28-يناير-2023
الغش

سنوات الدراسة تُباع وتشترى في عدة معاهد في تونس (صورة توضيحية/Getty)

 

كلّ شهادة مدرسية أو جامعية تقتضي تكوينًا معرفيًا وكفاءة علمية وقدرات على الفهم والتفكيك والبناء والتجريد والتجسيد وغيرها من المهارات التي تتطوّر من قسم أدنى إلى قسم يليه ومن مرحلة تعليمية أساسية إلى أخرى ثانوية وصولًا إلى المستوى الجامعي بمختلف درجاته، فيتحقّق بذلك التناسب بين قيمة الشهادة وحجم التكوين النظري والتطبيقي.

تنطبق هذه المعادلة المعياريّة التعليميّة على الترقيات المهنيّة فهي تشترط فضلاً عن الجهد والمثابرة تكوينًا متواصلاً مستمرًا حتّى يتمكّن العامل من تعهّد معارفه وشحذها وتطويرها في ظلّ حاضر تحكمه "علوم سيّالة" سريعة التحوّل والتطوّر خاصّة على مستوى التقنيات الحديثة.

الانطباع العام في تونس يتّجه إلى التوافق على أنّ الشهادات العلمية والترقيات المهنيّة قد أصابها ضرب من التضخم غير الطبيعي الشبيه بالأورام الخبيثة

بناءً على هذه المعطيات البديهيّة يمكن إطلاق نعوت المجاملة والمغالطة والتزوير على كل شهادة علميّة أو ترقية مهنيّة لا يعادلها ما يناسبها من تكوين محكم وجهد خلّاق مثمر.

الانطباع العام في تونس يتّجه إلى التوافق على أنّ الشهائد العلمية والترقيات المهنيّة قد أصابها منذ ثلاثة عقود على الأقل ضرب من التضخم غير الطبيعي الشبيه بالأورام الخبيثة، يمكن أن نعبّر عنه بالتزوير الإجرامي والتزوير التقديري/ التقييمي.

  • التزوير الإجرامي

التزوير الإجرامي اعترفت بوجوده الأجهزة الرسمية في الدولة التونسية، وقد تجلّى من خلال أعمال غشّ ارتكبها عدد من التلامذة والطلبة والأساتذة والموظفين من مختلف القطاعات، فأحيلوا على التأديب أو النيابة العمومية، فنال الكثير منهم الجزاء من طرد أو حرمان من اجتياز امتحان أو عزل أو سجن، ولا يزال بقيّة المشبوهين قيد المتابعة والتحقيق، ولا شكّ أنّ عددًا هامًّا من المزوّرين قد أفلتوا من الرقابة والتحقيق، فتمكّنوا من "تبييض شهاداتهم" بطريقة أو بأخرى.

سنوات الدراسة تُباع وتشترى في عدة معاهد في تونس، من السنة السابعة من التعليم الأساسي إلى الثالثة من التعليم الثانوي، وهي ظاهرة واسعة الانتشار

في الوسط المدرسي، أكّد وزيرا التربية الحالي والأسبق فتحي السلاوتي ومحمد الحامدي أنّ حالات التزوير في الشهائد المتعلقة بالمعلمين والأساتذة محدودة في الجهات والعدد والنوع، وقد اقتصرت وفقهما على ما سمياه تلاعبًا في ضبط عدد النيابات وشهائد إسناد الخدمات وقد عمدت سلطة الإشراف إلى التصدّي لهذا التزوير من خلال تفقّد إداري أفضى إلى عزل عدد من المعلمين والأساتذة النواب.

أمّا بالنسبة إلى سنوات الدراسة التي تُباع وتشترى في عدة معاهد من السنة السابعة من التعليم الأساسي إلى الثالثة من التعليم الثانوي فهي واسعة الانتشار وفق تحقيقات وتقارير صادرة عن عديد الجهات، وقد أقرّ وزير التربية فتحي السلاوتي في إحدى التدخلات الإعلامية بوجود هذه الظاهرة، وأعلن عن عزم الوزارة على غلق كلّ مؤسسة يؤكد التفقد الإداري ضلوعها في هذه الجريمة، ولم ينف صعوبة الإحاطة بكلّ التجاوزات لأسباب وصفها بالهيكلية.

 

 

  • جريمة ضد مجهول

التزوير الإجرامي يمكن محاصرته آجلاً أو عاجلا ًبمزيد من الرقابة وحسن التنظيم والتدبير وتطوير الرقمنة، أمّا النوع الثاني فمن الصعب التصدّي له ما لم نتفق على خطورته، أقصد التزوير التقديري/ التقييمي، وينطبق هذا على الشهادات المدرسية والجامعية دون رصيد علمي والترقيات المهنيّة دون جهد أو إضافة أو ابتكار.

