25-يونيو-2024
الأحزاب التونسية علم

بقدر ما تتبيّن أزمة السلطة اليوم فإن مزاجًا يعبّر عنه تونسيون لا يزال يكشف بشكل بيّن عن رفض حاسم للنخبة السياسية الفاعلة قبل 25 جويلية 2021 (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

هل كان مشهد الانتقال الديمقراطي عشيّة الانقلاب هو مشهد الديمقراطية التي نريد؟ المجيب قد يسأل بدوره عن معنى الديمقراطية التي نريد باعتبار ذلك مسألة أوليّة قبل الإجابة عن السؤال الأوّل. لكن بقدر ما تتباين التقديرات ليس فقط بين أهل السياسة بل أيضًا بين المولعين بالتفكيك النظري، فإنه يصعب الاختلاف بأن استفحال الفساد السياسي والقضائي والإفلات من العقاب وتنامي السياسوية مع بطء إرساء المؤسسات وضمان فاعليتها في تأمين الديمقراطية الناشئة مع بطء نسق الإصلاحات في مختلف الميادين، جميعها مثلت عناصر مرض مستفحل في البناء الديمقراطي. 

عناصر عديدة مثلت مظاهر مرض مستفحل في البناء الديمقراطي في تونس خلال العشرية الماضية من بينها استفحال الفساد السياسي والقضائي والإفلات من العقاب مع بطء إرساء المؤسسات 

قرارات 25 جويلية/يوليو 2021 هي استثمار في هذا المرض، لكن ليس بغاية ترميم الديمقراطية بل بغاية إنهائها ولو بعنوان الديمقراطية "الحقيقية" نفسها، على نحو أدى بالتبعية لنشوء سلطوية تتبيّن معالمها يومًا بعد يوم. 

قرارات 25 جويلية/يوليو 2021، بذلك، وقبل أن تمثّل بدايةً لانقلاب تدريجي على المؤسسات وثم على المسار الديمقراطي برمّته، هي نتيجة تراكمية ليس فقط لما ظهرت أزمة سياسية أو مؤسساتية طيلة الأسابيع السابقة لإعلان القرارات، بل نتيجةً لأزمة الديمقراطية الناشئة في حد ذاتها. وإنّه بغضّ النظر عن مجهود مواجهة السلطوية بغاية استعادة الاستحقاق الديمقراطي، لا يمكن تجاهل هذه الأزمة بالعودة لأسبابها العميقة وتقييمها وتحميل المسؤوليات. 

والغاية هنا ليست توزيع الاتهامات بل استخلاص الدروس. لتكن الصورة واضحة، فبقدر ما تتبيّن أزمة السلطة اليوم سواءً في إدارة الملف الاجتماعي والمعيشي أو إدارة الملف السياسي على نحو جعلها تهرب نحو مزيد استهداف الحريات العامة، وكشف وجهها الحقيقي خلف شعارات الديمقراطية "الحقيقية" والسيادة ومكافحة الفساد، فإن مزاجًا يعبّر عنه تونسيون لا يزال يكشف بشكل بيّن عن رفض حاسم للنخبة السياسية الفاعلة قبل 25. 

ليست فقط مسألة خطاب كراهية أو نتيجة استثمار السلطة في خطاب المؤامراتية وتحميل مسؤولية الأزمات للآخرين، لكن أيضًا مسألة تقييم للأداء على نحو لم تكن الديمقراطية، كما يراها هذا المزاج، جاذبة في أبسط توصيف. 

لا يهمّ توزيع مسؤولية الأخطاء بين 2011 و2021 بالنسبة للناس بقدر ما يهمّهم الإقرار بها.. لم تكن قطعًا "عشرية سوداء" كما تحاول أن توهم أبواق السلطة اليوم، بل كانت عشرية مخاض عسير، لكنها أيضًا لم تكن عشرية وردية

وتخطئ النخبة السياسية الفاعلة بين 2011 و2021 في تجاوز ذلك. هي أخطاء بل خطايا ثابتة. ولا يهمّ توزيع مسؤوليتها بالنسبة للناس بقدر ما يهمّهم الإقرار بها. لم تكن قطعًا "عشرية سوداء" كما تحاول أن توهم أبواق السلطة اليوم، بل كانت عشرية مخاض عسير، لكنها أيضًا لم تكن عشرية وردية. 

في الواقع، يشعر عديد الناس بازدراء للنخبة خاصة في السياق الشعبوي الحالي، وهو ازدراء يتصاعد كلما شعروا بأن النخبة الحزبية خصوصًا تسعى لاستغفالهم، كما يظنون أنها استغفلتهم على مدى سنوات، مثلًا على نحو عدم تحقيق الوعود الانتخابية ذات السقف العالي. 

