أنّ ذلك ينجرّ عنه انعدام الثقة في قيمة العمل خاصة إذا كان التأجير غير مجزٍ، والعمل ذاته غير مغيّر وبلا أفق. بالإضافة إلى انعدام الثقة في قيمة التعلّم، فتصبح المدرسة بلا معنى وتفقد دورها الريادي في بناء الذات وتشبيعها بالقيم الضرورية لمجابهة الحياة.

ويضيف المختصّ في علم النفس أنّ تنامي العنف بأشكاله المتعدّدة في أروقة المجتمع وتحوّله شيئًا فشيئًا إلى منظومات عنقودية متشابكة من شأنه أن يشيع مشاعر الخوف من كلّ شيء، ممّا يدفع بالناس إلى سلوكات جديدة بحثًا عن الاحتماء بالرهان والقمار، خاصة إذا كان ذلك مبطّنًا بتلك الرغبة الطبيعية الجامحة لحبّ المال.

يختم الأستاذ نوفل بوصرّة تدخّله بالقول إنّ السعي والتهافت على الرهانات الرياضية وغيرها هو رغبة شديدة من المجتمع للخروج من الواقع الحالي. أمّا الحلول التي يقترحها فيلخّصها المختصّ في علم النفس بالقول: "لا بدّ من إعادة بناء منظومة القيم بناءً سليمًا حتى ننجو من هذه الظواهر المزعزعة للبنية النفسية للمجتمع بأسره... ".

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس وضرورات سياسة اجتماعية من "خارج الصندوق"

الرياضة في تونس.. مسار من التوظيف السياسي والغضب الجماهيري