مقال رأي
لم يحمل قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد بحل البرلمان، ليل الأربعاء 30 مارس/آذار الجاري، عنصر الصدمة لعموم التونسيين والناشطين والمتابعين للمشهد السياسي في البلاد. كما لم يحظ خارجيًا برد فعل مشابه لما كان إثر قرارات 25 جويلية/يوليو الماضي.
"الصدمة" لدى البعض حصلت في 25 جويلية 2021 ثم بدأت مرحلة التعود، ثم إن تعليق أشغال البرلمان كانت تعني ضمنيًا من حيث الانعكاسات عند عموم الناس، حل البرلمان
لا يعني ذلك ضرورة أن الأمر أقل أهمية بل هناك اعتبارات أخرى، ربما من بينها أن "الصدمة" لدى البعض حصلت في 25 جويلية 2021 ثم بدأت مرحلة التعود، ثم إن تعليق أشغال البرلمان، وهي الصيغة التي لم تتوفر صراحة في الدستور التونسي ولا ينص الفصل 80 عليها والتي اختارها سعيّد منذ 25 جويلية، كانت تعني ضمنيًا من حيث الانعكاسات عند عموم الناس، حل البرلمان.
لكن الرئيس لم يتحدث عن حل البرلمان قبل ليل 30 مارس؟.. وهذا صحيح أيضًا بل في الليلة السابقة 29 مارس تحديدًا قال إنه لم يذهب لحل البرلمان لأن الدستور لا يمكنه من تلك الفرضية ليلجأ لتعليق مهامه "باعتباره خطرًا داهمًا" كما يقول، لكنه كان حلاً ضمنيًا للبرلمان دون قول ذلك وخاصة دون تحمّل انعكاسات التصريح بذلك علنًا.
يُطرح هنا سؤال لدى البعض، كيف كان حل البرلمان غير ممكن يوم 29 مارس ثم صار متاحًا ومبررًا بالدستور أيضًا يوم 30 مارس؟ (سعيّد قال إنه استند على الفصل 72 من الدستور للحل والذي لا ينص على أي فرضية لحل البرلمان وما جاء فيه هو التالي: "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدتها يضمن استقلالها واستمراريتها ويسهر على احترام الدستور").
كيف كان حل البرلمان غير ممكن يوم 29 مارس ثم صار متاحًا ومبررًا بالدستور أيضًا يوم 30 مارس؟
المتابع جيدًا لكلمات الرئيس التونسي منذ انتخابه سينتبه أن مشكل سعيّد، أستاذ القانون بالجامعة التونسية، لم يكن يومًا توفير الدليل/الفصل/المستند ليتخذ قرارًا ما، ربما لا يوجد دليل أوضح من استناده لحل البرلمان على فصل لا ينص البتة على سيناريو من سيناريوهات الحل كما أنه ضمن باب من الأبواب التي علق سعيّد العمل بها في دستور عُلقت معظم أبوابه واستبدله بمرسوم عُرف باسم المرسوم 117 وهو الذي يمكنه من صلاحياته واسعة جدًا.
لم يرغب سعيّد أن يتجه، منذ انطلاقه في تطبيق مسار 25 جويلية وما بعدها، إلى حل البرلمان قصدًا، لم يرد أن يكون هناك فراغ مؤسساتي واضح يضطره إلى تنظيم انتخابات وفق مدة محددة، لأن ما يريده الرئيس من "25 جويلية" أبعد من ذلك بكثير.
هل ما يرغب به إعادة انتخابات تشريعية بالمشهد الذي كان في 25 جويلية الماضي أو حتى بالمشهد الحالي في نهاية مارس 2022؟ والوضع متشابه من حيث مكوناته الحزبية والمدنية في البلاد. هل هدفه أن يدفع بحل برلمان يسيطر عليه النهضة وقلب تونس ليستبدله بآخر يسيطر عليه الدستوري الحر؟ طبعًا لا.
