تركّز الاهتمام، في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي طيلة الأيام الماضية في تونس، على حدث تدشين مسبح البلفيدير البلدي بتونس العاصمة، وذلك بين احتفاء باستعادة معلم ترفيهي بما ظهر مؤشرًا للتطوير الموعود في البنية التحتية، وبين ما ظهر كاحتفاء مبالغ فيه، رسميًا وإعلاميًا، بهذا الحدث على نحو أطلق موجة سخرية.
ترميم مسبح البلفيدير بعد عقدين من الإهمال لم يكن مُدرجًا في المخطط البلدي، بل كان قرارًا سياسيًا معلنًا من رئيس الدولة، وكانت أدوات التنفيذ بالتبعية خصوصية
المسبح هو منشأة يعود عمرها لقرابة مائة عام، وهو الأوّل من نوعه في تونس على نحو يجعله بمثابة معلم ترفيهي تاريخي، وقد أُهمل منذ ما لا يقلّ عن عقدين اثنين على الأقل، أي منذ ما قبل الثورة. ظهر بذلك ترميمه وإعادة فتحه للعموم وتمكين استغلاله بأسعار رمزية بمثابة الإنجاز من زاوية ما يحمله المسبح من استعادة ذكريات في الوجدان الشعبي في تونس العاصمة من جهة، وأيضًا لتأمين خدمات ترفيهية تعزّز دور الدولة في تعزيز جودة حياة الناس. وأيضًا، مثّل التدشين إنفاذًا عمليًا لقرار سياسي على نحو يجعله وفاءً لوعد على الأرض.
ترميم المسبح بعد عقدين من الإهمال لم يكن مُدرجًا في المخطط البلدي، بل كان قرارًا سياسيًا معلنًا من رئيس الدولة، وكانت أدوات التنفيذ بالتبعية خصوصية. توجّه الرئيس منتصف شهر فيفري/شباط 2024 للمسبح منتقدًا عدم تحرّك البلدية رغم زيارته الثانية له، ليعلن تكليف الهندسة العسكرية بأعمال التنفيذ، بتمويل من بنك خاص هو البنك العربي الدولي بتونس. جاء تكليف المؤسسة العسكرية انعكاسًا لتحفّظ معلن على البطء الإداري فـ"الأمر لا يستحق لجانًا ودراسات وهندسة جديدة" حسب البلاغ الرئاسي وقتها. وقد تحدث الرئيس حينها عن سعي ما أسماها "لوبيات" للظفر بالمسبح لمصلحتها.
تمويل ترميم المسبح، حمل جدلًا بين ما ظهر انخراطًا لأحد البنوك الخاصة في المسؤولية الاجتماعية، وبين شبهة تولّيه عملية التمويل إظهارًا لموالاة للسلطة السياسية
وكان قد تم تكليف الهندسة العسكرية، في وقت سابق، بالإشراف على أعمال الدراسة بخصوص مدينة الأغالبة الطبية، بما يعكس مضيًا في استبعاد الجهات المدنية بالوزارات المتخصصة بسبب ما ظهرت بيروقراطيتها، في ظل الخطاب الرئاسي المتواتر الناقد للتأخير في إنجاز المشاريع العمومية، وهو تأخير "غير بريء" بالعبارة الرئاسية. تولّي المؤسسة العسكرية، التي تحظى بطبيعتها بموثوقية عالية بين التونسيين، بإنجاز مشاريع مدنية يلاقي احتفاء شعبيًا لما تحمله المؤسسة من صور الانضباط والدقة في المزاج العام، في مقابل صورة عدم الانضباط والتسيّب في الانطباع العام للإدارة المدنية بوجه إجمالي. هذا مع الإشارة إلى أن أعمال التنفيذ تمت بالنهاية بمشاركة وزارة التجهيز وبلدية تونس.
في المقابل، حمل تمويل ترميم المسبح الذي بلغ 18 مليون دينار من أكبر البنوك الخاصة في البلاد جدلًا، بين ما ظهر انخراطًا للبنك في المسؤولية الاجتماعية عبر تخصيص جزء من أرباحه المتصاعدة طيلة السنوات الأخيرة في مشاريع ذات النفع العام، وبين شبهة تولّي البنك لعملية التمويل إظهارًا لموالاة للسلطة السياسية خاصة بعد إيقاف عضو مجلس إدارته مروان المبروك التي تعدّ المجموعة الاقتصادية الراجعة لعائلته هي أكبر مساهم في البنك.
