مقال رأي
مستندًا إلى المذهب الفيبري الألماني، كتب هشام جعيّط في كتابه الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي: "إن أي انقلاب داخلي لا يعتمد على مؤسسات دائمة وعمل دولة تستند هي ذاتها إلى مشاركة القوى الاجتماعية الحية، يكون قابلاً للزوال وواهيًا".
ناقش جعيّط في نصه هذا الإيديولوجيا البعثية وتمثّلها الناصري في مصر وذهاب الناصرية إلى شخصنة الدولة واختزالها في شخص القائد المنقذ، فابتعدت بذلك الناصرية عن القاعدة البعثية: النظر والعمل، واختصرت الفعل السياسي في العمل (إدارة الأمر الواقع) دون النظر (التنظير).
كذلك، يذهب جعيّط للتنظير للدولة الحديثة، دولة المؤسسات وتمثّلها التجريدي، عبر الدعوة إلى عقلنة السلطة والمجتمع. كما أشرنا، يستند جعيّط في طرحه هذا إلى أطروحات المنظّر الألماني ماكس فيبر، الذي رأى في العقلانية وعملية العقلنة، أداة للتحديث الاجتماعي والسياسي بل يعتبرها مقياسًا للحداثة وتطوّر المجتمعات.
أكثر من مائة يوم، من العزلة، مضت منذ دخلت تونس في نفق مظلم لا يتراءى منه إلّا رأس رئيسها قيس سعيّد يطلّ من خلف مكتبه فوق هالة من الأشباح تسبّح بحمده. "أشرف، أذن، أشار، بتعليمات منه، بيّن…" كلّها أفعال بضمير الغائب، عن الكوكب، يتعالى في سماء جمهوريتـ (ه) الفاضلة، فيما تبقى "سموّ سيادته" مشرفة على أحوال "الرعيّة".
تقويض تام لدولة المؤسسات ما يحيلنا إلى النسخة البدائية من الدول القروسطية. دولة القائد، الملك، الزعيم، الامبراطور...
اقرأ/ي أيضًا: قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..
هكذا هي باختصار ما صارت، أو ما ارتدت إليه أحوال الدولة التونسية، في تقويض تام لدولة المؤسسات، ما يحيلنا إلى النسخة البدائية من الدول القروسطية. دولة القائد، الملك، الزعيم، الامبراطور... أو كما قال ملك فرنسا، لويس الرابع عشر، ذات لحظة من لحظات الرعونة الملوكية: "الدولة هي أنا".
عكس ما طرحه كارل ماركس من أن الدين هو سبب خضوع البروليتاريا للهيمنة الرأسمالية، يرى فيبر أن الدين هو سبب الانبثاق الرأسمالي والتحديث الاقتصادي، والاجتماعي الذي عرفته أوروبا الحديثة، وأن الأفراد صاروا رأسماليين بسبب الدين.
تحديدًا، يقصد فيبر الديانة المسيحية في نسختها البروتستانتية، الكالفينية، والمنظومة القيمية التي تطرحها: عدم الإيمان بالمعجزات وإنكار الخوارق والأوهام، وحده الله من يغفر ويسامح يوم القيامة، الولاء للمجموعة بدل العائلة. وعكس ما يحظى به الكاثوليك من صكوك الغفران من القساوسة، يشعر البروتستانت بضرب من القلق الدائم والاستياء. ما يسميه فيبر، في كتابه الإيتيقا البروتستانتية وروح الرأسمالية، باستياء العالم le désenchantement du monde. ولإرضاء الله، يرى البروتستانت أن العمل الجاد وحده ما يكفرون به عن ذنوبهم.
لهذا، ليس من الغريب أن الأعياد الدينية البروتستانتية قليلة، وأن المجتمعات ذات الأغلبية البروتستانتية، مثلاً الولايات المتحدة، تحظى بأقل أيام للعطلة بالمقارنة مع المجتمعات ذات الأغلبية الكاثوليكية.
