26-فبراير-2022

"غياب الوعي بشروط الديمقراطية، وضعف الثقافة الديمقراطية كانا من أسباب تعثّر المسار ومقدّمة إلى الانقلاب" (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

الوعي بشروط الديمقراطية مهم في بناء الديمقراطية، وتتعثّر مسيرة بناء الديمقراطية وقد تتعطّل وتتوقّف عند افتقاد هذا الوعي، وعندما يكون داعية الديمقراطية من منطلق حداثي خصمَ هذه الشروط اللدود من منطلق إيديولوجي، فتصبح الديمقراطية عنده تهديدًا وجوديًّا فيجد كل المبررات لمحاربة الديمقراطية ومنع تأسيسها واستقرارها.

الوعي بشروط الديمقراطية مهم في بناء الديمقراطية، وتتعثّر مسيرة هذا البناء الديمقراطي وقد تتعطّل وتتوقّف عند افتقاد هذا الوعي

  • نقائض السياسة

في فترة الاستبداد، قبل الثورة، عشنا ما يشبه النقيضة السياسية في علاقة النضال السياسي بشرط الحريّة. فقد جرّف الاستبداد، وخاصة في مرحلته النوفمبرية، كلّ مربعات الحرية حتّى لا مساحة منها يقف عليها المناهض للاستبداد. ذلك أنّ العمل السياسي المدني لا يمكن أن يكون دون توفّر الأدنى من مربعات الحرية، غير أنّ هذا المربع نفسه لن يتوفّر دون نضال سياسي. فعرفت "الحياة السياسية" انسدادًا كاملاً لم يُخفِّف منه فتْح الاستبداد المجال أمام ديمقراطية الواجهات وأحزاب الديكور، واستكتاب نخب "لجان التفكير" لتؤلّف في "الثورة الهادئة"، قبل أن تفاجئها وتفاجئ سائر النخبة والطبقة السياسيّة ثورة الهامش المفقّر.

وفي مواجهة هذه النقيضة السياسية كانت إضرابات الجوع، بما هي إشهار للجسد المحاصر في وجه آلة القمع، الوسيلة الوحيدة لكسر الحصار. ففي هذا السياق ولدت حركة 18 أكتوبر 2005 وتوجّهها إلى فرض مربع محدود للحرية جعل بناء المشترك إمكانًا فعليًا بعد 2011. وتحت سقف الحرية المعمّدة بدماء الشهداء، عشنا بعد 2011، نقيضة سياسية أخرى، كانت ملامحها ثاوية في كلّ مراحل الاستبداد وما طبعها من مواجهة مفتوحة بين نظام الاستبداد والإسلاميين على مدى ثلاثة عقود (81- 2011).

في تونس، شرط الديمقراطية الرئيسي هو في الوقت نفسه شرط امتناعها، وسبب انقسام الطبقة السياسية الهووي، والمانع من استقرار الديمقراطية

تمتدّ هذه النقيضة اليوم، بعد سبعة أشهر على الانقلاب، لتمثّل أهمّ أسباب استمراره وتمدّده. وأساس هذه النقيضة أنّ شرط الديمقراطية الرئيسي هو في الوقت نفسه شرط امتناعها، وسبب انقسام الطبقة السياسية الهووي، والمانع من استقرار الديمقراطية. وهو ما منع من أن تكون الشرعية الانتخابية المقدمة الطبيعية لشرعية سياسية تمكّن المفوّض انتخابيًا سواء ـ حزبًا كان أو ائتلافاً ـ  من أن يحكم. وهذا سبب كاف لكي لا تستقرّ الديمقراطية وتتعثر في بناء مؤسساتها، وتتردّى السياسة في تجاذب مدمّر لا يتيح فرصة لتحقيق الأدنى من المطلب الاجتماعي التنموي.

اقرأ/ي أيضًا: يوم 14 جانفي 2022: الانقلاب في مواجهة النخبة

  • اختلاف حول "مبدأ البناء"

الطبقة السياسية، بانقسامها العميق، لا تختلف في "شكل المبنى" المزمع تشييده على أنقاض الاستبداد، بقدر ما كان اختلافها حول "مبدأ البناء" نفسه. وهذا ما يفسر العجز عن الأدنى من المنجز السياسي الاجتماعي.

ويأتي الانقلاب ليؤكد هذه النقيضة ويرفعها إلى سطح المشهد السياسي. فهو عند "أنصار الانقلاب" انقلاب على حركة النهضة، ومن منظور "أنصار ديمقراطية" انقلاب على الديمقراطية. والرأيان متفقان، وإن اختلفت صياغتهما، لأنهما يتقاطعان ضمنيًا في أن النهضة تمثل أهمّ شروط الديمقراطية. وإنّ من ناهضها، في الداخل والخارج، بعنوان محاربة الإسلام السياسي، إنّما يناهض الديمقراطية التي تحوّلت عنده إلى "تهديد وجودي".

