27-يونيو-2024
توسّع "التدخل والإنقاذ" والتموقع الجيوسياسي لتونس

صورة من زيارة قيس سعيّد إلى الصين خلال مراسم التوقيع على اتفاقيات تعاون بين البلدين (الرئاسة التونسية)

مقال رأي 

 

بدأت أركان الهوية الجيوسياسية الجديدة التي يسعى الرئيس قيس سعيّد إلى إرسائها بالنسبة لتونس بالظهور. لم يتم ذلك في إطار إعلان استراتيجية معلنة وواضحة بل عبر قرائن وأفعال وبعض تصريحات. الأسلوب "الباطني" في طريقة إعلان السياسات والتوجهات الجديدة، هو أيضًا أسلوب تدريجي دائمًا ما يميز المنعطفات السياسية التي يقوم بها الرئيس التونسي سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. 

استفاد قيس سعيّد من الردة الشعبية تونسيًا في خصوص المسألة الديمقراطية ثم بدأ إثرها يغيّر بتؤدة وببطء -لكن بوضوح أيضًا- دفة السياسة الخارجية

يجب التأكيد هنا على أنّ الرئيس قيس سعيّد كان حذرًا في التعامل مع الأطراف الغربية إثر تقلّده الرئاسة ولم يكن يعبر بشكل واضح عن أي نوايا لتغييرات عميقة حيث كان حينها منهمكًا في معركة الصراع الداخلي. وحتى بعد أشهر قليلة من 25 جويلية/يوليو 2021، بقي يحسب خطاه بحذر، واستقبل مسؤولين أمريكيين كبار من الخارجية أو الأمن القومي وحتى نوابًا ناقدين علنًا لخطواته السياسية وعلى رأسهم كريس ميرفي

على أنّ كل ذلك سيتغير مع استقرار الأمر له داخليًا إما بسبب معارضة تطرح خططًا سياسية غير واقعية بدون أي اهتمام شعبي جدي، أو بسبب إحباط عديد التونسيين وانعزالهم عمومًا عن الشأن السياسي وتركيزهم على تحصيل الحاجات الأساسية في زمن أصبح فيه ذلك أمرًا مشكوكًا. استفاد الرئيس من الردة الداخلية الشعبية في خصوص المسألة الديمقراطية وإرساء نظام الحكم الجديد ثم بدأ إثرها يغيّر بتؤدة وببطء -لكن بوضوح أيضًا- دفة السياسة الخارجية.

ترتكز الهوية الجيوسياسية الجديدة لتونس على محورين أولهما الحفاظ على الحد الأدنى من "التحالف" أساسًا الأمني وثانويًا المالي مع الحلف الغربي دوليًا وإقليميًا وثانيًا على الانفتاح المتدرج على المحور الصيني-الروسي-الإيراني

ترتكز الهوية الجيوسياسية الجديدة على محورين أساسيين. أولًا الحفاظ على الحد الأدنى من "التحالف" أساسًا الأمني وثانويًا المالي مع الحلف الغربي دوليًا وإقليميًا. وثانيًا على الانفتاح المتدرج على المحور الصيني-الروسي-الإيراني بشكل لا يصدم الذائقة الدبلوماسية وتقاليد الثقافة العسكرية التونسية لكن يوجّهها أيضًا بشكل غير مسبوق نحو الشرق. نحن هنا إزاء توازن صعب وفيه مخاطرة واضحة لكن لا يبدو غير محسوب. لنرى بعض القرائن والمؤشرات.

أولًا، في خصوص ضمان "الحد الأدنى" في التموقع التاريخي التونسي ضمن التحالف الغربي. أهم عناصره الالتزام القوي والفاعل في أهم نقطة سياسية تهم الطرف الغربي الأكثر أهمية وجوارًا لتونس أي السياسة الأوروبية في خصوص الهجرة غير النظامية. الأرقام واضحة، عشرات الآلاف من الاعتراضات في بداية موسم الهجرة غير النظامية وما قبل الترسيم الرسمي الجديد لمنطقة "التدخل والإنقاذ" بما يوسعها بشكل عميق ضمن "المنطقة الاقتصادية الخالصة" (EEZ) الخاصة بتونس والمحاذية للمجالين الليبي والإيطالي، وهو ما يجعل القوات البحرية التونسية طرفًا وازنًا في تحديد مآلات الهجرة إلى القارة العجوز. 

