07-مايو-2018

الفوسكة ظاهرة معقدة يتداخل فيها القيمي والأخلاقي بالتربوي والقانوني (صورة تقريبية)

المشهد الأول:

ــ المكان: داخل عربة مترو الضواحي الغربية للعاصمة تونس.

ــ الزمان: أسابيعًا قليلة قبل انطلاق امتحانات الباكالوريا.

ــ الشخصيات: مجموعة من تلامذة السنوات النهائية للمرحلة الثانوية من الجنسين يتحدثون بصوت مسموع فيه الكثير من التباهي. وهذا جزء من الحوار الذي سمعه أغلب الرّكاب:

 ــ الأول: لولاد هاو ثمّة خيط.

 ــ الثاني: خيط شنوة؟

 ــ الأول: خيط تكييّيت .. دار فيها أساتذة وطلبة يركحولك أمورك في "الإكزاما" بثلاثمائة دينار "الماتيار".

ــ فتاة ضمن المجموعة: وأنا نجم نكيّت معاكم؟

 ــ الأول: تنجم على خاطر الفوسكة مع البنات تمشي خير.

 ونزلت المجموعة في محطة قريبة من معهد ثانوي معروف وفي أذهانهم نيّة الاختلاس والغش في امتحان وطني له وقعه في المجتمع التونسي.

مناظرة الباكالوريا سجلّت خلال السنة الفارطة 743 حالة غش منها حالات لا تزال تحت نظر  القضاء

المشهد الثاني:   

ــ المكان: محلّ لنسخ الوثائق قريب جدًا من إحدى المؤسسات الجامعية العريقة بالعاصمة التونسية.

ــ الزمان: بدايات شهر ماي/أيار والامتحانات الجامعية على أشدّها. إنها خواتيم السنة الدراسية.

ــ الشخصيات: طلبة من مختلف الاختصاصات والمستويات .

ــ الحوار (دار بين صاحب المحلّ والطلبة):

 ــ أحد الطلبة: يا كمال (إسم مستعار لصاحب المحلّ)، يعيّش خويا ركحلي العشرة صفحات هاذم.. مزروب .. نعدّي بعد ساعة.

ــ صاحب المحل: برشة قدّامك ما نجمش.

ــ الطالب (مخاطبًا أحد زملائه): يا زميل يعيشك نجّم نصغّر الكور هذا قبلك بعد شوية نعدّي.

ــ الطالب الثاني: أوكي (وتوجّه لصاحب المحلّ قائلا : بالله خليه)

اقرأ/ي أيضًا: تفاصيل مواعيد اختبارات وإعلان نتائج باكالوريا 2018

هذه العينة من الحوارات نستمع لها يوميًّا في الوسط  التلمذي والطلابي من شمال البلد إلى جنوبه. وهذا السّلوك بات من السلوكيات المتكررة للتعليم في تونس. إنّه جنون "الفوسكة" الذي ينخر جسد التعليم التونسي، بل إنّه جنون الغش والاختلاس والتحيّل.

وحسب إحصائيات وزارة التربية، تسجّل مجالس التأديب بجميع المؤسسات التعليمية آلاف الحالات من الغش سنويًا، وهي حالات في تصاعد ملحوظ رغم القرارات التأديبية التي تصل إلى الرفت النهائي خاصة في الحالات التي يترافق معها سوء السلوك.

أمّا مناظرة الباكالوريا، فسجلّت خلال السنة الفارطة 743 حالة غش منها حالات مازالت منشورة لدى القضاء لأن أشخاصًا خارج الفضاء التربوي ساهموا في العملية وهو ما يعبر عنه لدي التونسيين بـ"التكييّت".

"الفوسكة" باتت من السلوكيات المتكررة في تونس، إنّه جنون "الفوسكة" الذي ينخر جسد التعليم وهو جنون الغشّ والتحيّل

أما وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فسجّلت هي الأخرى أرقامًا قياسية في الغش في الامتحانات فثلث الطلبة التونسيين يغشّون ومنهم حالات في اختصاصات حساسة كالطب ومسالك الهندسة.

"الترا تونس" رصد الظاهرة وحاول الغوص في ثناياها فالتقى المتداخلين وكانت البداية مع التلاميذ والطلبة.

