19-ديسمبر-2022
هوايات تعلم ذاتي تونس

يغذي التعلم الذاتي نوازع ذاتية أو رغبات مؤجلة (صورة توضيحية/ getty)

 

عندما كان عميد الأدب العربي طه حسين وزيرًا للتربية والتعليم بمصر، كان دائمًا ما يصف التعليم بأنه كالماء والهواء بالنسبة للإنسان والمجتمع، تأكيدًا منه على أهمية التعلق بالتعلّم ودفع أبناء المصريين إلى تغيير واقعهم عبر دروب المعرفة والعلم، إلى درجة أن الصحافة المصرية لقبته بوزير الماء والهواء! 

"الترا تونس" يرصد مجموعة من القصص الناجحة في مجال التعلّم الذاتي وتطوير الذات بدافع شخصي وبإرادة فردية وغير إلزامية بعيدًا عن المدارس النظامية

وفي تونس، كان الأديب محمود المسعدي الذي عُيّن وزيرًا لتوّه إبّان الاستقلال بحقيبة التربية، يصرّ في كل تدخلاته الرسمية وفي كتاباته الصحفية على اقتران تطور المجتمع بضرورة نشر التعليم والتشبث به والتّماهي معه. وهكذا، أصبح التعليم ملمحًا أساسيًا من ملامح الشخصية التونسية، إذ لا غنى في تونس عن التعلّم، فالتونسي اليوم يرى مستقبله ويرى أحلامه في التعليم، والمجتمع التونسي يراهن على ما يسميه الزعيم الحبيب بورقيبة -أحد بناة التعليم النظامي في تونس- بـ"المادة الشخمة" كناية منه على بناء عقل تونسي يسهم في تطور البلاد. 

فالمدارس التونسية ومؤسسات التعليم العالي ومنظومة التكوين المهني، يؤمّها سنويًا ما يناهز 3 ملايين متعلّم، وهو رقم يشي بأن تونس متعلقة همتها بالتعليم، وأن شعبها لا يتنازل عن حقوقه في التعليم والتعلّم.

 

 

إرادة التعلّم في تونس لا تُغلب، لقد تحولت إلى سردية مجتمعية تبنيها الأجيال وتتوارثها، حيث رصدنا في الآونة الأخيرة تفشي ظاهرة جديدة وجميلة في المجتمع التونسي وهي ما يسمى في علم الاجتماع الحديث بـ"التعلّم الذاتي".

والتعلّم الذاتي هو أن تراكم المهارات المعرفية والعلمية والحرفية والفنية والصناعية.. بدافع شخصي وبإرادة فردية وغير إلزامية بعيدًا عن المدارس النظامية ومراكز التكوين من أجل تطوير القدرات الذاتية، وربما توظيف تلك المهارات فيما بعد من أجل النجاح في المسار المهني أو تغيير الواقع المهني ذاته نحو تجديده أو من أجل خلق أفاق جديدة.

كما أن التعلّم الذاتي يمنح الإنسان حزمة معنويات باتت ضرورية في الحياة اليومية، ورصيدًا من الاستقرار النفسي الذي يعبّر عنه بالتوازن الداخلي للإنسان، والذي يعتبر لدى بعض المجتمعات من المؤشرات الأساسية للسعادة.

 صيرفي ينحت على أنياب الخنازير لـ"الترا تونس": تابعتُ دروسًا افتراضية مجانية على بعض المنصات الإلكترونية، وأصبحت أسوّق منتوجي الفني في السوق الأوروبية

"الترا تونس" رصد مجموعة من القصص الناجحة في هذا المجال والتي تنمّ عن إرادات فردية قوية لدى العديد من التونسيين الذين تعلقت همّتهم بالعلم والتعلّم وتطوير الذات بشكل فردي.

  •  الصيرفي الذي تحول إلى نحّات على أنياب الخنازير

"نادر سلامة" حاصل على الماجستير في التصرف، وهو حاليًا إطار سامٍ ببنك تونسي معروف، ورث عن والده هواية الصيد البري، لكنه لم يكتف كغيره من الصيادين المحترفين بالخروج للبرية وصيد الطيور والفرائس في موسمها بحسب رزنامة تحددها الدولة سنويًا للغرض، بل انخرط في جمعية تونسية وأجنبية تعنى بالصيد البري وخصوصًا صيد الخنزير البري. وقد أوضح لـ"الترا تونس" أنه ومن خلال احتكاكه بصيادين أوروبيين، لاحظ أن أنياب الخنزير تعني الكثير بالنسبة إليهم، فهي عنوان للبطولة، وهي تؤرخ أيضًا لرصيد الصياد من الفرائس البرية الشرسة وتجعله في تنافس مع البقية.