ويتأكّد هذا في تقاطع نخب سياسية تنتسب إلى الحداثة السياسية مع دول خليجية قروسطية. أنظمة لا تعادي الإسلام السياسي بسبب "إسلاميته"، وإنّما لكونه يمثل أهم شروط بناء النظام الديمقراطي. ولو كان اليسار يمثل هذا الشرط لحُورِب باسم الإسلام وباسم حماية عقيدة الشعب والأمة من الشيوعية.

مثلما كان الانقسام الاجتماعي وعجز الدولة عن تغطية كل مجالها الاجتماعي سببًا في انتفاض الهامش المواطني وكسر نظام الاستبداد، كان الانقسام الهووي سببًا في امتناع بناء الديمقراطية

أمام تجربة الدولة، وما أنتجته من انقسام هووي واجتماعي، استقرّت هذه النقيضة. فمثلما كان الانقسام الاجتماعي وعجز الدولة عن تغطية كل مجالها الاجتماعي سببًا في انتفاض الهامش المواطني وكسر نظام الاستبداد، كان الانقسام الهووي سببًا في امتناع بناء الديمقراطية، وإجهاض تجربة التأسيس وشاهدا على ما عرفته سنوات الانتقال العشر من تعثر مهّد للانقلاب ومشروعه في هدم ما بني من مؤسسات الديمقراطية والثأر لنظام الاستبداد من الثورة.

النهضة من أهمّ شروط بناء الديمقراطية، وهي في الآن نفسه سبب امتناعها وعبئًا سياسيّا على مسار الانتقال الديمقراطي. وفي هذا السياق نعرف مع الانقلاب توجّهًا واضحًا لاستنساخ تجربة أثبتت فظاعتها على مدى عشريّتين من القهر والاستبداد والظلم الاجتماعي عنوانها ديمقراطية بلا إسلاميين. ومن دروس هذه النقيضة السياسية المستحكمة الانتباه إلى ما عرفته تجربة الإسلام السياسي في تونس من جهة الطبيعة والوظيفة.  

نعرف حاليًا توجّهًا واضحًا لاستنساخ تجربة أثبتت فظاعتها على مدى عشريّتين من القهر والاستبداد والظلم الاجتماعي عنوانها ديمقراطية بلا إسلاميين

اقرأ/ي أيضًا: سنوات الانتقال العشر في تونس: نظرة من الداخل



 

  • غياب الوعي بشروط الديمقراطية 

كنّا عبّرنا في أكثر من سياق بعد 2011 عن وجهة نظر تنبّه إلى علاقة الإسلام السياسي بالديمقراطية، فإلى جانب اعتبارنا الظاهرة من "حداثة العرب السياسية" فإنّها تمثل أهم شروط بناء الديمقراطية. وهذه هي الوظيفة الوحيدة لهذه الظاهرة، وأنّ إنجازها سيرتبط بأمرين: بناء الديمقراطية واضمحلال الظاهرة بحلولها في هوية جديدة. وأنّ استمرارها في سياقنا السياسي يعني أنّ الديمقراطية لم تتأسس بعد. ولقد لاحظنا أنّ الظاهرة لم تنجز مهمّتها التاريخيّة. وهو ما يعني أنّ الظاهرة لم تبلغ في تونس أعلى مراحلها المرتبطة بتأسيس الديمقراطيّة بسبب عطب بنيوي داخل حركة النهضة وفي مكونات المشهد السياسي في علاقة بالوعي بشروط بناء الديمقراطيّة.

تظافرت الأسباب المحليّة مع أسباب خارجية منها موقف الغرب المتوجّس من الإسلام السياسي، واتجاه العالم إلى ترتيبات تنبئ بالتهيّؤ لمرحلة جديدة على أنقاض مرحلة الحرب الباردة وتوازناتها.

لم يكن هناك وعي دقيق بشروط الديمقراطية، من قبل النهضة ومن قبل القوى الحداثيّة التي تمثّل بدورها الوجه الآخر لشرط استقرار الديمقراطية. وهذه القوى الحداثيّة رغم أنّها لا تتمتّع بعمق شعبي إلاّ أنّها صارت تمثّل في تجربة الدولة والإدارة والأعمال جوهر النخبة والقوّة فاعلة. وأصبح الافتراق ما بين نتائج الاختيار الشعبي الحر وموقف النخبة من أسباب تعطّل الانتقال. ومثّلت نتائج الانتخابات التأسيسيّة صورة من هذا التعارض بين الشرعيّة الانتخابيّة والشرعيّة السياسيّة. وما رافقها من انفصال الحكم عن السلطة.

لم يكن هناك وعي دقيق بشروط الديمقراطية، من قبل النهضة ومن قبل القوى الحداثيّة التي تمثّل بدورها الوجه الآخر لشرط استقرار الديمقراطية

وقد لعب توزيع السلطة مع النظام السياسي الجديد شبه البرلماني، بعد أن كانت ممركزة في ظلّ الاستبداد، دورًا أساسيًا في هذا الانفصال بين الحكم والسلطة وافتقاد من تمّ تفويضه انتخابيًّا إلى نصيب السلطة الكافي لإنفاذ السياسة التي من أجلها انتُخِب. غياب الوعي بشروط الديمقراطية، وضعف الثقافة الديمقراطيّة كانا من أسباب تعثّر المسار ومقدّمة إلى الانقلاب.