التلاميذ والطلبة: "أنا نفسكي إذًا أنا موجود"

يقول تلميذ الباكالوريا "نادر" (اسم مستعار) من شعبة علوم الإعلامية، لـ"الترا تونس" إنه يعيد الباكالوريا للمرة الثالثة على التوالي بعد تورّطه في عملية غشّ يوم الامتحان النظري لمادة الإعلامية. ويضيف نادر أن "العسة" كانت سهلة فمررنا أوراقًا لبعضنا البعض وتم التّفطن إلينا في الإصلاح، وتمت معاقبتنا بعدم اجتياز الامتحان لمدة ثلاث سنوات وتظلّمنا لدى المحكمة الإدارية الإدارية التي قلصت الحرمان إلى سنة واحدة.. وها قد عدت نادمًا". ويشير إلى أنها كانت تجربة مخيفة لن ينساها.

من جهتها، تؤكد بكل شجاعة "آمنة" (اسم مستعار)، تلميذة مسجلة في شعبة العلوم التجريبية في عامها الأول في الباكالوريا، أنها تبحث عن إمكانية " تكييت" بواسطة "الحمصة"، وهو ميكروفون لاسلكي في حجم حبة الحمص يوضع داخل الأذن ويكون واضعه على اتصال بمجموعة تبعد مئات الأمتار وتملي عليه إجابات الامتحان. وتقول آمنة لـ"الترا تونس" إن أغلب زملائها يستعدّون لذلك ولديهم المال لدفعه.

من وسائل الغش في الامتحانات وضع ميكروفون لاسلكي داخل الأذن ويكون واضعه باتصال بمجموعة تملي عليه الإجابات

أما سهيل (اسم مستعار)، وهو طالب بالمدرسة العليا للتجارة بالمركب الجامعي بمنوبة، يوضح لـ"الترا تونس" أن أغلب الطلبة الذين يدرسون معه لهم نفس الطرق والأساليب في التعامل مع الامتحان وتقوم أساسًا على "الفوسكة" بأنواعها حيث الإعداد لذلك يكون جماعيًا بمعنى أنهم يجتمعون ويقسّمون الأدوار فيما بينهم فيجمعون المعلومات عن المراقبين. ويضيف أن المهمّ بالنسبة إليهم هو النجاح والمرور إلى السنة الموالية.

في حين تعترف طالبة الانقليزية في السنة النهائية بكلية 9 أفريل بتونس "أماني" (اسم مستعار) لـ"الترا تونس" أنها تمارس الغش منذ سنوات وقد تعلّمت ذلك منذ أن كانت تلميذة. وتبيّن أماني أنها تستعمل العديد من الأساليب منها الوسائل التكنولوجية الحديثة مؤكدة أنها حاليًا تخزن جميع دروسها على شريحة خاصة في هاتفها وتحاول استغلال ذلك أيام الامتحان، فهي على حد تعبيرها تحسن تمويه الأساتذة المراقبين ولها طريقتها في ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: "وجّهني".. موقع لمساعدة طلبة تونس الجدد على الخيار الحاسم!

أما طالبة الماجستير في علوم التصرف بكلية العلوم الاقتصادية بتونس "هند " (اسم مستعار ) فتقول لـ"الترا تونس" إن طلبة الماجستير يقومون بالغش سواء خلال الامتحانات أو خلال البحوث. وتؤكد في هذا الصدد أن البعض من زملائها يشترون بحوثًا جاهزة عن طريق شبكات مختصة لها صلات بكليات أجنبية.

هند (طالبة ماجستير) لـ"الترا تونس": بعض طلبة الماجستير يشترون بحوثًا جاهزة عن طريق شبكات مختصة لها صلات بكليات أجنبية

ويطرح تفشي هذه الظاهرة وانتشارها بشكل واسع في صفوف الشباب التونسيين أكثر من تساؤل، وتستوجب دراسات اجتماعية مختصة تتوصل إلى أسبابها الدفينة لتتمكن من معالجتها بشكل فعال.

مختصّ في علوم التربية: انتقلنا من مجتمع المثابرة إلى مجتمع الرفاه والتمتع بالجاهز

 يرى المختص في علوم التربية والباحث بقسم الفلسفة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس عماد العباسي أنه على الصعيد الفلسفي غادرت التربية والتعليم المفهوم الهيغلي الذي يقوم على التّأليف والبنائيّة إلى مفهوم التفكيك الذي يتحدث عنه جاك ديريدا. ويؤكد العباسي لـ"الترا تونس" أن المجتمعات تعيش التفكيكية في صلبها وفي مؤسساتها بما في ذلك مؤسسة التربية والتّعليم.