أهم عناصر التموقع التاريخي التونسي ضمن التحالف الغربي هو الالتزام القوي والفاعل من تونس في أهم نقطة سياسية تهم الطرف الغربي وهي الهجرة غير النظامية

يأتي ذلك في سياق سياسي أوروبي يميل عمومًا إلى اليمين، بل اليمين القصووي أحيانًا بما يجعل أهم نقطة سياسية داخلية هي الحد من تدفقات الهجرة غير النظامية قبل أي موضوع آخر باستثناء انفلات أي من دول منطقة الجوار في اتجاه الشرق، سنعود إلى هذه النقطة تاليًا.

من الواضح أن رئيسة الوزراء الإيطالية هي التي دفعت بقوة نحو هذا الاتجاه خاصة في تفعيل خطة "externalisation" أي عمليًا تصدير المشكل إلى خارج حدود المجال الإقليمي الأوروبي ووسّعت بذلك من مجال النفوذ الإيطالي على حساب الفرنسي، حيث كانت هذه النقطة المدخل الأساسي للتدخل المالي الأوروبي المقسّط لسد الثغرات في الميزانية ومشاكل التوريد بالعملة الصعبة. وأيضًا انطلاق سلسلة مشاريع الطاقة المتجددة الضخمة سواء مشروع "الماد" للربط الكهربائي مع إيطاليا، أو مشروع الطاقة الخضراء الهيدروجينية خاصة مع شركة طوطال الفرنسية. 

أهم خطوات سعيّد في اتجاه الشرق بلا شك هي زيارة الصين وإعلان تونس كـ"شريك استراتيجي" والحفاوة الصينية الواضحة بالضيف التونسي وتصنيف ذلك كـ"زيارة دولة"

يجب النظر أيضًا إلى التدخلات المالية والاستثمارات الخليجية السعودية والإماراتية في ذات الاتجاه (أي الطاقة المتجددة) حيث لا تزال هذه القوى الإقليمية الوسيطة تتموقع أساسًا في المحور الغربي رغم تأرجحها أحيانًا وبحذر في اتجاه الشرق. هذه الملامح العامة متطابقة مع الإبقاء على حالة تنسيق عسكري وأمني "معتادة" سواء مع الناتو أو الطرف الأمريكي ومن ذلك مناورات "الأسد الإفريقي".

في وقت التزاحم الروسي في المنطقة، فإن الأولوية الرئيسية لواشنطن هي سد أي ثغرات يمكن أن يتسرب منها وجود عسكري روسي، ولهذا لم تتعلق التصريحات الأمريكية الرسمية مؤخرًا بالموضوع السياسي الديمقراطي بل ركزت أساسًا وحصرًا حول "الأخبار الرائجة" (مصدرها طرف من الخارجية الأمريكية لجريدة لاريبوبليكا الإيطالية) لاستعمال مطار جربة في رحلات روسية نحو جنوب الصحراء، الأمر الذي نفته السفارة التونسية في باريس. هنا بالتحديد يكمن الخط الأحمر الغربي: مدى إدارة الدفة الأمنية والعسكرية خاصة ولكن أيضًا اقتصاديًا نحو الشرق.

المؤشر الثاني في إطار أهم خطوات الرئيس سعيّد في اتجاه الشرق، هو زيادة العلاقات التجارية خاصة استيراد القمح والنفط الروسي بشكل لا يجلب الكثير من الجلبة وبحذر كبير

الرئيس على وعي بهذا الحذر الغربي البالغ تجاه هذه النقطة تحديدًا، وهو حذر ولكنه يبدو حاسمًا وسريعًا في الرد على أي انتقادات غربية من ذلك رد سفارتنا في بروكسيل على التصريحات التي صدرت عن المفوضية الأوروبية منذ أسبوع والتي عبرت عن "قلق" أوروبي من مؤشرات التقارب مع المحور الصيني.

أهم خطوات الرئيس في اتجاه الشرق بلا شك زيارة الصين وإعلان تونس كـ"شريك استراتيجي"، ولا تتعلق أهمية الأمر بأي مشاريع استثنائية أعلنت أو لم تعلن بعد، ويجب التفكير هنا في مشاريع بنية تحتية ضخمة سواء المدينة الصحية أو القطار السريع أو ميناء النفيضة، بل في الإعلان السياسي على مستوى جديد من العلاقات والحفاوة الصينية الواضحة بالضيف التونسي وتصنيف ذلك بـ"زيارة دولة". لا يسبق عادة الاقتصادي السياسي في منعطفات من هذا النوع، بل نشهد منعطفًا سياسيًا حذرًا ومتدرجًا يليه الاقتصادي.

