11-أكتوبر-2024
انتخابات تونس.. خلاصات أولية والتفاعلات الجيوسياسية

المحصلة الموضوعية أنّ الرئيس قيس سعيّد عزّز شرعيته أمام الأطراف المختلفة (هيئة الانتخابات)

مقال رأي 

 

انتهت الانتخابات الرئاسية في تونس لـ6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 من دورها الأول، بنسبة مشاركة تقارب مليونين وثمانمئة ألف ناخب، وتصويت حوالي مليونين وأربعمائة ألف منهم لمصلحة الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيّد. من المبكّر أن نغوص بشكل مفصّل في تفاصيل الأرقام. سنكتفي في هذا المقال بخلاصات أولية. كما نستعرض التفاعلات الجيوسياسية الأولية.

الكتلة الانتخابية لقيس سعيّد التي حسمت الرئاسية من دورها الأول، لم يسبق أن تحصل عليها أي مرشح سابق منذ 2011،  الانتصار حاسم بلا شك، ومفاجئ أيضًا حتى لأكثر أنصاره قربًا، فما بالك خصومه

الأرقام المتوفرة تحيلنا إلى الخلاصات التالية مبدئيًا:

أولًا، مثلت الانتخابات الرئاسية، رغم أهميتها المعتادة التي تفوق أي استحقاق انتخابي آخر برلماني أو بلدي أو محلي، محطة أخرى تؤكد تراجع الكتلة الانتخابية النشيطة. بمعزل عن خصوصيات هذه الانتخابات التي تعرضنا لها سابقًا والتي تميزت بتنافسية محدودة للغاية، فإن الاتجاه الغالب الرئيسي منذ 2014 يحيلنا إلى تراجع الكتلة الانتخابية النشيطة، أو "الناخبين النشطين"، والتي وصلت أقصاها في أول استحقاق انتخابي سنة 2011 التي شارك فيها أربعة ملايين ناخب، لتتراجع النسبة إلى حوالي ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف ناخب سنة 2014، ونفس النسبة في الدور الأول من رئاسية 2019، مقابل أقل من ثلاثة ملايين في تشريعية 2019، ثم لتعود للصعود في السياق الاستقطابي الحاد في الدور الثاني لرئاسية 2019 بحوالي ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف ناخب. ثم تتراجع إلى مليونين وثمانمئة ألف هذا العام، وهي المناسبة الانتخابية القريبة من حدث الاستفتاء، بعد تراجع كبير في الانتخابات التشريعية 2022، والمحلية 2023.

نحن إزاء تراجع مطّرد ليس للكتلة الناخبة النشيطة فقط، بل أيضًا نحن إزاء حالة أشمل وأكثر أهمية سبق أن ركزت عليها في مقالي الفارط، أي الرتابة والإحباط المعمّم، للأسباب التي ذكرتها، وعلى رأسها تراجع الثقة في الخلاص الجماعي لحساب الخلاص الفردي.

انتصار سعيّد في الانتخابات ناتج طبعًا عن ضعف المرشحين المنافسين، وإقصاء منافسين كان يمكن أن يكونوا أكثر تنافسية، لكن ذلك لا يفسر "الاكتساح" بهذا المستوى، رغم الحصيلة الاقتصادية الضعيفة

ثانيًا، الكتلة الانتخابية لقيس سعيّد التي حسمت الرئاسية من دورها الأول، لم يسبق أن تحصل عليها أي مرشح سابق منذ 2011. هي أكثر بكثير من كتلته الانتخابية في الدور الأول سنة 2019، وأقل بثلاثمائة ألف ناخب من الاستفتاء على دستور 2022، الذي كان يُنظر إليه استفتاءً على شخصه. الانتصار حاسم، ما في ذلك شك. وأيضًا مفاجئ حتى لأكثر أنصاره قربًا، فما بالك خصومه؟

بعض استطلاعات الرأي غير المنشورة زعمت خلال الحملة وحتى خلال الصيف أن الرئيس لن يتجاوز سقف المليون صوت. وذلك كان من الأسباب التي شجّعت مرشحين آخرين للمخاطرة والترشح رغم العقبات والاستتباعات القضائية والأمنية المتوقعة ضدهم. لكن أيضًا لا شك أن نسبة 90% لن تترك أثرًا إيجابيًا بل سيضعها ضمن "الحضن العربي" المتميز بانتخابات "تنافسية-تسلطية" أو بلا انتخابات أصلًا. الوجه الآخر للانتصار الحاسم، هو انتصار على منافسين ضعفاء محدودين، بعد إقصاء مرشحين أكثر تنافسية.

