صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، في ساعة متأخرة من مساء الأربعاء 22 سبتمبر/ أيلول 2021، الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 والذي قدم من خلاله الرئيس التونسي قيس سعيّد، الإجراءات الخاصة بتسيير السلطتين التشريعية والتنفيذية في تونس، بما يشبه "دستورًا صغيرًا"/"تنظيمًا مؤقتًا للسلط"، كذاك الذي تم إصداره إثر انطلاق الثورة التونسية في سنة 2011 وقطع حينها العمل بدستور 1959.
أُعد "التنظيم المؤقت الجديد للسلط" بحيث يوفر صلاحيات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية، تمهيدًا لانتقال مُرجح لنظام رئاسي قد يتم عرضه مستقبلاً عبر استفتاء شعبي، وما يعني تعليقًا ضمنيًا لـ"دستور سنة 2014"
ويتضح، وفق قراءة لفصول "التنظيم المؤقت الجديد للسلط"، أنه أُعد بحيث يوفر صلاحيات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية، تمهيدًا لانتقال مُرجح لنظام رئاسي قد يتم عرضه مستقبلاً عبر استفتاء شعبي، وما يعني تعليقًا لـ"دستور سنة 2014/ دستور الجمهورية الثانية"، باعتبار تعليق معظم وأهم فصوله وفلسفته العامة (النظام شبه البرلماني).
وتضمّن الأمر الرئاسي 23 فصلاً، ضمن أربعة أبواب. إليكم في هذا التقرير تفاصيلها مع توضيح استحواذ الرئيس من خلالها على السلطتين التنفيذية والتشريعية تقريبًا، مع العلم أنه لم يُحدد بعد تاريخ إيقاف العمل بهذا "الدستور المؤقت الجديد".
- حل مبطن للبرلمان
في أول أبواب الأمر الرئاسي والذي كان تحت عنوان "أحكام عامة"، تم التنصيص على مواصلة تعليق جميع اختصاصات البرلمان ومواصلة رفع الحصانة البرلمانية عن جميع أعضائه، ووضع حد لكافّة المنح والامتيازات المسندة لرئيس البرلمان راشد الغنوشي وأعضائه.
من المعلوم لدى الجميع أن الرئيس التونسي كان قد علّق أعمال البرلمان خلال بيانه "الشهير" ليل 25 جويلية/ يوليو الماضي، ومنذ ذلك التاريخ تعطلت كل أشغاله. وكان قد صرح حينها أن ذلك "تم وفق الفصل 80 من الدستور" رغم أن الأخير ينص على "بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم في حالة الخطر الداهم"، التي على أساسها تم إصدار ما أطلق عليه سعيّد "الإجراءات الاستثنائية".
لكن سعيّد اعتبر في أكثر من كلمة له منذ ذلك التاريخ أن الخطر الداهم هو "خطر جاثم في تونس" وهو من داخل الدولة وليس من خارجها، معتبرًا أنه "يتجسد في البرلمان وفي مؤسسات الدولة"، كما أوضح في مناسبات عدة.
الأمر الرئاسي الجديد لا يتضمن أي إشارة للبرلمان أو أي مهام له مما يوحي ضمنيًا أن الأمر لم يعد يتعلق بتعليق لهذه الاختصاصات بل بحل البرلمان دون إشارة واضحة لذلك تجنبًا للاستتباعات القانونية للفظ
ووفق هذا التصور، ذهب الرئيس سعيّد إلى تمديد العمل بـ"الإجراءات الاستثنائية"، خلال بيانه بعد مرور شهر، في الليلة الفاصلة بين 23 و24 أوت/ أغسطس الماضي، وكان اللافت في التمديد أنه دون تحديد تاريخ أقصى بل ورد مع عبارة "حتى إشعار آخر".
لكن الأمر الرئاسي الجديد، وبعد الاطلاع على فصوله وما نص عليه في تسيير السلطتين التنفيذية والتشريعية، لا يتضمن أي إشارة للبرلمان أو أي مهام له مما يوحي ضمنيًا أن الأمر لم يعد يتعلق بتعليق لهذه المهام والاختصاصات بل بحل البرلمان الحالي دون إشارة واضحة ذلك، تجنبًا للاستتباعات القانونية للفظ وجدل الإمكانية من عدمها.
- قيس سعيّد يمارس السلطة التشريعية في شكل مراسيم
تضمن الباب الثاني من الأمر الرئاسي 4 فصول، وقد تعلّق بالتدابير الخاصة بممارسة السلطة التشريعية، إذ نص في الفصل الرابع على أن إصدار النصوص ذات الصبغة التشريعية يتم في شكل مراسيم يختمها رئيس الجمهورية، ويأذن بنشرها بالرائد الرسمي وذلك بعد مداولة مجلس الوزراء.
