01-أبريل-2022
البرلمان - بلعيد

سيكون ليوم انعقاد البرلمان أثر بالغ في مسار بناء الديمقراطية وسيسجّل محطة سياسية (فتحي بلعيد/أ ف ب)

مقال رأي

 

رغم ما يعرفه المشهد السياسي من فوضى عارمة مع انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021، ورغم ما يوحي به توجه قيس سعيّد الواضح إلى تنزيل "مشروعه السياسي" في الديمقراطية القاعدية وتسخيره كل مقدرات الدولة في سبيل ذلك، فإنّ جلسة البرلمان الافتراضية يوم 30 مارس/آذار 2022 مثلت زلزالًا سياسيًا حقيقيًا، ومرحلة مثيرة من صراع الديمقراطية والانقلاب. وسيكون ليوم انعقاد البرلمان أثر بالغ في مسار بناء الديمقراطية وسيسجّل محطة سياسية.

  • يوم البرلمان

استعرنا عبارة "اليوم" في معنى الواقعة الجليلة والمنازلة العظيمة على طريقة عرب الجاهلية في تسمية حروبهم بالأيّام، فقيل أيّام العرب.

وتصويت مجلس نواب الشعب يوم 30 مارس/آذار 2022 في جلسة افتراضية على إلغاء كل الأوامر الرئاسية الصادرة منذ 25 جويلية/يوليو 2021 يعدّ عند المدافعين عن الدستور والديمقراطية يومًا من أيّام الديمقراطية.

تصويت البرلمان يوم 30 مارس 2022 في جلسة افتراضية على إلغاء كل الأوامر الرئاسية الصادرة منذ 25 جويلية يعدّ عند المدافعين عن الدستور والديمقراطية يومًا من أيام الديمقراطية

وفكرة انعقاد المجلس كانت مطروحة منذ الأيّام الأولى للانقلاب. وأمام إصرار الانقلاب على غلق بوابة البرلمان بدبابة من دبابات المؤسسة العسكرية، ودفعه المؤسسة الأمنية إلى منع تظاهرات الشارع الديمقراطي من الاقتراب من محيط البرلمان وتحديدًا ساحة باردو، كان التفكير الجدّي في عقد جلسة افتراضية رغم تخاذل عدد لا بأس به من نواب الشعب وتواطؤ عدد آخر مع الانقلاب واستهداف الناشطين منهم والمدافعين بشراسة عن مسار تأسيس الحرية وبناء الديمقراطية.

وكان إضراب الجوع الذي انطلق مع الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول 2021 واستمر عشرين يومًا إطارًا سياسيًا ملائمًا لتبلور تصور أولي عن جلسة افتراضية لمجلس نواب الشعب. وقد كان للنواب المضربين دور فعّال في هذا الاتجاه.

وقبل هذا كان للمبادرة الديمقراطية التي أطلقها "مواطنون ضدّ الانقلاب" دور مهم في التنبيه إلى مركزية مؤسسة البرلمان في مواجهة الانقلاب.

وكانت محصّلة هذه الجهود المتلاحقة اجتماع مكتب المجلس يوم الاثنين 28 مارس/آذار 2022 وضبط جلستين للمجلس جلسة أولى للتصويت على كل الأوامر التي أمضاها قيس سعيّد منذ انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021.

وقد تمّ التصويت في الجلسة بالأغلبية على القانون عدد 1 بتاريخ 30 مارس/آذار 2022 الذي يقضي بـ"إلغاء الحالة الاستثنائية وما ارتبط بها من أوامر".

  • رمزية الجلسة وتداعيات التصويت

حاول سعيّد ومحيطه تعطيل جلسة البرلمان الافتراضية بكل ما تتيحه التقنية من أدوات التعطيل، وقد تأكّد استهداف منظومة زوم وما شابهها، لكن مجلس نواب الشعب استطاع أن يعقد جلسته الافتراضية التاريخية والتي اعتَبرت كلّ الأوامر التي أصدرها الانقلاب ملغاة. وقد احتلّت الجلسة صدارة النشرات الإخبارية في الفضائيات العربية والعالمية ووكالات الأنباء.