كان وزير التربية قد صرح أنّ 75 % من تلاميذ السادسة من التعليم الابتدائي و83 % من تلاميذ التاسعة من التعليم الأساسي في حالة شبه أميّة

أقرّ فتحي السلاوتي، وزير التربية في تونس، في تصريح إعلامي يوم 13 سبتمبر/أيلول 2022، أنّ 75 في المائة من تلاميذ السادسة من التعليم الابتدائي و83 بالمائة من تلاميذ التاسعة من التعليم الأساسي في حالة شبه أميّة.

هذا التصريح يرقى إلى مرتبة الحكم بأنّ جلّ الشهائد الصادرة عن المدارس تفتقر إلى المصداقية في التقييم الجزائي، فهي إذًا شهائد دور رصيد، وهو ما يجعل المديرين والمعلمين والأساتذة والمتفقّدين في موقف حرج، كيف لا وأكثر من ثلاثة أرباع التلامذة في التعليم الأساسي يملكون شهادات ابتدائية وهم على حافّة الأميّة!

جلّ الشهائد الصادرة عن المدارس تفتقر إلى المصداقية في التقييم الجزائي، فهي إذًا شهائد دور رصيد، وهو ما يجعل المديرين والمعلمين والأساتذة والمتفقّدين في موقف حرج

اللافت أنّ تصريح السلاوتي لم يلق اعتراضًا، ولم يتسبب في حرج لدى الأولياء والمربين والتلامذة المعنيين ممّا يوحي بضرب من الإقرار والتسليم من جميع الأطراف، هذا الموقف "البارد" السلبي من الجميع يمكن إرجاعه إلى أنّ تتويج "آلاف الأميين" بشهادات علمية هو بمثابة "الخطيئة" التي تفرّق دمها، فلا يمكن حصر تهمة التقصير التقديري والتزوير التقييمي في طرف مخصوص، فالعناصر المتدخّلة كافّةً مورطة برمجةً وتدبيرًا وتأطيرًا وتنفيذًا، وهو ما يعبّر عنه بلفظة "المنظومة" على سبيل التبخير والتجريد، فننتهي إلى تسجيل الجريمة ضدّ مجهول.

 

 

  • "سيزيام" الأمس وباكالوريا اليوم

الحكم الذي استهدف تلامذة التعليم الأساسي يمكن أن ينسحب على المرحلة الثانوية، فقد تواترت المواقف الرافضة لما يشبه "النجاح الآلي" في جلّ مراحل التمدرس، وقد ساهم تهميش التكوين المهني وإلغاء مناظرتي السادسة والتاسعة في تأكيد هذه الوضعية.

أوّل امتحان إجباري جادٍّ يخوضه التلميذ يكون في البكالوريا، ورغم ذلك فقد تمّ تمييع هذا الامتحان الوطني حينما أقرّ النظام السياسي في عهد بن علي احتساب نتائج وسط السنة الدراسية في المعدّل النهائي بنسبة لا تقلّ عن الربع فتضخمت المعدلات

فأوّل امتحان إجباري جادٍّ يخوضه التلميذ يكون في البكالوريا، ورغم ذلك فقد تمّ تمييع هذا الامتحان الوطني حينما أقرّ النظام السياسي في عهد بن علي احتساب نتائج وسط السنة الدراسية في المعدّل النهائي بنسبة لا تقلّ عن الربع فتضخمت المعدلات وصار الكثيرون يتحدثون عن جيل 25 بالمائة من حاملي الباكالوريا مُضمرين ضربًا من النبز والاستخفاف، وتكررت على سبيل الحسرة عبارة "سيزيام الأمس أفضل من باكالوريا اليوم".

هذا اللون من التزوير يكون بدافع سياسيّ كما أوضحنا، وقد يرجع إلى الافتقار إلى الصرامة والمهنية كالتقرب إلى الممتحَن أو السعي إلى مرضاته وكسب مودته ويمكن إرجاع الأمر إلى الوقوع تحت طائلة الابتزاز الناعم أو العنيف، تسوًّلا للعدد من هذه الجهة وتهديدًا ضمنيّا من جهة ثانية.

 

 

  • الانتحال الأكاديمي والمصعد الوظيفي المريح

التزوير في الحرم الجامعي اتخذ أشكالاً شتّى أخطرها ما يسمى بالانتحال كأن يعمد الباحث في الماجستير أو الدكتوراه إلى سرقة عمل أكاديمي أو جزء منه ونسبته إلى نفسه فينال شهادة قيّمةً اعتباريًّا ومهنيًا واجتماعيًا بلا جهد ودون كفاءة، وقد ساهم في تضخّم هذا الورم الأكاديمي فضلًا عن الأزمة الأخلاقيّة الانتشار الواسع للبحوث العلميّة المبثوثة في مواقع علميّة على شبكة الانترنيت ممّا يجعل وصول "السارق" إليها يسيرًا وتفطّن لجان البحث عسيرًا في خضمّ الكثرة والتشابه والالتباس، وقد يعود الأمر إلى علاقة الثقة والاستئمان التي يقتضيها المقام الذي يفترض الرفعة والعفة وحسن الظنّ في حرم جامعيّ يضمّ نخبة الباحثين والأساتذة والمفكّرين. 