وأضاف نادر سلامة أنه أصبح هو الآخر يجمع تلك الأنياب لكن ليس للأسباب نفسها، بل من أجل غرض آخر وهو تحويلها إلى تحف فنية. وبما أنه لا يملك مهارة النحت الفني، أوضح محدثنا أنه قد خصص مجالًا للتعلّم الذاتي فتابع دروسًا افتراضية مجانية على بعض المنصات الإلكترونية، كما اتصل ببعض النحاتين الذين قاموا بتوجيهه ونصحه ومساعدته، مما كوّن لديه بعض المعارف الفنية التي ساعدته على فهم أبجديات فن النحت وتعلمه. 

مهندسة بترول تصنع العطور لـ"الترا تونس": تعلّمتُ بواسطة دروس مجانية على الإنترنات، كيفية صناعة العطور، ما مكّنني من إنتاج بعض العطور الجيدة وأنوي فتح شركة في الغرض

وتابع الصيرفي نادر سلامة حديثه بأنه اقتنى بعض الآلات الصغيرة المساعدة، وشرع في إنتاج بعض التحف الفنية المصنوعة من أنياب الخنازير، مبيّنًا أنه بات يقتنى أنياب الخنازير من قبل زملائه الصيادين التونسيين، وأصبح يسوّق منتوجه الفني في السوق الأوروبية لكنه خصّص جزءًا من العائدات لدعم جمعيته وجمعيات أخرى.

  •  مهندسة البترول وصناعة العطور

"فاتن قلالة" مهندسة تونسية من ولاية الكاف تشتغل بشركة بترولية أمريكية وتتنقل بين عدة عواصم عربية خليجية وإفريقية وأوروبية للعمل وتفقد الفروع. أما هوايتها المفضلة فهي طلب العلم والمعرفة أسوة بوالدها المعلم الذي كان شعاره الدائم "اطلبوا العلم ولو في الصين"، فكان التعلم جزءًا من حياتها ووجودها، فبعد دراستها الجامعية في مجال الهندسة الميكانيكية البترولية، تعلمت -بواسطة التعلم الذاتي ومن دون اللجوء إلى مدارس أو مراكز تكوين- العديد من المهارات الإضافية التي ساعدتها في عملها وفي غربتها أحيانًا. 

 

 

فقد درست هذه المهندسة التونسية بمفردها "إنجليزية البيزنس" وذلك بواسطة دروس مجانية على الانترنت، كما تعلمت أيضًا كيفية صناعة العطور، فعادت إلى دروس الكيمياء وانشغلت بها لأشهر طويلة وقدمت مطالب لإجراء بعض التربصات ببعض المخابر، وهو ما مكّنها من الذهاب إلى إنتاج بعض العطور الجيدة وهي تنوي فتح شركة في الغرض.

  •  أستاذة الفرنسية ترمّم الأعمال الفنية

"هادية دبيش" أستاذة اللغة الفرنسية بالمعاهد الثانوية التونسية، هي أصيلة مدينة مكثر لكنها تقيم بولاية بنزرت، هوايتها الرسم وقد تعلمت ذلك منذ الصغر بإحدى النوادي الخاصة. وفي مرحلة أخرى، انضافت إلى تلك الهواية تعلّق جديد، وهو جمع الأعمال الفنية القديمة. وحسب دبيش فإنها اكتشفت أن بعض الرسومات التي اقتنتها تتطلب ترميمًا خاصًا، وتبيّنت في الأثناء أنه لا يوجد القدر الكافي من المرممين للأعمال الفنية بتونس، كما أن إرسال الأعمال إلى الخارج لطلب الترميم يبدو مكلفًا للغاية.

 أستاذة فرنسية ترمّم الأعمال الفنية لـ"الترا تونس": تعلّمتُ على "يوتيوب" ومن خلال تربص علمي وفني هذه المهارة التي جنيت بواسطتها مالًا كثيرًا

وقد ذكرت لـ"الترا تونس" أنها ذهبت إلى تعلم تلك المهارة بمفردها من خلال دروس على "يوتيوب" ومن خلال تربص علمي وفني أجرته بأحد المتاحف الإيطالية، وقد أصبحت قِبلة جامعي اللوحات الفنية داخل تونس وخارجها الذين يرمّمون بعض الأعمال من أجل بيعها في المزادات أو فيما بينهم. وقد أشارت إلى أن مهارتها الجديدة جعلتها كالطبيب، فهي تتنقل حيث توجد الأعمال لأن أصحابها يخافون تنقلها إلى ورشة الترميم بمنزلها.