لم يكن الانقسام حول انعقاد الجلسة ليختلف نوعيًا عن الانقسام حول الديمقراطية قبل حالة الاستثناء، إلاّ أنّ في اجتماع أغلبية مريحة للتصويت على شطب الحالة الاستثنائية يُعد مؤشرًا جديدًا على إمكانية بناء مشترك وطني

ولعلّ من أهمّ رسائل هذا الحدث أنّ المسار الديمقراطي رغم تعثّره فإنّه أتاح عشر سنوات من التمرين الديمقراطي الصاخب، ومكّن من بناء بعض مؤسسات الديمقراطية وفي مقدّمتها مؤسسة البرلمان. وهي بمثابة المؤسسة الأصليّة في النظام السياسي الجديد المنبثق عن دستور الثورة.

لم يكن الانقسام حول انعقاد الجلسة ليختلف نوعيًا عن الانقسام حول الديمقراطية قبل حالة الاستثناء التي فرضها قيس سعيّد، إلاّ أنّ في اجتماع أغلبية مريحة للتصويت على شطب الحالة الاستثنائية يُعَدّ مؤشّرًا جديدًا على إمكانية بناء مشترك وطني تحتاجه الديمقراطية لتستمر أولاً ولتستقرّ مؤسساتها ثانيًا.

وعبّرت عديد الفعاليات المواطنية والجهات السياسية والشخصيات الوطنية والأكاديمية عن ارتياحها لانعقاد هذه الجلسة أمام انسداد الأفق أمام الانقلاب ومنحاه الفوضوي واستهتاره بالدولة ومؤسساتها وعجزه عن مجابهة الأزمة المالية الاقتصادية، وتداعياتها الخطيرة على معيشة الناس وحاجاتهم اليومية. هذا فضلًا عن تدهور صورة تونس في الخارج بانهيار دبلوماسيتها وسياستها الخارجية على يد الانقلاب.

يبدو أنّه مثلما مهد تعثر منظومات الحكم وآخرها منظومة 2019 الطريق أمام سعيّد فإنّ عجز سعيّد الشامل وغربته عن الدولة والاقتصاد والسياسة وكارثية أدائه فتح الفرصة أمام القوى الديمقراطية لإعادة ترتيب المشهد

ويبدو أنّه مثلما مهّد تعثّر منظومات الحكم وآخرها منظومة 2019 الطريق أمام سعيّد فإنّ عجز سعيّد الشامل وغربته عن الدولة والاقتصاد والسياسة وكارثية أدائه العابث في أشهر الانقلاب الثمانية فتح الفرصة أمام القوى الديمقراطية لإعادة ترتيب المشهد بأفق إصلاحات عميقة يحْمِل مسار الانتقال إلى استقرار سياسي ديمقراطي لإعادة بناء السياسة والاقتصاد والعيش الكريم .

  • وَعِيد سعيّد وإصرار أنصار الديمقراطية

من المعروف عن قيس سعيّد سرعة تفاعله المزاجي مع مستجدات الساحة السياسية، ولقد كان بينه وبين "مواطنون ضدّ الانقلاب" ما يشبه "البينغ بونغ" فيما تعرفه المواجهة المتواصلة بين الانقلاب والشارع الديمقراطي.

لم يتخلّف سعيّد عن عادته هذه، فردّ على انعقاد مكتب المجلس متّهمًا خصومه بالانقلاب على الدستور الذي كان ألغاه بموجب الأمر 117، رغم ادعائه استصحاب باب الحقوق والحريات والإبقاء عليه.

والأهم في سجال سعيّد مع أنصار الديمقراطية إشارته إلى أنّه لم يحلّ البرلمان عشية 25 جويلية/يوليو 2022 لأنّ الدستور لا يمكنه من ذلك.

سيكون لهذا الحدث البرلماني دفع قوي للشارع الديمقراطي، وقد يسرّع هذا النجاح من مسار التّجْبيه البطيء رغم الحاجة الملحّة إليه في رسم ملاح البديل السياسي

قال سعيّد هذا لأمله الكبير في أن يتم تعطيل انعقاد جلسة البرلمان الافتراضيّة تقنيًّا. لكن سعيّد نفسه يفزع إلى حلّ المجلس بعد أن انعقد ونجح في التصويت على إلغاء كل الحالة الاستثنائية بأوامرها وتعييناتها الفئوية.