 ثالثًا، يجب القول أيضًا إن هذا الانتصار ناتج طبعًا عن ضعف المرشحين المنافسين، وإقصاء منافسين كان يمكن أن يكونوا أكثر تنافسية، لكن ذلك لا يفسر "الاكتساح" بهذا المستوى، رغم الحصيلة الاقتصادية الضعيفة. يجب أن نبحث عن سبب أكثر عمقًا ربما يكون جامعًا لناخبي قيس سعيّد المتعددي الخلفيات الجهوية والعمرية والطبقية، والأرجح هو الخوف من العودة إلى ما يعتبرونه "حالة فوضى" وأنه ركن الزاوية في "الاستقرار"، وأن ذلك أكثر أهمية من تحسن الوضع الاقتصادي.

ذلك الإحساس الغريزي الذي يخشى حالة "تخرج عن السيطرة"، يعني بالضرورة تبرمًا من كل مرشح يشير بأي شكل إلى ما قبل 25 جويلية/يوليو. طبعًا هناك أسباب أخرى أكثر تعقيدًا تخص كل فئة اجتماعية أو عمرية أو جهوية أو ثقافية. لكن يبدو لي ذلك هو العامل المشترك الرئيسي.

ما يمكن أن يكون جامعًا لناخبي قيس سعيّد، متعددي الخلفيات الجهوية والعمرية والطبقية، والأرجح، هو الخوف من العودة إلى ما يعتبرونه "حالة فوضى" وأنّ سعيّد هو ركن الزاوية في "الاستقرار"

رابعًا، النخبة السياسية المعارضة لم تستطع سوى تعبئة أكثر بقليل من مئتي ألف ناخب. أما التي دعت للمقاطعة فلا يمكن لها أن تدعي أن نسبة العزوف الكبيرة ناتجة عن دعوتها لذلك. مقاطعتها بالمناسبة والتي كانت متأخرة أتت في مسار متعثر تميّز بملاحقة الأحداث والارتباك وعدم القدرة على المبادرة، وبقيت في ركن التفاعل البَعدي مع آثار من اختاروا المبادرة بالمشاركة وإرباك السلطة. نحن إزاء فشل عام للمعارضة، لا ينحصر في هذه المحطة بل في مقاربتها لمسار ما بعد 25 جويلية/يوليو، حيث تراكمت في رأيي الأخطاء، وأهمها خطاب راديكالي يعلن الاستناد على الشوارع، وقدرات محدودة لا تستطيع سوى المواجهة عبر المؤسسات بالكاد. 

بدأ مسار الأخطاء من عدم قدرتها على التقدير السياسي المبكر لأهمية المحطة الانتخابية بما أدى لعدم التعامل معها بجدية وهو ما انجسم في عدم جدية النقاشات حول مرشحين مشتركين، وانتظار أن تحدد السلطة التاريخ عوض أن يكون موضوع التاريخ هو في ذاته موضوع تنشيط سياسي يدعم مسار إيجاد مرشحين مشتركين. هذا التردد بدا كأنه نابع من أسباب "مبدئية" معلنة (أي رفض الانخراط في مسار دستور 2022) والتي كانت تخفي في رأيي الأسباب الفعلية وهي خوفها من عدم الانتصار ومن ثمة "إضفاء المشروعية" على المسار بدون اختراقه. ومن ثمة عدم قدرتها على استباق خطوات السلطة، بطرح مرشحين بشكل مبكّر، بل بدخول الانتخابات البرلمانية وتوفير النواب اللازمين بشكل مبكر ومعارضة مؤسسية تمنح الأمل للناس، المتبرمين من معارضة الشوارع والمواجهات المفتوحة، خاصة إزاء يأسهم وهيمنة سردية الخلاص الفردي.