يعرّف فيبر التطور المعرفي والعلمي الذي عرفته المجتمعات الأوروبية، الغربية بالخصوص، بعملية العقلنة
يعرّف فيبر التطور المعرفي والعلمي الذي عرفته المجتمعات الأوروبية، الغربية بالخصوص، بعملية العقلنة التي اعتمدها كأداة تحليل للانتقال من الإيمان الميتافيزيقي بالخوارق، والأيادي الخفية التي تحرّك العالم إلى تجريد وفك شيفرات الطبيعة باعتماد العلوم والتجارب.
عاش فيبر عصر الثورات السياسية مطلع القرن العشرين. وككل من عاشوا تلك الفترة، نظّر للتغيير والإصلاح، خاصة الإصلاح السياسي. يرى فيبر أن الإنسانية عرفت ثلاثة أنماط من السلطة السياسية: 1/ السلطة التقليدية: أي السلطة الإلهية التي يمثّلها الملوك والسلاطين، 2/ السلطة الزعاماتية: أي اعتماد الكاريزماتية الشخصية للقادة لسياسة الدولة والمجتمع نحو الازدهار، 3/ السلطة البيروقراطية: وهي التي نعيش الآن، أي اعتماد البيروقراطية ممثلة في الإدارات والمؤسسات، لتنظيم الحياة اليومية للأفراد، واعتمادها قاطرة للتحديث.
يطرح فيبر أن البيروقراطية تفترض المعرفة، التي تعتمد الأسباب بدل التجارب، لأن البيروقراطيين وحدهم من يعلمون كيف تدور دواليب الدولة. ولتحقيق الإصلاح والتغيير، يشترط فيبر الكفاءة كقاعدة للعمل البيروقراطي. ما يحيلنا إلى ما قام به المستشار الألماني بسمارك عند تأسيس النظام الإداري لألمانيا الموحدة، الرايخ الثاني، سنة 1871.
في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، كتب الطيب صالح على لسان ريتشارد، أحد الإنقليز في الرواية "ها أنتم الآن تؤمنون بخرافات من نوع جديد. خرافة التأميم، خرافة الوحدة العربية، خرافة الوحدة الأفريقية. إنكم كالأطفال تؤمنون أن في جوف الأرض كنزًا ستحصلون عليه بمعجزة، وستحلون جميع مشاكلكم، وتقيمون فردوسًا. أوهامًا. أحلام يقظة".
منذ توليه السلطة، لم يتوان قيس سعيّد، في كل مناسبة، في دغدغة مشاعر الجماهير بالترويج لسردية "المتآمرين" الذين يسرقون أموال "الشعب"، الأموال المنهوبة، الأرقام الفلكية لثروات السياسيين…
رغم ما تحمله هذه الكلمات من مضامين استشراقية، إلّا أن ذلك لا يعني عدم صحتها.
منذ توليه السلطة، لم يتوان الرئيس التونسي قيس سعيّد، في كل مناسبة، في دغدغة مشاعر الجماهير بالترويج لسردية "المتآمرين" الذين يسرقون أموال "الشعب"، الأموال المنهوبة، الأرقام الفلكية لثروات السياسيين... إلى غير ذلك مما يرسّخ حقيقة، بالمعنى الستاليني، أنه بمجرد إزاحة هؤلاء "الأشرار"، سيتحقق الرفاه "للوطنيين الأحرار"، كما يحبّ أن يصف أنصاره ومناشديه.
وهكذا، بدل مصارحة المواطنين بحقيقة الوضع الاقتصادي الصعب، حيث كان سقوط نظام بن علي أحد تداعياته، واتخاذ ما يلزم من إجراءات إصلاحية للمنوال الاقتصادي المهترئ، ولم الشمل الوطني لضمان نجاح هذه الإجراءات، نعني هنا تشاركية القرار، نجد سعيّد يصنع خرافة "الأموال المنهوبة"، التي يقدّرها بمليارات المليارات حسب وصفه، معوّلاً على الصدى الذي تجده هذه الخرافات لدى قلوب كلّت انتظار نهاية رقص سياسيي ما قبل 25 جويلية، بمن فيهم سعيّد نفسه، حول جثة الدولة.