سيكون لنجاح هذا التصويت تأثير سلبي على "مشروع سعيّد السياسي" المتخيّل ومواعيده في الانتخاب والاستفتاء وقد تم ضبطها في تواريخ محددة. مثلما سيكون لهذا الحدث البرلماني دفع قوي للشارع الديمقراطي، وقد يسرّع هذا النجاح من مسار التّجْبيه البطيء رغم الحاجة الملحّة إليه في رسم ملاح البديل السياسي. وهو بديل تطلبه ترتيبات ما بعد الانقلاب.

أدخلت عودة المؤسسة الأصليّة ارتباكًا شاملًا على "مخطط سعيّد" وأوقعت خطابه في تهافت سياسي وقانوني يكشف عن غاية سعيّد الحقيقية من "تفعيل" الفصل 80 من الدستور على طريقته، كما يكشف عن علاقة التواطؤ بين الفاشية والشعبوية والذيول الوظيفية في استهداف الدستور ومؤسسة البرلمان من خلال سياسة الترذيل والتعطيل.

وكان مكتب البرلمان قد أعلن عن جلسة ثانية لمجلس نواب الشعب يوم 2 أفريل/نيسان 2022 للنظر في الوضع الاقتصادي والمقصود هو تشكيل حكومة إنقاذ اقتصادي تنال ثقتها من البرلمان وتتولى الملف الاقتصادي بروح الإنقاذ وبأفق الإصلاح.

قيس سعيّد يدرك هذا المنحى الدستوري والسياسي الذي سلكه أنصار البرلمان والمؤسسات الديمقراطية المنتخبة، وهو منحى شامل يستهدف مرحليًا مجابهة الأزمة المالية الاقتصادية، ويعمل على المدى المتوسط على استعادة مسار بناء الديمقراطية. لذلك يلجأ إلى لغة التهديد والوعيد، ولم يتحدث هذه المرة عن صواريخ على منصاتها ولا عن وابل من الرصاص يواجِه أول طلقة من خصومه. إنّه يتحدث عن سلاح القانون (سنواجههم بالقانون)، وفي هذا النزول من التهديد بمعجم الحرب والسلاح إلى التهديد بالقانون أكثر من مغزى.

أدخلت عودة المؤسسة الأصليّة ارتباكًا شاملًا على "مخطط سعيّد" وأوقعت خطابه في تهافت سياسي وقانوني يكشف عن غاية سعيّد الحقيقية من "تفعيل" الفصل 80 من الدستور على طريقته

وأمّا حله البرلمان، بعد أن اعترف، منذ يومين، بأن صريح الدستور لا يمكنه من ذلك، وهو يعلم أنّه لا يسعفه بكل الخروقات ارتكبها منذ انقلابه، فإنّه لا يخرج عن كونه ردّ فعل بقايا النظام القديم المستشعر للخطر من عودة البرلمان على الترتيبات التي مثل الانقلاب مجرد واجهة لها. فقيس سعيّد لم يكن أكثر من أداة بيد بقايا القديم المعادي للديمقراطية اجتهدت في تحصين مواقعها بخرق الدستور وتفكيك ما بني من مؤسسات ديمقراطية باستعمال أجهزة الدولة الصلبة. والحال أنّ موقعها الطبيعي هو أن تكون خارج الصراع السياسي المحتدم وحارسًا للمؤسسات الديمقراطية المنتخبة.

بِشَطْب أوامر المرحلة الاستثنائية تدخل المواجهة بين الانقلاب والديمقراطية مرحلة متقدمة تشعرنا بأنّنا ندخل سياسيًا إلى "مرحلة ما بعد الانقلاب". ومن خصائص هذه المرحلة تقاطع القوى الديمقراطية في أهمية المؤسسة الأصلية، وتنزيل دورها في استئناف المسار الديمقراطي بأفق جديد مجاوز لسياسات التفريط قبل 25 ومواجهٍ لسياسة الهدم المنهجي للدولة ومحاولة استعادة نظام الاستبداد المتخلّف وخياراته الطبقية التابعة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"