يشعر عديد الناس بازدراء للنخبة خاصة في السياق الشعبوي الحالي، وهو ازدراء يتصاعد كلما شعروا بأن النخبة الحزبية خصوصًا تسعى لاستغفالهم، كما يظنون أنها استغفلتهم على مدى سنوات، مثلًا على نحو عدم تحقيق الوعود الانتخابية

وليس صحيحًا هنا ما يردّده أنصار الميكيافيلية بأنّ الصراحة والمصداقية غير مفيدتين تجاه الجمهور العام. فلو نتجاوز المبدئية بلزوم التمسك بأخلاقيات العمل السياسي، فإن جزءًا أساسيًا في الشعور بثقة نسبة هامّة تجاه الرئيس الحالي هو الاعتقاد بأنه صريح وغير مراوغ على عكس البقيّة. وبغض النظر عن صحة هذا الاعتقاد في حد ذاته فهو يحيلنا لما ظهر من نقطة سوداء في حصيلة الآخرين. وإن ما كان من حديث لاستعادة الثقة، فهو يستدعي في البداية العودة على خيارات سابقة والمصارحة بشأن تقييمها. 

لقد حملت العشرية مكاسب عديدة نصارع اليوم للحفاظ عليها، لكنها تضمنت محطات فشل لا موجب للتغطية عليها، بل يجب تسليط الضوء عليها بكل شجاعة من بينها ذكرًا مكافحة الفساد التي وظفتها السلطة اليوم في استهداف دون ضوابط خارج سقف المساءلة النزيهة.

يوجد نفور إلى حدّ ما تجاه وجوه فاعلة في إدارة الحكم طيلة السنوات الماضية، لكن أعتقد أن هذا النفور قابل للتقلّص لو أثبتت هذه الوجوه نزاهتها. لتكن الصورة واضحة، عدد من هذه الوجوه مودعة اليوم في السجون وهي ضحية لمحاكمات سياسية تفتقد لضمانات المحاكمة العادلة، وهي بهذا المعنى قطعًا ضحيّة لانتهاك جملة من الحقوق السياسية. لكنّ ذلك لا يعني أن تكتفي بصورة الضحية والواجب دائمًا ومبدئيًا، للتذكير، الدفاع عنها والتصدي للانتهاكات ضدها. 

حملت العشرية مكاسب عديدة نصارع اليوم للحفاظ عليها، لكنها تضمنت محطات فشل لا موجب للتغطية عليها، من بينها مكافحة الفساد التي وظفتها السلطة اليوم في استهداف دون ضوابط خارج سقف المساءلة النزيهة

صورة السياسي المسؤول لا يجب أيضًا أن تضمحل بما تعنيه المسؤولية من معنى. فالظهور بصورة الضحية فقط لن يجعل الناس تطوي الصفحة بسرعة، لأن العديد من هؤلاء الناس يعتبرون أنفسهم هم الضحية. لكن مطالبة زعيم سياسي ما مودع بالسجن مثلًا بتقييمه واعتذاره عن خيار ما، إن لزم الأمر، ليس يسيرًا لأن شبهة محاصرة الشاة التي يُراد أصلًا ذبحها حاضرة. 

ولذلك، وفي ظل مناخات الخشية من محاكمات النوايا والتاريخ بل وأيها شبهات التفوق الأخلاقي أو "شرعنة" تحفيز انتهاكات السلطة، فإنّ المسألة تحتاج لدفع أساسًا في إطار مؤسساتي رصين سواء داخل الأحزاب أو بينها، ولكن أيضًا بالنسبة للمكونات المدنية التي عليها عدم الاستقالة من واجبها في تحفيز النقاش الديمقراطي من بوابة تشريح عشرية الانتقال الديمقراطي.

بقدر أهمية التصدي للانتهاكات والانحرافات التي يتوسّع مداها استهدافًا للحريات العامة، لا يجب التخلّي عن مجهود لازم لأخذ العبرة بغاية ضمان عدم تكرار أخطاء الماضي في المستقبل

إنّ تفكيك مكامن العطب ومراجعتها يمثلان السبيل الرئيسي لضمان عدم تكرارها. التاريخ يعلمنا أن الديمقراطيات بُنيت على التجارب والمراكمة، والديمقراطية التونسية، التي لن تموت رغم أزمتها، سيتحفّز استئنافها بأخذ العبرة من سنوات انتقال معطوب لم يؤدِّ بالنهاية لديمقراطية متينة وجاذبة قادرة على حماية نفسها مؤسساتيًا، وأيضًا قادرة على تأمين نفسها في العمق الشعبي. 

بقدر أهمية التصدي للانتهاكات والانحرافات التي يتوسّع مداها استهدافًا للحريات العامة، لا يجب التخلّي عن مجهود لازم لأخذ العبرة بغاية ضمان عدم تكرار أخطاء الماضي في المستقبل. إن القيادة إلى الأمام لا تعني عدم النظر للمرآة الجانبية للوراء.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"