يمارس الرئيس السلطة التشريعية في شكل مراسيم يختمها بنفسه ويأذن بنشرها بالرائد الرسمي وذلك بعد مداولة مجلس الوزراء
ووفق الفصل الخامس من ذات الباب، فإن النصوص التي تتخذ شكل مراسيم، تتعلّق بعد مجالات وقع تحديدها وهي التالية:
- الموافقة على المعاهدات
- تنظيم العدالة والقضاء
- تنظيم الإعلام والصحافة والنشر
- تنظيم الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات والهيئات المهنية وتمويلها
- تنظيم الجيش وقوات الأمن الداخلي والديوانة
- القانون الانتخابي
- الحريات وحقوق الإنسان
- الأحوال الشخصية
- الأساليب العامة لتطبيق الدستور
- الواجبات الأساسية للمواطنة
- السلطة المحلية
- تنظيم الهيئات الدستورية
- القانون الأساسي للميزانية
- إحداث أصناف المؤسسات والمنشآت العمومية
- الجنسية
- الالتزامات المدنية والتجارية
- الإجراءات أمام مختلف أصناف المحاكم
- ضبط الجنايات والجنح والعقوبات المنطبقة عليها وكذلك المخالفات المستوجبة لعقوبة سالبة للحرية
- العفو العام
- ضبط قاعدة الأداءات والمساهمات ونسبها وإجراءات استخلاصها
- نظام إصدار العملة
- القروض والتعهدات المالية للدولة
- ضبط الوظائف العليا
- التصريح بالمكاسب
- الضمانات الممنوحة للمدنيين والعسكريين
- تنظيم المصادقة على المعاهدات
- قوانين المالية وغلق الميزانية والمصادقة على مخططات التنمية
- المبادئ الأساسية لنظام الملكية والحقوق العينية، والتعليم والبحث العلمي والثقافة والصحة العمومية والبيئة والتهيئة الترابية والعمرانية والطاقة، وقانون الشغل والضمان الاجتماعي.
كما تدخل في مجال السلطة الترتيبية العامة المواد التي لا تدخل في المجالات المُشار إليها أعلاه وتصدر في شكل أوامر رئاسية، وفق الأمر الرئاسي.
نص الفصل 7 من الأمر الرئاسي على أنه "لا تقبل المراسيم الطعن بالإلغاء"، وهو الفصل الذي لفت الانتباه بشكل خاص وأثار ردود فعل مختلفة كان جزءًا منها ناقدًا جدًا
ونص الفصل 7 منه على أنه "لا تقبل المراسيم الطعن بالإلغاء"، وهو الفصل الذي لفت الانتباه بشكل خاص وأثار ردود فعل مختلفة كان جزءًا منها ناقدًا جدًا.
- السلطة التنفيذية للرئيس بمساعدة حكومة يعيّنها بنفسه
يتعلق الباب الثالث من الأمر الرئاسي بالتدابير الخاصة بممارسة السلطة التنفيذية، وورد في الفصل 8 أنه "يمارس رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة".
وتعلّق القسم الأول من الباب الثالث برئيس الجمهورية، ونص على أن يتولى الأخير تمثيل الدولة وضبط سياستها العامة واختياراتها الأساسية، وأن يسهر على تنفيذ القوانين ويمارس السلطة الترتيبية العامة. وله أن يفوض كامل هذه السلطة أو جزءًا منها إلى رئيس الحكومة.
كما نصّ على ممارسة رئيس الجمهورية خاصة جملة من الوظائف هي "القيادة العليا للقوات المسلحة وإشهار الحرب وإبرام السلم بعد مداولة مجلس الوزراء، وإحداث وتعديل وحذف المؤسسات والمنشآت العمومية والمصالح الإدارية وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها، إضافة إلى إقالة عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة أو البت في استقالته، اعتماد الدبلوماسيين للدولة في الخارج وقبول اعتماد ممثلي الدول الأجنبية لديه مع التعيين والإعفاء في جميع الوظائف العليا، والمصادقة على المعاهدات، والعفو الخاص"، وقف ذات الأمر الرئاسي.
يمارس الرئيس السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يعين رئيس الجمهورية كل مكوناتها وهي "تسهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات والاختيارات التي يضبطها الرئيس"
أما القسم الثاني من الباب الثالث، فقد تعرض إلى تكوين الحكومة من رئيس ووزراء وكتاب دولة يعينهم رئيس الجمهورية، على أن "تسهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية".
وتكون الحكومة مسؤولة عن تصرّفها أمام رئيس الجمهورية. أما رئيس الحكومة فيسيّر الحكومة وينسق أعمالها ويتصرف في دواليب الإدارة لتنفيذ التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية، وينوب عند الاقتضاء رئيس الجمهورية في رئاسة مجلس الوزراء أو أي مجلس آخر.
