22-أكتوبر-2024
الاقتصاد التونسي

الرئيس يرفض الحديث عن "منوال تنموي جديد" لكنه يقدم عمليًا وفعليًا "خطة جمود اقتصادي" ويواصل المراهنة على تعبئة داخلية تجمد تمويل القطاع الخاص (getty)

مقال رأي 

 

منذ حوالي عام ونصف كتبت مقالًا حول آفاق مفاوضات السلطات التونسية مع صندوق النقد الدولي ("تونس في قلب الرادار الدولي.. ضغط أم "لوبيينغ"؟، مارس/آذار 2023) حيث قلت "السؤال الأكبر هنا: هل لسعيّد خطة "ب"، أم أنه ببساطة يبحث عن تكتيك حافة الهاوية، بمعنى إما أن تقبلوا بشروطي أو تنهار المالية العمومية وينفتح تمامًا باب الهجرة غير النظامية". 

كان ذلك قبل أسابيع قليلة من إعلان الرئيس بشكل واضح رفضه لـ"إملاءات صندوق النقد" (6 أفريل/نيسان 2023)، ومن ثمة رفضه لـ"اتفاق الخبراء" الذي تم مع حكومة نجلاء بودن في أكتوبر/تشرين الأول 2022. 

تميز مشروع ميزانية 2025 أساسًا بنقطتين، الأولى تتعلق بزيادة ضريبية تصاعدية على الدخل، والثانية زيادة ضريبية على المؤسسات المالية والبنكية، الرسالة المعلنة هنا "العدالة الجبائية"

بمناسبة نشر مشروع ميزانية 2025، وفي ظل عدم وجود رؤية تفصيلية لبرنامج الرئيس الاقتصادي الموعود في إطار عهدته الرئاسية الجديدة والمعنون بـ"البناء والتشييد"، سنحاول استقراء خطته الاقتصادية من خلال السياسات العملية في الميزانيات المتلاحقة. 

تميز مشروع ميزانية 2025 أساسًا بنقطتين. الأولى تتعلق بزيادة ضريبية تصاعدية على الدخل، والثانية زيادة ضريبية على المؤسسات المالية والبنكية. الرسالة المعلنة هنا "العدالة الجبائية". 

مثلما وضح الباحث في الجباية أمين بوزيان هذا تراجع عن توجه سابق أثّر فيه "صندوق النقد" منذ أواخر الثمانينيات، وهو التراجع عن الضرائب التصاعدية على الدخل. لكن مثلما يوضح هو أيضًا فإن الشرائح يجب أن تكون أكثر تفصيلية وأنّ شريحة الدخل "من أربعين ألف إلى خمسين ألف في السنة" ثم شريحة "من خمسين ألف إلى فوق" لا تعكس بشكل تفصيلي الرواتب الأعلى دخلًا والتي تصل إلى مستويات تشمل المائتي ألف وأكثر في السنة. 

انتقد الرئيس في "خطاب القسم" حديث البعض عن "منوال تنموي جديد" مشيرًا كما فعل سابقًا إلى أنّ الشعب التونسي هو الذي سيبتدع منواله، يبقى أنّ الرئيس معنيّ وفق الدستور بتحديد السياسات العامة للدولة

الزيادة الضعيفة في أجور الشرائح الدنيا مقابل زيادة الضرائب في الأجر الصافي لمن هم أعلى من 2600 دينار تعني موضوعيًا مزيد اهتراء "الطبقة الوسطى"، حيث أنّ العيش الكريم يستوجب في أقلّ الحالات وبسبب التضخم، أجرًا شهريًا صافيًا للعائلة الواحدة بمستوى 3000 دينار على الأقل. 

الأهم من ذلك، فإن الزيادة في الضرائب لا تؤدي وحدها للعدالة. الأهم أن تبني مسار "دولة اجتماعية" بمعنى دولة تتجه للتركيز على العبء الضريبي من أجل توفير خدمات اجتماعية أكبر، خاصةً في قطاعات الصحة والنقل والتعليم والتجهيز، يعني بالأساس كما هو معلوم الترفيع في نسب الاستثمار العمومي، كون الأخير قاطرة لخلق الثروة. 

عند الاطلاع على "تقرير مشروع ميزانية الدولة" يمكن أن نلاحظ أنّ نفقات الدعم بقيت عمومًا هي نفسها، وأنّ مشاريع التنمية، خاصة المرصودة في إطار وزارة الاقتصاد والتخطيط، ظلت على حالها مع التركيز على زيادة لدعم الشركات الأهلية. 