ظهر تدشين المسبح كسعي لإثبات مضّي السلطة السياسية في الوفاء بعهودها وتعزيز صورتها حول القدرة على الإنجاز خاصة في ظلّ الانتقادات لأدائها في هذا المضمار بالذات
وكان تدشين المسبح من رئيس الجمهورية في وقت لاحق أمرًا غير مستغرب بحكم أن قرار التعهّد بالتهيئة والترميم كان رئاسيًا. ثم نظمت بلدية تونس -المشرفة إداريًا على المنشأة- حفلًا غنائيًا بمناسبة التدشين. ولكن كان لافتًا حجم التغطية الإعلامية المكثفة للمسبح على نحو ظهر كدعاية مبالغ فيها بالنهاية لتدشين معلم ترفيهي بالعاصمة بتمويل خاصّ. ظهر السعي لإثبات مضّي السلطة السياسية للوفاء بعهودها وتعزيز صورتها أمام الرأي العام حول القدرة على الإنجاز خاصة في ظلّ الانتقادات لأدائها في هذا المضمار بالذات.
ثم كانت التغطية المكثفة لإحدى أكبر الإذاعات الخاصة بتونس لجميع أخبار المسبح، على نحو أطلق موجة سخرية في صفوف الناشطين على مواقع التواصل، كأنه بمثابة عنوان لإعلان موالاتها للسلطة، خاصة وأن مديرها العام السابق كان من بين الموقوفين في موجة إيقافات فيفري/شباط 2023 على خلفية ملف فساد مالي قبل الإفراج عنه بكفالة، وقد كان الخط التحريري للإذاعة موضع انتقاد علني من رئيس الدولة بذاته. كأنّ الانخراط في الدعاية ولو بشكل مبالغ فيه هو أداة لإثبات الموالاة، أو على الأقل إبعاد صورة الإعلام "المتآمر" في الخطاب الرسمي.
إن كان المسبح بذاته يحمل قيمة تاريخية، فإن ترميمه وفتحه للعموم يظلّ من قبيل المشاريع محدودة القيمة، وليس من قبيل مشاريع البنية التحتية ذات المستوى الوطني
وبعد ثلاثة أيام من تدشين المسبح، توجّه رئيس الدولة لمعاينة تقدّم أشغال إعادة تهيئة دار الثقافة ابن خلدون التي كان قد تعهّد البنك الدولي العربي بتونس بتمويلها أيضًا. فالصورة محفّزة لتكرارها.
بالنهاية، تسلّط الأضواء بكثافة على حدث تدشين مسبح بلدي ظهر بمثابة دعاية مبالغ فيها، فإن كان المسبح بذاته يحمل قيمة تاريخية، فإن ترميمه وفتحه للعموم يظلّ من قبيل المشاريع محدودة القيمة التي عادة ما تتعهّد بها البلديات، وليس من قبيل مشاريع البنية التحتية ذات المستوى الوطني. ولكن من البيّن أن مثل هذه المشاريع، على محدوديتها، تعزّز صورة السلطة في الإنجاز على نحو دفع رئيس الجمهورية أيضًا بعد تدشين المسبح للإذن بإعادة تهيئة ساحتيْ برشلونة والمنجي بالي وسط العاصمة على غرار ساحة باستور في وقت سابق.
إحداث تغييرات معاينة أمام الجمهور العام هي ضرورة ليس فقط اتصالية، ولكن سياسية لإعلان المقدرة على الإنجاز وذلك في آفاق وعود المشاريع الكبرى في البنية التحتية كالمدينة الطبية بالقيروان التي لا تزال لم تر النور بعد
يوجد تقدير أن إحداث تغييرات معاينة أمام الجمهور العام هي ضرورة ليس فقط اتصالية، ولكن سياسية لإعلان المقدرة على الإنجاز وذلك في آفاق وعود المشاريع الكبرى في البنية التحتية كالمدينة الطبية بالقيروان التي لا تزال لم تر النور بعد.
وفي هذا الصدد، كانت قد اُحدثت بأمر حكومي مؤخرًا لجنة وزارية خاصة بالمشاريع الكبرى تتضمن إجراءات خصوصية ومنها إبرام الصفقات بناء على اقتراح من الهيكل العمومي وفق التفاوض المباشر أو الاستشارة أو التفاوض المباشر المسبوق بانتقاء أولي مع إعفاء العقود من الإجراءات الإلكترونية في منظومة الشراءات العمومية وأيضًا من الرقابة المسبقة للجان مراقبة الصفقات العمومية. وإن ما كان من البيّن أن الغاية هي النجاعة لضمان السرعة في التنفيذ، فإنه تظل الخشية دائمًا من مدى توفّر الشفافية وتكافؤ الفرص.