بعد سنتين من الاستهزاء بالأزمات التي تعرفها البلاد قائلاً إن خصومه يعتمدونه كأداة لتأبيد سلطتهم، وبعد 100 يوم من استيلائه على السلطة المطلقة، أقرّ سعيّد في خطابه ليوم 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، بوجود أزمة مالية.
طبعًا لا ندري هل هي استجابة عقلانية متأخرة أم هي إحدى المراوغات التي ألفناه لتمديد الوقت علّ اتجاه الرياح يتغير لصالحه. من خلال ما يحيط به نفسه من هالة قدسية عززتها الصلاحيات التي حازها، لنفسه، مؤخرًا بإصدار المرسوم 117، واختصار الفعل السياسي في ذاته، نجد أن الدولة قد ارتدت زمن السلطة التقليدية كما وصف ماكس فيبر، سلطة الملوك أو البايات قبل دستور 1861 في الحالة التونسية، أو السلطة الزعاماتية على أقل تقدير، سلطة فاشيات القرن الماضي. وفي الحالتين، هي انتكاسة للدولة ومؤسساتها.
بدل مصارحة المواطنين بحقيقة الوضع الاقتصادي، نجد سعيّد يصنع خرافة "الأموال المنهوبة"، التي يقدّرها بمليارات المليارات، معوّلاً على الصدى الذي تجده هذه الخرافات لدى قلوب كلّت انتظار نهاية رقص سياسيي ما قبل 25 جويلية، بمن فيهم سعيّد، حول جثة الدولة
لم يتوان سعيّد أيضًا في معظم خطاباته عن الغمز واللمز لثالثة السلطات، القضاء والقضاة، واستحثاثها لما عبّر عنه بتسريع الإجراءات، منتقدًا بطأها، شأنه في هذا شأن كل مواطن ومتابع للشأن العام، وهي نقطة مشتركة على كل حال بين مختلف مكونات الساحة: بطئ المسار القضائي والتقاضي. لكن وفق السياسة الشعبوية التي يتبعها، ضرب سعيّد في أكثر من مرة مثال سرعة صدور الأحكام في قضايا سرقات من قبيل سرقة "علبة تونة"، بينما تتأخر الأحكام في قضايا غسيل الأموال، الشركات الواجهة les sociétés écrans التي تحيل إلى التهرب الضريبي...
اقرأ/ي أيضًا: مكافحة الفساد: بضاعة تحت الطلب في سوق الشعبوية
وعوض الذهاب إلى الإصلاح كطرح مشروع إصلاح المجلة، والاستثمار في البنية التحتية للمحاكم كاستصلاحها واعتماد الرقمنة، فضّل سعيّد اختصار الطريق، عبر إملاء الأحكام والإجراءات على القضاة. وآخر هذه الإملاءات، صدور بطاقة الجلب الدولية في حق الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي، بعدما كان أشار ذلك في خطاب سابق، أوصى فيه وزيرة العدل باتخاذ "الإجراءات اللازمة"، وفق قوله.
نجدنا أمام توليفة خطيرة تجمع بين الشعبوية في نسخة راديكالية متهورة تتغذى من هسترة النقاش العام والاستقطاب وشخصنة لأجهزة ومؤسسات الدولة ما يحيلنا إلى ضياع البوصلة السياسية للبلاد
يفترض في سلطة وإدارة الدول الحديثة أن تتمتع بالقدر الأدنى من العقلانية والاعتدال حتى تضمن السلم الاجتماعي والاستقرار. لكننا على أرض الواقع في تونس، نجدنا أمام توليفة خطيرة تجمع بين الشعبوية في نسخة راديكالية متهورة تتغذى من هسترة النقاش العام والاستقطاب، ما يسمى بهسترة المجتمع Hystérisation de la société كما جاء في دراسة جينيفار لين ماكوي، وشخصنة لأجهزة ومؤسسات الدولة ما يحيلنا إلى ضياع البوصلة السياسية للبلاد، ولم يبق إلّا انتظار الارتطام القادم.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: