23-مايو-2024
الاقتصاد التونسي تونس العاصمة شارع الحبيب بورقيبة

من الواضح اهتمام قيس سعيّد بـ"العالم الجديد الذي بصدد التشكل" واستعمال فرصة التنافس الأمريكي الروسي في المنطقة

مقال رأي 

 

الزمن الجيوسياسي التونسي الراهن يتميز بالتقاء عاملين أساسيين يدفعان نحو سياق عام للتغير وليس الثبات. العامل الأول داخلي وهو ما يمكن تسميته بـ"الغضب الشعبوي" أي الذي يفسح مجالًا لمساءلات عميقة تأخذ مسافة من ثوابت النخبة التونسية السائدة في السياسة الخارجية طوال عشرات السنين، والعامل الثاني خارجي وهو القطيعة الجيوسياسية الدولية التي بصدد التشكل وتداعيتها العميقة إقليميًا، البطيئة لكن الثابتة، بما في ذلك اختلاط المحاور وبالدور المتعاظم للقوى الجيوسياسية "المتأرجحة". هذا الالتقاء يعني عمليًا أنّنا بصدد منطقة اضطرابات عالية حيث المشي في منطقة ألغام في كل الاتجاهات، غربيًا سواءً مع واشنطن أو أوروبيًا، ثم في اتجاه الحلف الدولي المضاد الذي بصدد التشكل، موسكو والصين، ثم إقليميًا مغاربيًا وعربيًا وإسلاميًا. 

بدايةً على المستوى الدولي نحن إزاء استراتيجيا برود لكن ثبات في العلاقة مع الحلف الغربي عمومًا، وواشنطن خاصة، مقابل انفتاح متزايد أمام الحلف الروسي-الصيني. 

الزمن الجيوسياسي التونسي الراهن يتميز بالتقاء عاملين أساسيين يدفعان نحو سياق عام للتغير وليس الثبات، الأول داخلي وهو ما يمكن تسميته بـ"الغضب الشعبوي" والثاني  خارجي وهو القطيعة الجيوسياسية الدولية 

مرت منذ 25 جويلية/يوليو 2021 مقاربة واشنطن  للعلاقة مع الرئيس قيس سعيّد، من محاولة الاحتواء إلى اليأس من ذلك، لكن أيضًا الحذر من انفراط العلاقة مع دولة محورية في الاستراتيجيا الأمريكية في المنطقتين العربية والمتوسطية خاصة على مستوى النفاذ لمواقع استراتيجية عسكرية أساسية. 

النقد الأمريكي لسياسات الرئيس الداخلية خاصة على المستوى السياسي توارت بشكل كامل تقريبًا، وأصبح ذلك الحال خاصة مع مزيد تراجع القدرة الأمريكية على التأثير عمومًا بصدد الضربة الكبيرة التي تلقتها سياسيًا في الإدراك الشعبي الداخلي في سياق تداعيات طوفان الأقصى.

فمن البديهي أنّ آخر حجج يمكن لواشنطن استعمالها في تعاملها مع الرئيس سعيّد حجة "حقوق الإنسان"، وهي تسند بشكل مستمر سياسة الإبادة الجماعية في غزة.

حتى أقرب أصدقاء واشنطن يستشعرون حرجًا بالغًا تجاهها ويسارعون لأخذ مسافة منها. تكتفي الولايات المتحدة بالحفاظ على "الحد الأدنى الاستراتيجي" في العلاقة مع تونس أي النفاذ العسكري، وهكذا يمكن اعتبار أهم مظاهر العلاقة الراهنة زيارة مسؤول الناتو باور منذ أسابيع، ثم القيام بمناورات "الأسد الإفريقي" في جنوب البلاد بحضور السفير الأمريكي وقيادات الجيش. 

تكتفي واشنطن بالحفاظ على "الحد الأدنى الاستراتيجي" في العلاقة مع تونس أي النفاذ العسكري، وهي معنية أساسًا في عموم المنطقة بالحفاظ على مواقعها وعدم التفريط فيها لصالح أي محاولات روسية للتغلغل مثلما يحدث في الساحل والصحراء غير بعيد عن تونس

واشنطن معنية أساسًا في عموم المنطقة بالحفاظ على مواقعها الراهنة وعدم التفريط فيها بأيّ شكل من الأشكال لصالح أي محاولات روسية للتغلغل مثلما يحدث في الساحل والصحراء غير بعيد عن تونس. 

ولهذا من الواضح أنّنا إزاء توتر أمريكي شبه صامت، برز في تصريح مسؤول في الخارجية إلى صحيفة "ريبوبليكا" الإيطالية منذ أيام، إزاء الادّعاء بوجود رحلات طائرات تقلّ قوّات فاغنار، الأرجح نحو جنوب الصحراء في مواقع النفوذ الجديدة في مالي والنيجر، تهبط حسب هذا المصدر في مطار جربة. 

هذا المعطى لم يتم نفيه أو تأكيده تونسيًا، في المقابل تم نفيه روسيًا، لكن لا يبدو أنّ التصريح الأمريكي أتى من فراغ، ومن غير الواضح لما يمكن لواشنطن موضوعيًا ادّعاء تواجد روسي، خاصة أمام تراجع صورة الوجود الغربي في المنطقة. 

من الواضح اهتمام الرئيس سعيّد بـ"العالم الجديد الذي بصدد التشكل"، واستعمال فرصة التنافس الأمريكي الروسي في المنطقة، وبرز ذلك في زيارة وزير الخارجية لافروف ونشر تصريحه الكامل في صفحة رئاسة الجمهورية الذي قام فيه بنقد مستفيض للرؤية الغربية للمنطقة مع التركيز على السياسات الأمريكية. 

من الواضح اهتمام سعيّد بـ"العالم الجديد الذي بصدد التشكل"، واستعمال فرصة التنافس الأمريكي الروسي في المنطقة وبرز ذلك في زيارة لافروف لتونس التي قام فيها بنقد مستفيض للرؤية الغربية للمنطقة مع التركيز على السياسات الأمريكية 

الاهتمام التونسي بتقوية العلاقة مع موسكو، وفتح باب خلفي معها، واضح من خلال زيارات وزير الخارجية نبيل عمّار والسعي للاستفادة من التموين بالحبوب الروسية في وقت تناقص فيه الإنتاج التونسي لهذه المادة الاستراتيجية بسبب الظروف المناخية.  ومن غير الواضح إن كانت هناك طلبات روسية لخدمات في المقابل، بما في ذلك تسهيلات لوجيستية للنشاط الروسي في المنطقة، خاصة جنوب الصحراء. 

لكن حتى غربيًا لسنا بصدد تطابق مطلق. نفوذ الراعي الأوروبي التقليدي بصدد التراجع سياسيًا خاصة في سياق الحرب الحالية في غزة. لكن الأهم أنّنا بصدد تراجع فرنسي وتقدم إيطالي، وليس من الواضح إن كان التنافس الخفي للعاصمتين الأوروبيتين في تونس مؤثرًا سلبًا على سياسات أوروبية منسجمة في تونس، لكن من الواضح أنّ التأثير الإيطالي في أوجه، خاصة على قاعدة المشروع الاستراتيجي الكبير للربط الكهربائي باستعمال الطاقة المتجددة، وعلى قاعدة التنسيق غير المسبوق في خصوص مواجهة الهجرة غير النظامية. 

في المقابل فإنّ الاحتجاجات الديبلوماسية الأوروبية والفرنسية خاصة حول وضع حقوق الإنسان، ليست فقط غير مجدية داخليًا بسبب صورة النفاق والمكيالين في الذهنية الشعبية التي تطبع السياسات الفرنسية إزاء ما يحدث في غزة، بل أيضًا لانخرام ميزان القوى الداخلي لصالح الرئيس. 

المشي بين الألغام في سياق العلاقة مع الغرب عمومًا، يظهر أيضًا في غموض موقف تونس تجاه الانتقادات الغربية الأخيرة، حيث لدينا احتجاج علني وقوي من قبل الرئيس مباشرة، لكن دعوته لاستدعاء السفراء مرتين على التوالي ليس لها أي أثر علني

المشي بين الألغام في سياق العلاقة مع الغرب عمومًا، يظهر أيضًا في غموض موقف تونس تجاه الانتقادات الغربية الأخيرة، حيث لدينا احتجاج علني وقوي من قبل الرئيس مباشرة، لكن دعوته لاستدعاء السفراء، مرتين على التوالي (مرة في اجتماع مجلس الأمن القومي منتصف أفريل/نيسان، ثم في لقائه منذ أسبوع مع كاتب الدولة للخارجية)، ليس لها أي أثر علني. في المقابل استقبل وزير الخارجية عمار السفير الأمريكي يوم 21 ماي/أيار ولم يصدر في البلاغ الرسمي لكليهما على الأقل أي حديث عن احتجاج. 

على المستوى الإقليمي حجر زاوية أساسي في السياسة التونسية هي العلاقة مع الجزائر خاصة أمام تواصل تراجع الدور الليبي بسبب الانقسام الداخلي وهشاشة السلطة المركزية، وأيضًا انعزال المغرب خاصة بعد قرار إعلان التطبيع. 