نحن إزاء فشل عام للمعارضة، لا ينحصر في هذه المحطة بل في مقاربتها لمسار ما بعد 25 جويلية حيث تراكمت الأخطاء، وأهمها خطاب راديكالي يعلن الاستناد على الشوارع، وقدرات محدودة لا تستطيع سوى المواجهة عبر المؤسسات بالكاد

خامسًا، هناك نقاش ما بعد الانتخابات. وعي معسكر الرئيس أن الاقتصاد هو مهمة "البناء" القادمة، رغم أنه من غير الواضح كيف سيتم ذلك تفصيليًا. لكن الأهم تصريحات شقيقه مدير حملته نوفل سعيّد، والتي لا أعتقد أنها لم تكن بالتشاور معه، حول "تهدئة سياسية"، وإمكانية تنقيح المرسوم 54 السبب الرئيسي للإيقافات وسط المعارضين.

التهدئة من موقع القوة تبدو أمرًا مفهومًا بالنسبة لشخصية الرئيس، لكنه لم يظهر هو نفسه هذا التوجه، خاصة بعد تصريحاته التصعيدية ليلة الانتخابات. في المقابل أغلب الطيف المعارض صامت، ويبدو في حالة دهشة بشقّيه المشارك والمقاطع. من المفترض أن عزلته الواضحة بيّنة إلى درجة لا يمكن إخفاؤها بأي شكل. من الصعب تنزيل المهمة السياسية التي وضعتها بعض هذه الأحزاب أي عدم الاعتراف بشرعية الرئيس في ظل دعم مليونين وأربعمائة ألف ناخب له. سيبدو ذلك تصرفًا إنكاريًا، وسلوكًا أقرب لـ"المنهزم السيء" (bad loser). 

سعي بعض المعارضة لعدم الاعتراف الدولي، وكان ذلك واضحًا من تصريحات بعض رموزها قبل الانتخابات، بالنتيجة سيكون مصطدمًا بواقع تجديد الشرعية بنسبة كبيرة نسبيًا. "الحضن العربي" سارع بمعسكراته المختلفة، بدءًا من الجارين خاصة الجزائر الداعم الأول للرئيس، ومن ثمة مصر، إلى القوى الخليجية الإمارات والسعودية بالتهنئة والدعم. الرئيس الصيني حتى الآن من أبرز المهنئين بما يعكس اهتمامًا صينيًا بدعم الرئيس سياسيًا، لكن لا نعلم بالتحديد استتباعات ذلك على انخراط صيني أوضح وأكبر في مشاريع كبرى في البلاد.

نحن إزاء فشل عام للمعارضة التونسية، بدأ مسار أخطائها من عدم قدرتها على التقدير السياسي المبكر لأهمية المحطة الانتخابية بما أدى لعدم التعامل معها بجدية

من الصعب على القوى الدولية الغربية الصامتة حتى الآن عدم الاعتراف بها. ليس فقط لأنها ستتعامل مع الأمر الواقع لأسباب جيوسياسية وأمنية بل لأنها ترى بوضوح نسبة التصويت الكبيرة لقيس سعيّد. التصريح اليتيم الوحيد في الوسط الغربي تغريدة لمدير إدارة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الخارجية الألمانية والذي أشار إلى "النتائج الواضحة"، ودعوته لحوار واسع يدمج الجميع في مواجهة التحديات، والدعوة لترك المجتمع المدني للعمل بحرية.

من المثير للانتباه أن هذا التصريح يلتقي في بعض مواضعه مع تصريح مدير حملة الرئيس، والذي تعوّد في السابق على إيصال رسائل علنية (أحيانًا مترجمة إلى الإنجليزية في صفحته) إلى الأطراف الخارجية. في المقابل من المثير للانتباه الصمت الإيطالي حتى الآن تحديدًا وسط الأطراف الغربية، وهو الطرف الغربي الأكثر دعمًا للرئيس.

في كل الحالات، المحصلة الموضوعية أنّ الرئيس عزّز شرعيته أمام الأطراف المختلفة، والتي لن تتعامل معه فقط من زاوية الأمر الواقع بل من زاوية المظلة الانتخابية الكبيرة التي حصدها، رغم كل تحفظات هذه القوى على المسار السياسي والانتخابي منذ 25 جويلية/يوليو. السياق الإقليمي المشتعل والذي حافظ في خصوصه قيس سعيّد على خطاب تعبوي يلتقي على الأقل في المضمون الخطابي مع "محور الممانعة" ساهم عمومًا في تعزيز وضعه داخليًا بلا شك في سياق عام يتميز بالعودة لمنطق وشعارات "السيادة".

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"