ويتضح جليًا، وفق الصلاحيات المذكورة أعلاه والتي وردت في الأمر الرئاسي، الصلاحيات شبه المطلقة لرئيس الجمهورية، وفق هذا "الدستور المصغر الجديد" كما اصطلح على تسميته، والتي تشمل جميع المجالات ويكون له فيها الكلمة الفصل بينما يقتصر دور الحكومة ورئيسها على "تنفيذ سياسة الدولة وفق توجهات واختيارات الرئيس" كما ينص الأمر الرئاسي، مع غياب أي دور أو مهام للبرلمان.
ولرئيس الجمهورية، وفق هذا الأمر، أن يفوّض سلطاته إلى رئيس الحكومة بمقتضى أمر رئاسي إذا تعذّر عليه القيام بمهامه بصفة مؤقتة، وتبقى الحكومة قائمة إلى أن يزول التعذّر الوقتي الحاصل لرئيس الجمهورية. وعند شغور منصب رئيس الدولة بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العجز التام، يتولى فورًا رئيس الحكومة القيام بمهام رئاسة الجمهورية إلى غاية تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة، ويؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الوزراء، وفق ذات الأمر الرئاسي.
أما إذا حصل لرئيس الحكومة في نفس الوقت مانع لسبب من الأسباب، يتولى وزير العدل بصفة وقتية القيام بمهام رئيس الجمهورية، مع التنصيص على أنه، وفي هذين الحالتين، تجرى انتخابات لاختيار رئيس الجمهورية في أجل أدناه 45 يومًا وأقصاه 90 يومًا من تاريخ الشغور.
ويمكن لرئيس الجمهورية وفق الفصل 15 من الأمر الرئاسي، أن يعرض على الاستفتاء أي مشروع مرسوم، وإذا ما أفضى الاستفتاء إلى المصادقة على المشروع، فإن رئيس الجمهورية يصدره في أجل لا يتجاوز 15 يومًا من تاريخ الإعلان عن نتائج الاستفتاء.
يقدم الأمر الصلاحيات شبه المطلقة لرئيس الجمهورية والتي تشمل جميع المجالات ويكون له فيها الكلمة الفصل بينما يقتصر دور الحكومة ورئيسها على "تنفيذ سياسة الدولة وفق توجهات واختيارات الرئيس" مع غياب أي دور أو مهام للبرلمان
- الرئيس سعيّد يتولى إعداد مشاريع التعديلات على النظام السياسي بالاستعانة بلجنة يحدد مكوناتها
خُصص الباب الرابع من الأمر الرئاسي لأحكام مختلفة تحت مسمى "أحكام ختامية"، ونصت على مواصلة العمل بتوطئة دستور 2014 وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع أحكام الأمر الرئاسي الجديد، إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين.
ونص أيضًا على أن يتولى رئيس الجمهورية إعداد مشاريع التعديلات على النظام السياسي وقد أطلق عليها "الإصلاحات السياسية"، بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر من الرئيس ويعرض الرئيس التعديلات على الاستفتاء للمصادقة عليها.
وكان جليًا من جديد، بعد كلمته الأخيرة في سيدي بوزيد، أن سعيّد تجنب مرة أخرى اعتماد لفظ "تعليق الدستور أو إلغائه"، نظرًا للاستتباعات القانونية التي يطرحها عدد من أساتذة القانون، في حال قام الرئيس بإلغاء الدستور الذي أدى وفقه اليمين الدستورية وتستمد كل مكونات الحكم إبان انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية منه مشروعيتها.
من الواضح أن معظم أبواب الدستور خاصة المتعلقة بتسيير السلطتين التنفيذية والتشريعية وفصول أخرى وقع إلغاء العمل بها وفقًا لهذا الأمر الرئاسي الجديد كما أن الفلسفة العامة لدستور 2014 وقع التخلي عنها
لكن من الواضح أن معظم أبواب الدستور خاصة المتعلقة بتسيير السلطتين التنفيذية والتشريعية وفصول أخرى وقع إلغاء العمل بها وفقًا لهذا الأمر الرئاسي الجديد كما أن الفلسفة العامة لدستور 2014 وقع التخلي عنها (النظام شبه البرلماني).
ومن المنتظر أن يكون هذا "التنظيم الجديد للسلط" مؤقتًا بينما لم يقم الرئيس قيس سعيّد بعد بتحديد أي موعد واضح لإيقاف العمل به، فيما تكشف فلسفته العامة توجهًا عامًا في المستقبل نحو حكم رئاسي، للرئيس فيه صلاحيات واسعة جدًا، كما يُنتظر عرض ذلك على استفتاء شعبي، دون وضوح لطريقة أو موعد هذا الاستفتاء أو الصيغ التي سيكون عليها.
اقرأ/ي أيضًا:
توجه نحو تعليق الدستور وتغيير النظام السياسي عبر استفتاء.. تخوّف وانتقادات
هل يكون الاستفتاء على تعديل النظام السياسي وجهة قيس سعيّد القادمة؟