اقرأ/ي أيضًا: مواجهة الانقلاب: "الحقيقة الوحيدة" في مشهد متقلّب

  • من دروس الانقلاب

الانقلاب على الدستور والديمقراطية، وتجريف كل مربّعات الحريّة نبّها إلى شروط الديمقراطيّة وحدّة الوعي بها والتقاطع فيها لحظة الدفاع عن الدستور، وأنّها موزّعة بين القوّة السياسيّة الأكبر (النهضة) والنخبة الحداثيّة الأوسع نفوذًا وخبرة. وأنّ العجز عن بناء مشترك وطني بين الفاعلين وتواصل انقسام الطبقة السياسيّة وقابليتها لاستعادة نزاعاتها الهووية تمثل أسباب تواصل الانقلاب رغم أدائه البائس وافتقاده لكلّ شرعيّة.

تصحب الأزمات الحادّة، ردّة فعل من قبل الجسم السياسي الاجتماعي هي أشبه بآليات دفاع ذاتي بها يحمي المجتمع كيانه من الاندثار. وعبّر الانقلاب عن أحدّ الأزمات التي عرفتها البلاد في العشريّة الماضية. فقد استهدف ما بات محلّ إجماع رغم عمق الأزمة الماليّة الاقتصاديّة وتداعياتها السياسية.

العجز عن بناء مشترك وطني بين الفاعلين وتواصل انقسام الطبقة السياسية وقابليتها لاستعادة نزاعاتها الهووية تمثل أسباب تواصل "الانقلاب" رغم أدائه البائس وافتقاده لكلّ شرعية

تأخّرت ردّة فعل الجسم السياسي على الانقلاب لأكثر من خمسين يوما. وغلب على المشهد سجال قانوني حول طبيعة إجراءات 25 جويلية الاستثنائيّة. وكانت مبادرة "مواطنون ضدّ الانقلاب" استثناء خرق الصمت وكسر سرديّة الانقلاب الشعبويّة ودحض أكذوبة التفويض الشعبي.

غير أنّ أهم ما يعنينا من ظاهرة "مواطنون ضد الانقلاب" هو علاقتها بشروط الديمقراطيّة ووعيها بهذه الشروط. فقد اجتمع في المجموعة النواة التي أطلقت المبادرة "المشترك الوطني" الذي افتقدته التجربة الديمقراطية. فالمجموعة المؤسسة تكثّف تيارات السياسة في تونس، وتلتقي على دعم شروط الديمقراطية ونقد جذري لعشرية الانتقال المتعثّرة، مع أنّ رموزها هم من نبّهوا إلى صعود قوى لا تقبل بسقف الديمقراطية ومرجعيته الدستورية (قيس سعيّد، وعبير موسي)، وأخرى وظيفيّة تنكّرت لمرجعيّتها الديمقراطية.

ولكن الأهم من كلّ هذا هو وعي المبادرة الديمقراطية بأنّ مهمّتها، من جهة وعيها بشروط الديمقراطية، مزدوجة: دفع الإسلام السياسي العاجز عن التحوّل الذاتي نحو هويّة جديدة ترتبط باستواء الديمقراطيّة واستقرارها، وجذب القوى الحداثيّة نحو المشترك الديمقراطي، وقد يكون بعضها أحد موادّ الهويّة السياسيّة الجديدة المنتظرة.

لـ"مواطنون ضد الانقلاب" وعي بمهمة مزدوجة: دفع الإسلام السياسي العاجز عن التحوّل الذاتي نحو هويّة جديدة ترتبط باستواء الديمقراطية واستقرارها، وجذب القوى الحداثيّة نحو المشترك الديمقراطي

وهذه الخطوة ليست هي بالضبط ما أسميناه في مناسبات سابقة بالتسوية التاريخيّة على قاعدة المشروع الديمقراطي الاجتماعي، وإنّما هي المقدّمة الضروريّة نحو هذه التسوية. وكثيرًا ما يشار إلى تجربة "العدالة والتنمية" باعتبارها أعلى مراحل الإسلام السياسي. وقد كان تأسيس الديمقراطيّة باجتماع مكوّنات إسلامية (حزب الرفاه ـ أربكان) ووطنيّة ليبراليّة (حزب الوطن الأم ـ تورغوت أوزال) وقوميّة (حزب الحركة القوميّة ـ تانسو تشيلر) كانت عماد تجربة العدالة والتنمية.

في هذا السياق، يمكن فهم فكرة المؤتمر الوطني للبديل الديمقراطي التي عرضتها مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" وآفاقها بتشكيل جبهة سياسية واسعة تكون من أهمّ القوى الفاعلة فيما بعد مرحلة الانقلاب.  

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تُقرر معركة المجلس الأعلى للقضاء مصير الانقلاب؟

الشعبوية في تونس.. بين الخطاب والأداء