الميزانية الجديدة لا تختلف من حيث معدل العجز في التوازنات المالية عن سابقتها، إذ أنها ستحتاج لتعبئة موارد مالية من السوق الداخلية أو الخارجية على حدٍّ سواء، وهنا نأتي لمفهوم "حافة الهاوية"

انتقد الرئيس في "خطاب القسم" حديث البعض عن "منوال تنموي جديد"، مشيرًا كما فعل سابقًا إلى أنّ الشعب التونسي هو الذي سيبتدع منواله. يبقى أنّ الرئيس معنيّ بالدستور بتحديد السياسات العامة للدولة بما هو منتخب من الشعب. ومن ثمة يواصل الامتناع عن تقديم تصور تنموي ينزل عمليًا شعار "الدولة الاجتماعية"، ويكتفي في المقابل بنقد النظام الاقتصادي الريعي القائم. حتى عند حديث عن "ضرورة ثروة تشريعية" لم يوضح الرئيس نماذج عن التشريعات الجديدة لمواجهة النظام القائم. 

من الواضح، أيضًا، أنّ الميزانية الجديدة لا تختلف من حيث معدل العجز في التوازنات المالية عن سابقتها، إذ أنها ستحتاج لتعبئة موارد مالية من السوق الداخلية أو الخارجية على حدٍّ سواء. وهنا نأتي لمفهوم "حافة الهاوية". استطاعت الحكومات المتعاقبة منذ 25 جويلية/يوليو 2021 تعبئة الموارد وفقًا لتوجه عام يقيم معادلة توازن جيوسياسية إقليمية، حيث تتدخل مجموعة من الأطراف الإقليمية والدولية، الجزائر وليبيا خاصة فيما يتعلق بالمواد الطاقية، والسعودية فيما يتعلق بالموارد المالية، وأيضًا الأطراف الأوروبية مقابل التوافق على سياسة هجرة غير نظامية.

الوصفة الاقتصادية للرئيس ترفض الانجرار في منهجية "صندوق النقد" الليبرالية وتتمسك بشعار "الدولة الاجتماعية"، لكنها لا تؤسس عمليًا لخلق الثروة بالاستئناس بتجارب "تنموية اجتماعية" مقارنة

هذه "الوسادة" الجيوسياسية توفر إمكانية تجميد التفاوض مع "صندوق النقد"، ومن ثمة عدم الاضطرار للتفاوض معه في النقطتين المفصليتين اللتيْن تم تحديدهما في "اتفاق الخبراء"، أي تخفيض منهجي في "نفقات الدولة"، وخاصة تحوير قانون المؤسسات العمومية بما يسمح ببداية خوصصتها. 

الرئيس يصر هنا على "تطهيرها" وأيضًا وخاصة "الحفاظ عليها". لكن لا يوضح هل أنّ ذلك يعني "الحفاظ" على مردودية بعضها السلبية. السؤال الكبير كيف يمكن "إصلاحها" بما يجعلها قاطرة لخلق الثروة، بل أيضًا تأسيس أخرى جديدة في قطاعات رائدة تستوجب استثمارًا عموميًا يستطيع مجابهة المخاطر بعكس القطاع الخاص. نعم صحيح أنّ هناك من يريد تصفية المؤسسات العمومية فقط لجعلها مناسبة للخوصصة بأثمان زهيدة وهو ما حصل في آخر الثمانينيات وبداية التسعينيات. لكن في المقابل لا يمكن "الحفاظ" عليها كما هي. 

الرئيس يرفض الحديث عن "منوال تنموي جديد" لكنه يقدم عمليًا وفعليًا عبر قوانين الميزانيات المتعاقبة والمتشابهة "خطة جمود اقتصادي" ويواصل المراهنة على تعبئة داخلية تجمد تمويل القطاع الخاص

في الخلاصة، إنّ الوصفة الاقتصادية للرئيس ترفض الانجرار في منهجية "صندوق النقد" الليبرالية وتتمسك بشعار "الدولة الاجتماعية"، لكنها لا تؤسس عمليًا لخلق الثروة بالاستئناس بتجارب "تنموية اجتماعية" مقارنة. 

هذا التوجه يؤدي بالضرورة  إلى جمود اقتصادي. هو يرفض الحديث عن "منوال تنموي جديد" لكنه يقدم عمليًا وفعليًا عبر قوانين الميزانيات المتعاقبة، المتشابهة عمومًا، "خطة جمود اقتصادي" ويواصل المراهنة على تعبئة داخلية تجمد تمويل القطاع الخاص، وأيضًا تدخل جيوسياسي خارجي لإسناد دوري للميزانية. 

التصويت الكبير وغير المتوقع للرئيس في انتخابات 2024، رغم كل الخروقات التي شابتها، عبّر عن مزاج يسود الكتلة الانتخابية النشيطة، وكان من بين أسبابه محاولة منحه فرصة لتجاوز "مرحلة الهدم" وبداية "مرحلة بناء". ميزانية 2025، بوصفها أوّل تفعيل للمرحلة الجديدة وشعارها "البناء والتشييد"، لم تعكس ذلك.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"