لكن العلاقة الاستراتيجية مع الجزائر تواجه مطبات. ليس أقلها ذات الطابع الثنائي خاصة عدم القدرة على ضبط سيول الهجرة غير النظامية القادمة من الحدود الغربية، ولا يبدو أنّ الجزائر معنية بالحفاظ على أي منها على ترابها بل تقوم أحيانًا بتسريع وصولها إلى الحدود التونسية. لكن أيضًا مطبات في خصوص مواجهة الوضع الإقليمي وربما الملف الذي يمكن أن يؤدي إلى قلق جزائري هو مدى صحة وتأكد ما نقلته الصحافة الإيطالية والذي أشرنا إليه أعلاه حول هبوط طائرات روسية في تونس في اتجاه الساحل والصحراء، والمعلوم الآن أنّ الجزائر غير متاحة تمامًا لسياسة حليفها التقليدي الروسي في جنوب الصحراء خاصة في مالي والنيجر وهو الوضع الذي أدى إلى تراجع الدور الجزائري هناك وتوتّر مع العاصمتين باماكو ونيامي، في ذات الوقت تزايد نفوذ قوات فاغنار. 

هناك غموض وعدم استقرار العلاقة مع "نصف" الجار الليبي، حيث يتواصل تدفق سيول الهجرة غير النظامية وتنصل طرابلس من أي مسؤولية، كما يستمر غلق معبر رأس جدير من الجانب الليبي، والذي يبدو ورقة ضغط في يدي طرابلس من أجل ملفات عالقة

من جهة أخرى فإن توسع الاستثمارات الإماراتية في ملف الطاقة المتجددة، في ذات وقت توسع الاستثمارات الإيطالية في ذات القطاع، يمكن أنّ يشكل مصدر قلق جزائري خاصة بسبب العلاقات المتوترة بينها وأبوظبي. 

إقليميًا أيضًا فإن غموض وعدم استقرار العلاقة مع "نصف" الجار الليبي، أي حكومة الدبيبة، ليس فقط موضوعًا خارجيًا، حيث يتواصل تدفق سيول الهجرة غير النظامية وتنصل طرابلس من أي مسؤولية ولكن خاصة استمرار غلق معبر رأس جدير من الجانب الليبي، والذي يبدو ورقة ضغط في يدي طرابلس من أجل ملفات عالقة (ربما من بينها الأرصدة المجمدة). وعمليًا، لم تثمر زيارة وزير الداخلية الليبي الطرابلسي ولقاؤه مع الرئيس آثارًا. "رأس جدير"، وبن قردان تحديدًا، نقطة استراتيجية في الاستقرار بالنسبة لتونس، واستمرار غلقه أمر مقلق للغاية. 

مبدئيًا يبدو الرئيس منسجمًا مع شعاراته العامة، أي عدم الالتزام بمحور أو حلف محدد والتمسك بـ"استقلالية القرار"، يبقى أنّنا إزاء مساءلة عميقة للتقاليد القديمة للسياسة الخارجية.. في عالم متغير، وبمعزل عمن يحكم تونس، لا يمكن للسياسات القديمة التواصل

أخيرًا إقليميًا، لكن أبعد في اتجاه الشرق، نحن أيضًا إزاء نفس المشي الحذر بين الألغام. حيث يتواصل التمسك بالعلاقات التاريخية مع الرياض سواءً بمنح قروض أو انطلاق مشروع مستشفى الملك سلمان (أنظر مقالنا الأخير "حول الجيوسياسية السعودية وتونس"). 

في المقابل نشهد انفتاحًا تونسيًا متزايدًا تجاه طهران، رمزيًا نشهد أول زيارة تونسية رسمية من أعلى مستوى منذ الثورة الإسلامية من قبل الرئيس سعيّد إلى طهران بمناسبة جنازة الرئيس الإيراني، وهو الذي التقاه في قمة الجزائر للطاقة الغزية منذ شهرين. 

من الممكن أن ننظر أيضًا إلى دفء العلاقة بين تونس وبغداد، التي تبقى حليفًا إيرانيًا بفعل التوازنات الداخلية، خاصة في سياق زيارة وزير الخارجية نبيل عمار التي استمرت لبضعة أيام وشكلت منتدًى تونسيًا عراقيًا للأعمال بحضور رئيس منظمة الأعراف. 

مبدئيًا يبدو الرئيس منسجمًا مع شعاراته العامة، أي عدم الالتزام بمحور أو حلف محدد (الأمر الذي نص عليه في دستور 2022)، وأيضًا التمسك بـ"استقلالية القرار". يبقى أنّنا إزاء مساءلة عميقة للتقاليد القديمة للسياسة الخارجية. في عالم متغير بعمق، وبمعزل عمن يحكم تونس، لا يمكن للسياسات القديمة التواصل.  كيف يتم تسيير الملف الخارجي من أجل المصالح العليا للدولة التونسية، هو ما يجب أن يشغل الفاعلين التونسيين حكمًا ومعارضة. ومن المفروض أن يكون ذلك محور برامج المتنافسين على الرئاسة، وجزءًا أساسيًا من النقاش العام. لكن يفترض ذلك قبلًا مناخًا مريحًا من الحرية، وانتخابات تنافسية وحرة، وهو الوضع المشكوك فيه حتى الآن. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"