وتضيف دبيش: "أحيانًا يتطلب ترميم عمل واحد عدة أسابيع متتالية، لأن الرسامين القدامى لا يتشابهون في طرق العمل، فهم يتوخون تقنيات ومحامل مختلفة، ويصنعون الألوان بمفردهم، فتراهم يقومون بعمليات مزج كيمائية خاصة بهم". وختمت دبيش تدخلها لـ"الترا تونس" بأنها جنت مالًا كثيرًا بواسطة هذه المهارة التي تعلّمتها بمفردها، مؤكدة أن الدّرس الكبير الذي يمكن أن يكون خلاصة تجربتها مع المهارات المكتسبة ذاتيًا هو: "لو تعلقت همّة المرء بما وراء العرش لناله".

أستاذ تنشيط يصنع أقفاص الطيور لـ"الترا تونس": تعلّمت من الإنترنات كل الطرق المتاحة، وبتُّ أسوق منتجاتي داخل تونس وخارجها، وأستعد حاليًا لإنشاء ورشة للغرض

  • أستاذ التنشيط صانع أقفاص للطيور

"زياد البنزرتي" شاب ثلاثيني، جامعي، درس بالمعهد العالي للتنشيط الشبابي، اشتغل متعاقدًا في عدة مؤسسات شبابية لكنه اختار طريقًا آخر وهو تطوير مهارة قديمة تلبّست به منذ الصغر، وهذه المهارة هي صناعة أقفاص العصافير. وبهذا الخصوص أكد زياد البنزرتي أنه قضّى أشهرًا عديدة وهو يتصفح عبر شبكة الانترنات كل الطرق والتقنيات المتاحة لصناعة الأقفاص. وأضاف أنه نجح في مهمته حيث أصبح يصنع أقفاص جميلة بتزويقات خاصة وبأحجام مختلفة، وبات يسوق منتجاته داخل تونس وخارجها، وهو يستعد حاليًا لإنشاء ورشة للغرض وتعليم الشباب هذه المهارة القديمة المتجددة.

  • الدكتور الحداد

"جمال" (اسم مستعار لطبيب خيّر عدم ذكر اسمه) يعمل بأحد مستشفيات ولايات الشمال التونسي. فإلى جانب دراسته الطب، تعلّم وبشكل ذاتي مهارتين مختلفتين: الأولى هي التصوير الفوتوغرافي، واختص في تصوير الطبيعة. وأشار هنا إلى أنه بات يقضّي أيامَا بلياليها في الغابات وبين الأودية والصحاري موثقًا لجمال الطبيعة التونسية، وأوضح جمال أنه يلوذ بهذه الهواية كلما أعيته المدينة ومشاكلها، وكلما أعيته مهنة الطب التي أصبحت ممارستها صعبة. 

طبيب تعلّم الحدادة لـ"الترا تونس": تعلّمت هذه المهارة من مخالطتي للحدادين، وأنشأت ورشة في منزلي للغرض ساهمت في توازني النفسي، ولاقت أعمالي ببعض المعارض استحسان المتلقين

وأضاف جمال بأن صوره الفوتوغرافية باتت مطلوبة لدى العديد من المواقع البيئية، أما المهارة الثانية التي انشغل بها الطبيب جمال فهي الحدادة، وقد أفادنا هنا أنه تعلمها بمفرده، وأيضًا عن طريق مخالطته للحدادين، مشيرًا إلى أنه أنشأ ورشة في منزله للغرض. وقد وصف عودته إلى ورشته بعد عناء غرفة العمليات الجراحية بالمستشفى، بعودة العصفور إلى عشه. وأضاف أنه مع الحديد يجنح خياله فيصنع تحفًا وأدوات تشبه قصائد الشعر، وقد شارك ببعض الأعمال في معارض فنية لاقت استحسان المتلقين والمختصين.

وأكد الدكتور جمال أن هذه المهارات التي تعلمها ذاتيًا ولم يحصل فيها على شهائد علمية، أسهمت في توازنه النفسي، كما فتحت له آفاقًا أخرى لم تكن متوقعة.

إن التعلم الذاتي يبقى دائم الارتباط بالدافعية الداخلية للإنسان وبالمناخ المجتمعي العام الذي يشجّع على التعلّم والنحت في صخرة العلم والمعرفة، واعتبارها الدرب المؤدي إلى التغيير نحو الأفضل، كما يغذي التعلم الذاتي نوازع ذاتية أو رغبات مؤجلة، لكنه في النهاية أمر على غاية من الجمال والروعة.