المؤشر الثاني، زيادة العلاقات التجارية خاصة استيراد القمح والنفط الروسي ويتم ذلك بشكل لا يجلب الكثير من الجلبة وبحذر كبير. لكن في الطريق إلى بكين وموسكو يكمن المؤشر الآخر أي الطريق نحو طهران وبغداد. كان من اللافت زيارة وزير الخارجية التونسية لأيام إلى العراق قبيل القمة العربية مباشرة وعقد منتدى أعمال تونسي عراقي، والمعلوم أن الاتجاه الغالب في التوازنات الداخلية العراقية اتجاه إيراني. ثم كانت الزيارة التي يمكن توصيفها تاريخية للرئيس التونسي إلى طهران تحت عنوان تقديم التعزية في وفاة الرئيس الإيراني والتي أعلن الرئيس التونسي أنها كانت مبرمجة ومتفق عليها إثر لقائه الرئيس الإيراني الراحل في القمة الطاقية الغازية في الجزائر. 

كان الإعلان عن إزالة التأشيرات للإيرانيين والسياح العراقيين من الناحية الرمزية والسياسية إشارة واضحة نحو تمتين هذا التقارب في اتجاه الشرق

الجزائر طبعًا تلعب دورًا مؤثرًا في الاتجاهات التونسية لكن من الخطأ القول إننا إزاء استنساخ للتموقع الجزائري. هناك تمايزات يجب التركيز عليها خاصة في الحرص على توازن تونسي أكبر تجاه الإمارات، وقرب أكثر لواشنطن عسكريًا، وحتى إن تم نفي وجود رحلات عسكرية روسية نحو جنوب الصحراء فإن مصدر هذه "الأخبار" يمكن أن تقلق الجزائر التي ليست في توافق مع موسكو تحديدًا في خصوص السياسات في جنوب الصحراء.

أخيرًا كان الإعلان عن رفع التأشيرات للإيرانيين والسياح العراقيين من الناحية الرمزية والسياسية إشارة واضحة نحو تمتين هذا التقارب في اتجاه الشرق. للإشارة ليس جديدًا أن تكون هناك جهود لتحسين التدفق السياحي من البلدين إلى تونس، لكن عندما يكون هذا القرار عبر الخارجية وفي سياق سياسي واضح إثر زيارة الرئيس إلى طهران، فنحن إزاء منعطف سياسي وليس مجرد إجراء تقني لتحسين التدفق السياحي.

أخيرًا، من المهم التأكيد طبعًا على أن هناك نقطة التقاء استراتيجية بين الرئيس والمحور الصيني وهي في خصوص إعادة ترتيبات النظام الدولي نحو عامل متعدد الأقطاب وهو الأمر المتجسم الآن في الترتيبات الدبلوماسية المتعارضة في خصوص وضع المنطقة على خلفية الحرب في غزة، وصعود تأثير "محور المقاومة" الأقرب طبعًا إلى المحور الصيني.

غياب سعيّد عن قمة مجموعة السبع، لا تبدو مبرراته الدقيقة واضحة، لكنه يصب في النهاية في سياق الإشارة بأن ليس هناك "تلهفًا" تونسيًا نحو دعوات إلى الحضن الغربي

يضاف إلى ذلك نقطة مهمة خاصة للقوى الداخلية النافذة (إدارة وقوات حاملة للسلاح) المتبرمة من أي ضغط في اتجاه إرجاع الأوضاع نحو ما كان عليه الأمر قبل 25 جويلية/يوليو أو حتى أي حد أدنى من تنافس حزبي جدي، وتضمّن البيان التونسي الصيني المشترك، إشارة واضحة على تبني سياسة معارضة لنهج "التدخل الغربي" في سياق مواضيع الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكان من اللافت هنا "مقاطعة الرئيس" الدعوة التي وجهت له للحضور في روما كضيف لقمة الدول السبع. غياب لا تبدو مبرراته الدقيقة واضحة، لكنه يصب في النهاية في سياق الإشارة بأن ليس هناك "تلهفًا" تونسيًا نحو دعوات إلى الحضن الغربي.

توازن دقيق وحذر، وعمليًا في غياب أي تحديات داخلية جدية للرئيس في اتجاه تغيير موازين القوى، فإنه يدخل الانتخابات الرئاسية محصنًا عمومًا من أي تهديدات أو ضغوطات خارجية. سنستمع على الأرجح إلى بعض الانتقادات لكيفية تنظيم وتسيير العملية الانتخابية لكن لن تكون محددة في النظرة الغربية أو النظرة الشرقية للوضع في تونس. هناك قطار انطلق نحو تموقع جيوسياسي جديد، وانتهى الأمر، يبقى أن محطته الأخيرة غير واضحة المعالم.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"