لم يرغب سعيّد أن يتجه، منذ انطلاقه في تطبيق مسار 25 جويلية وما بعدها، إلى حل البرلمان قصدًا، لم يرد أن يكون هناك فراغ مؤسساتي واضح يضطره إلى تنظيم انتخابات مبكرة لأن ما يريده الرئيس من "25 جويلية" أبعد من ذلك بكثير
لم يرغب سعيّد في انتخابات تشريعية مبكرة ولذلك تجاهل كل البيانات والدعوات الداخلية والخارجية التي وجهته لذلك، الانتخابات هي آخر خطوة في مشروعه الذي صار يعرف بـ"البناء القاعدي" وحتى عندما اضطر لتقديم ما صار يعرف "بخارطة طريقه" جعل الانتخابات مسك ختامها.
يحتاج سعيّد الوقت لتغيير كل عناصر "اللعبة" الانتخابية من قوانين وفاعلين سياسيين وأجسام وسيطة (المشهد الإعلامي، المجتمع المدني، القضاء، المشهد النقابي (من اللافت التهجم ممن يدعون مناصرة الرئيس في منصات التواصل على اتحاد الشغل وقياداته بعد الرفض الحاد من قبلها لبرنامج "الإصلاحات" الذي يطلبه صندوق النقد لحصول تونس على حزمة مساعدات مالية ضرورية)، الهيئات المستقلة ومنها من سيشرف على الانتخابات..).
بعد تغيير كل هذه العناصر، سيكون سعيّد جاهزًا للانتخابات ولذلك طالت ما صارت تعرف لدى الكثيرين "بمرحلة الاستثناء" وحتى تحديد موعد 17 ديسمبر القادم، أي سنة ونصف منذ تعليقه أعمال البرلمان وانطلاق إجراءاته الاستثنائية فهو ليس تاريخًا مؤكدًا وهو مرتبط أساسًا بمدى توفقه في تطبيق خطته كاملة "استشارة - استفتاء - انتخابات تشريعية".
يحتاج سعيّد الوقت لتغيير كل عناصر "اللعبة" الانتخابية من قوانين وفاعلين سياسيين وأجسام وسيطة (المشهد الإعلامي، المجتمع المدني، القضاء، المشهد النقابي، الهيئات المستقلة..) ثم سيكون جاهزًا للانتخابات
يريد سعيّد انتخابات دون الأحزاب المكونة للمشهد الحالي/المشهد بعد ثورة 2011، على الأقل دون البارزة والفاعلة منها (من ذلك قوله في كلمة حل البرلمان أمام مجلس الأمن القومي "لن يعود للانتخابات من حاول الانقلاب ومن يحاول العبث بمؤسسات الدولة'')، يريدها بقانون انتخابي آخر وتغيير هذا القانون عليه إجماع واسع لكن سعيّد لا يبدي، إلى حد الآن، أي توجه تشاركي لتعديله وحتى اللجنة التي ستشرف على إعداد دستور جديد كما سبق أن أعلن، لم يكونها بعد ولا نعلم أي تفاصيل عنها.
لم يبد سعيّد أي استحسان لعمل هيئة الانتخابات التي أشرفت على جميع الاستحقاقات الانتخابية في تونس إبان الثورة لكنه يعلم احترازات التونسيين من إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات والماضي الأسود الذي يحملونه تجاه ذلك ويعلم رفض الهيئات الغربية أيضًا ولذلك لم يعلن عن المخرج بعد وربما لم يجده بعد (فرضية تكوينه لجنة بنفسه وسيناريوهات التشكيك في حياديتها).