ساهم في تضخّم الانتحال الأكاديمي فضلًا عن الأزمة الأخلاقيّة الانتشار الواسع للبحوث العلميّة المبثوثة في مواقع علميّة على شبكة الانترنيت ممّا يجعل وصول "السارق" إليها يسيرًا وتفطّن لجان البحث عسيرًا

جرثومة التزوير الإجراميّ والتقييمي التي طالت التعليم في مختلف مراحله تسربت إلى الجسد المهني وتشكّلت خاصّة من خلال التعيينات المشبوهة والترقيات المهنيّة المفتقرة إلى قانون الجدارة والاستحقاق.

تحت طائلة الفوضى والتهديد والثورجيّة والشعبوية وسرديات الظلم والتهميش استجابت الحكومات بعد الثورة إلى مطالب كانت في الغالب مفتقرة إلى الدقة والوجاهة، ولئن بدت الزيادات في الأجور موضوعيّة ومنطقيّة تفرضها جملة من المعادلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة فإنّ موجة الترقيات بالجملة في العديد من القطاعات قد شابها ضرب من الفوضى وسوء التقدير.

الترقية في الأصل تخضع إلى شروط محكمة تتّصل بعدد من المناظرات تأخذ بعين الاعتبار سنوات العمل والشهادات العلميّة والتكوين والعديد من مؤشرات الإضافة والتجديد والابتكار والتضحية ممّا يمكن إدراجه ضمن مصطلح المردوديّة.

تحت طائلة الفوضى والتهديد والثورجيّة والشعبوية وسرديات الظلم والتهميش استجابت الحكومات بعد الثورة إلى مطالب تشغيل وترقية كانت في الغالب مفتقرة إلى الدقة والوجاهة

ما ينبغي الاعتراف به أنّ العديد من الترقيات في قطاعات الأمن والتعليم وغيرها من المجالات قد بدت متهافتة، فقد كان من الأجدر تمتيع الموظفين بزيادات مجزية دون المساس بضوابط الترقيات المهنية، حتّى تحافظ الرتب على قيمتها وهيبتها ووزنها الاعتباريّ..

فضلاً عن المجالات المدرسية والجامعية والمهنية، يحفل الفضاء الإعلامي بألوان من التزوير يندرج في باب توزيع الألقاب التمجيديّة والاتهامات النمطيّة والتصنيفات المسقطة سلبًا أو إيجابًا، فهذا محلّل استراتيجي لم نقرأ له كتابًا ولا حظّ له من هذا اللقب غير الظهور التلفزي في البرامج الحوارية السجاليّة الساخنة، وتلك مناضلة نسوية لا تعرف من هموم المرأة غير مشكلة الإرغام على ارتداء الحجاب وقصص جهاد النكاح، وذاك مناضل لا تنطوي سيرته إلا على طرد من مدرسة ثانوية لأسباب تأديبية...

هذا محلّل استراتيجي لم نقرأ له كتابًا ولا حظّ له من هذا اللقب غير الظهور التلفزي في البرامج الحوارية السجاليّة الساخنة، وتلك مناضلة نسوية لا تعرف من هموم المرأة غير مشكلة الإرغام على ارتداء الحجاب وقصص جهاد النكاح

ومن مراتب التزوير ما يندرج ضمن التصنيفات المتعسّفة الجاهزة الصنميّة في عالم متحوّل متقلّب اختفت فيه أو تكاد الهويات الفكرية والإيديولوجية " لمستقلّة المتفردة النقيّة"، أي نعم إنّ الاحتكام إلى التصنيفات القديمة يعدّ ضربًا من التزوير و"الرجعية النقديّة"، فهل يحقّ لنا على سبيل المثال في هذه المرحلة التي بلغنا فيها ذروة الانكسار والتداخل والتواطؤ بين المدارس والأنساق والتيارات أن نستند في تصنيف الناشطين سياسيًّا إلى إسلاميّ وقوميّ ويساريّ؟ إن شئت التحقق انظر إلى مرجعيّات أتباع قيس سعيّد من جهة وأنصار جبهة الخلاص الوطني من جهة ثانية ترى جميع الألوان هنا ونفس الألوان تقريبًا هناك.

ختامًا حقّ القول إنّ التزوير في الشهائد والشهادات والتصنيفات والألقاب فيه الكبير والصغير وفيه المقصود والعفويّ وفيه المكتوب والشفويّ وفيه ما يفضي إلى مكاسب ماديّة وفيه ما يحقّق مراتب اعتباريّة وفيه ما يُجَبرُ وفيه ما لا يبقي ولا يذرُ.