ويوضح أن سريان ظاهرة الغش فى الجسد التّربوي والتّعليمي بجميع مراحله متأتية ممّا يحدث في المجتمع من تفكك وانهيارات في أعماق منظومة القيم مبرزًا أن التلميذ أو الطالب هو جزء من المجتمع، وبالتالي سلوكه وثقافته وممارساته في شتى المجالات، يستلهمها من محيطه، فلا غرابة إذًا أن ينعكس ذلك على الحياة التربوية والتعليمية، وفق تصريحاته.

مختص في علوم التربية لـ"الترا تونس":  فلسفة الرّفاه الرائجة يستعملها التلميذ والطالب في سلوكه التربوي فينتقل من المثابرة والعمل إلى التّمتع بما هو جاهز بواسطة الغش

ويشدد المختصّ في علوم التّربية على أن المجتمع التّونسي يعيش مرحلة ما بعد الاستهلاك مبينًا أن المواطن اليوم يبحث عن الرّفاه ويسعى إليه بكل الوسائل، متجاوزًا أحيانًا الجانب الأخلاقي والقانوني من ذلك ظهور الغش في المعاملات التجارية والتهريب والتحيل. ويبرز العبّاسي أن فلسفة الرّفاه الرائجة الآن يستعملها التلميذ والطالب في سلوكه التربوي فينتقل من المثابرة والعمل إلى التّمتع بما هو جاهز بواسطة حيل الغش و"الفوسكة" بأنواعها وفنونها وتقنياتها.

مختصّ في علم النفس: خوف من المستقبل وعدم ثقة في النفس 

من ناحيته، يرجع المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية في مجال علم النفس التربوي نوفل بوصرة تفشي ظاهرة "الفوسكة" والغش في الامتحانات في الوسط المدرسي والجامعي إلى مسألتين هامتين تتعلّقان بشخصية الفرد، الأولى تتمثّل في الخوف من المجهول ومن المستقبل ومن الآتي ومن الغموض.

ويعتبر بوصرة في تصريح لـ"الترا تونس"، في هذا الجانب، أن كل ذلك يحيط الآن بالتلميذ والطالب فالآتي غامض والمستقبل غير واضح بالمرّة، مضيفًا أن ذلك يؤدي إلى تشكّل خوف داخلي يدفعه إلى الاحتماء بالغش فيصبح مهربًا ونوعًا من اليقين.

أمّا المسألة الثانية، فتتمثّل في انعدام الثّقة في النفس لدي التلميذ والطالب التونسيين، وفق محدثنا الذي يردّ ذلك إلى سببين، الأول يتعلق بالتنشئة الأولى للفرد التي لا يترك فيه الوالدان طفلهما يعوّل على نفسه، والثاني تتعلق برواج آلية التّركيب الزائف في المجتمع وتتمثّل في انتشار ثقافة الاستهلاك وثقافة الجاهز.

مختص في علم النفس لـ"الترا تونس":  الخوف من المستقبل وعدم الثّقة في النفس وترهّل منظومات التعليم من أسباب انتشار ظاهرة "الفوسكة"

ويبيّن بوصرّة أن ذلك يخلق شخصيات "تفسكي" وتتحيّل بشتى الوسائل، وذلك إلى جانب ترهّل منظومتي التربية والتعليم العالي وكثرة المواد والدروس وطرق التقييم تساعد بدورها على انتشار مثل هذه الظواهر، وفق تقديره.

ظاهرة الفوسكة إذًا هي ظاهرة معقدة يتداخل فيها القيمي والأخلاقي بالتربوي والقانوني، لكن الثابت هو أن الفوسكة تنخر المجتمع التونسي في مستوى التربية والتعليم أو في مستويات أخرى اجتماعية واقتصادية. لقد باتت الفوسكة ثقافة هذا المجتمع وسمة من سماته علمًا وأن نتائجه وخيمة على الأجيال القادمة، وبالتالي فإن المجتمع التونسي بأكمله بمؤسساته وفئاته ومكوّناته مدعو لفك شيفرة هذه الظاهرة ورسم خطة للقضاء عليها.    

 

اقرأ/ي أيضًا:

هجرة الجامعيين التونسيين متواصلة.. هل هي الأزمة؟

جامعات تونس.. تنتج الأزمة بدل المعرفة