من أجل كل ذلك وأكثر، لم يذهب سعيّد في 25 جويلية/يوليو الماضي لحل البرلمان في تونس بشكل واضح وصريح لكن ما حصل يوم 30 مارس أُعتبر بالنسبة له على قدر من الجدية مما استحق أن يغامر بحل البرلمان مبكرًا دون أي وعود بانتخابات مبكرة بل بالتلميح في كلمته أمام مجلس الأمن القومي بحفاظه على خارطته المقدمة في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ما حصل يوم 30 مارس أُعتبر بالنسبة للرئيس على قدر من الجدية مما استحق أن يغامر بحل البرلمان مبكرًا دون أي وعود بانتخابات مبكرة
كان توجه عدد من النواب من كتل برلمانية مختلفة، وقد عُرف بعضهم بالتباين الشديد فيما بينهم، لعقد جلسة برلمانية افتراضية واختيار أن تخصص لإلغاء كل التدابير الاستثنائية التي سبق أن أعلن عنها الرئيس منذ 25 جويلية أمرًا جللاً بالنسبة للرئيس، أمرًا يستحق أن يغير من أجله تفصيلاً في حساباته السابقة عبر إعلان حل البرلمان بوضوح وما قد يعنيه ذلك من مزيد الضغوطات عليه داخليًا وخارجيًا للتوجه لانتخابات تشريعية مبكرة.
جزء واسع داخل تونس من أنصار "حل البرلمان" ومنهم أمين عام اتحاد الشغل، النقابة العمالية واسعة النفوذ في تونس، الذي يدعو بشدة لحله لكنه يقرن ذلك بانتخابات مبكرة وهو الجزء من القصة الذي لا يبدو سعيّد مستعدًا له بالمرة.
لكن تنظيم انتخابات مبكرة قد تكون الخطة التي يدفع نحوها معارضوه على اختلافهم، حتى عبير موسي. محاولة "لجره" إلى تطبيق الفصل 99 من الدستور، وإن كانت عناصره غير متوفرة ما عدا كونه الفصل الذي يشير لحل البرلمان في الدستور بوضوح والذي يعطي فترة زمنية محددة بين 45 و90 يومًا لعقد انتخابات تشريعية مبكرة.
من الصعب الاعتقاد أن انتظارات كانت معلقة على الجلسة البرلمانية الافتراضية، كان واضحاً أنها محاولة لتحريك المياه الراكدة وإعلاء الصوت داخلياً وخارجيًا وإيصال رسالة "نحن موجودون وبإمكاننا العمل سويًا ومجابهة الرئيس" وكان متوقعًا أن ينتج عنها رد فعل من الرئيس سعيّد وهو ما انطلق بإعلان حل البرلمان وتوجيه تهم خطيرة لنواب بالتآمر على أمن الدولة وغير ذلك.
من الصعب الاعتقاد أن انتظارات كانت معلقة على الجلسة البرلمانية الافتراضية، كان واضحاً أنها محاولة لتحريك المياه الراكدة وإعلاء الصوت داخلياً وخارجيًا وانتظار رد الفعل
وقد تم الآن تحريك المياه وحصلت ردود الأفعال، من سيستفيد من هذا التحرك في النهاية؟ هل سيواصل الرئيس في تطبيق خارطته كما كان مبرمجًا؟ أي خطط بديلة لا تزال عند معارضيه بعد التطورات الأخيرة؟ هل سيُدفع لتغيير موعد الانتخابات نحو انتخابات مبكرة تلغي تقريبًا كل مسار خارطته؟ (يبدو ذلك مستبعدًا وفق ما عرف عن تمسك سعيّد بتطبيق برنامجه كاملاً ومن ذلك اعتقاده وتكراره لنجاح الاستشارة الإلكترونية رغم نسبة المشاركة الضعيفة فيها وما رافقها من إخلالات)..
عناصر عدة، داخلية وخارجية، تتدخل في هذا المسار ولا يبدو طريقه واضحًا بالمرة، لكن الأكيد أن تواصل "هدنة الشارع" من عدمها والقدرة على توفير التمويلات لميزانية 2022، عناصر ستكون مهمة في حسم أشهر بل سنوات قادمة من تاريخ تونس لهذا الجانب أو ذاك.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"