22-نوفمبر-2022
السرقة الفكرية الانتحال الأكاديمي

الانتحال الأكاديمي من بين الظواهر التي مسّت من التصنيف الإقليمي والقاري والعالمي للجامعات التونسية (getty)

 

عادة ما تتضمن سلة الدروس الأساسية التي يتلقاها الطلبة التونسيون بمختلف الجامعات والاختصاصات، ورقات ومقدمات تتعلق بمدونات سلوك وأخلاق الطالب الباحث وكل المحاذير القانونية والوسائل الفنية والتقنية المتاحة المتعلقة بأدبيات البحث العلمي. وأغلب تلك الورقات يتم تقديمها وتداولها عادة في مواد ووحدات المناهج والميتودولوجيا وأحيانًا تفرد بدرس خاص وذلك من أجل نشر وعي أخلاقي لدى الطلبة المتدربين على البحث العلمي وتكريسًا لأهمية العلم في المجتمع ودوره في الارتقاء بالشعوب.

الانتحال الأكاديمي عُدّ ظاهرة جديدة مثّلت سوسًا دبّ بهدوء في أوصال الجامعة التونسية

ورغم ما عُرفت به الجامعة التونسية منذ تأسيسها سنة 1957 من صرامة في تكوين الطلبة وانضباط في تأهيل الباحثين وهو ما جعلها في مقدمة الجامعات العربية والإفريقية وقبلة للعديد من الطلبة الأجانب ونوّلها الترتيب الحسن لدى مؤسسات التصنيف العالمية، وجعل خرّجيها من النخب المرموقة في العالم التي تطلبها كبرى الشركات والمؤسسات الاقتصادية العالمية.. فإن هناك تغيرات عديدة قد حصلت في الأثناء، حيث سرت في السنوات الأخيرة ظواهر غريبة أضرت بسمعة الجامعة التونسية وأساءت لمنتسبيها وخريجيها مما جعلها في تقهقر مسّ من تصنيفها الإقليمي والقاري والعالمي.

 

 

ومن تلك الظواهر يمكن أن نذكر: هجرة أكثر من ثلث الأساتذة الجامعيين التونسيين المباشرين بمختلف الكليات والمعاهد العليا التونسية، تراجع ميزانية البحث العلمي إلى مستويات متدنية واندثار جزء من منظومة مخابر البحث وتراجع أداء بعض المخابر الأخرى، غياب التأهيل الرقمي للإدارة وفضاءات التدريس والمكتبات الجامعية ومختلف خدمات الطلبة، رفض بعض الجامعات الأوروبية للشهائد التونسية والطعن في مستواها، جنوح الطلبة إلى "الفوسكة" وهي الغش في الامتحانات.

الانتحال الأكاديمي، أو عدم النزاهة العلمية أو الانتحال الفكري، هي تسميات مختلفة لفعل واحد وهو الانزياح الأخلاقي لقسم هام من الطلبة

لكن الظاهرة الجديدة والتي اعتُبرت سوسًا قد دبّ بهدوء في أوصال الجامعة التونسية هي الانتحال الأكاديمي، أو عدم النزاهة العلمية أو الانتحال الفكري.. أو ما يُعرف بـ"البلاجيا" (plagiat). إنها تسميات مختلفة لفعل واحد وهو الانزياح الأخلاقي لقسم هام من الطلبة، حيث تسجّل الجامعة التونسية سنويًا أرقامًا مفزعة ومخيفة تتعلّق بما يعرف في الأوساط الجامعية التونسية بـ"البلاجيا" لكن هذه الأرقام لا تخرج للعلن ولا تجاهر بها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بل وتسعى للتكتم عليها ولا تنشرها ولا تحولها إلى مؤشرات بغية دراسة الظاهرة، كما لا تضعها للنقاش العام والبحث في أسبابها من أجل الوصول إلى حلول تقي الجامعة التونسية من هذا الدمار الجديد أو الانهيار الذي ليس من بعده عود.

ومن مظاهر تفشي هذه الظاهرة التي وصفت بالخطيرة في الأوساط الجامعية التونسية أن تحولت بعض قصص الانتحال الأكاديمي إلى أروقة القضاء وتعاطى معها الإعلام والصحافة، بل وتحول بعضها إلى قضايا رأي عام وقد تبين أن الجامعة التونسية تُرجع هذه الحالات إلى مجالس التأديب العادية داخل المؤسسات التعليمية وتطبق عليها الأنظمة الداخلية التي تشبه الأعراف، مما جعل الأحكام غير دقيقة وغير منصفة فتحولت القضايا إلى المحاكم.

كريم الطرابلسي (أستاذ جامعي في الفلسفة) لـ"الترا تونس": المناخ العام الذي يسود البلاد منذ سنوات هو مناخ سرت داخله ثقافة السطو والانتحال والاستيلاء على جهد الغير

بخصوص ظاهرة الانتحال الأكاديمي، اتصل "الترا تونس" ببعض الفاعلين الجامعيين والمختصين فكانت آراؤهم كم يلي:

  • الأساتذة: "الانتحال الأكاديمي مرتبط بالإصلاحات الهيكلية للجامعة التونسية.."

الدكتور كريم الطرابلسي أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية يربط تنامي ظاهرة الانتحال الأكاديمي بما يحدث في المجتمع، إذ يشير إلى أنه كلما حصل اختلال في سلم القيم المجتمعية إلا ونرى له انعكاسًا في حياة الناس، وما الطلبة والباحثين بالجامعة إلا أفراد من قلب المجتمع بل هم نخبته، ويضيف الأستاذ الطرابلسي أن مناخًا عامًا يسود البلاد منذ سنوات سرت داخله ثقافة السطو والانتحال والاستيلاء على جهد الغير، حتى إن اللهجة اليومية التونسية غزتها مصطلحات تكرّس ثقافة السطو والانتحال والسرقات الفكرية والأدبية، من قبيل "تو نغمّوه، وطفى علينا الضو، وعديها في المهموتة، وعين رات وعين ما راتش.." وغيرها، وهي مصطلحات تعكس تفكير المجتمع، فاللغة تعكس شكل الإقامة ومنظومات التواصل كما تفضحنا من دون أن تقصد ذلك، على حدّ تعبيره.

كريم الطرابلسي (أستاذ جامعي في الفلسفة) لـ"الترا تونس": الطالب المنتحل هو ضحية منظومات تعليمية راكمت الفجوات منذ عقود نتيجة فشل الاستراتيجيات القديمة

كما اعتبر الأستاذ كريم الطرابلسي أن الطالب المنتحل هو ضحية منظومات تعليمية راكمت الفجوات منذ عقود نتيجة فشل الاستراتيجيات القديمة فأصيبت بالاهتراء والتقادم وباتت تتطلب إصلاحات هيكلية عاجلة، لكن ذلك لم يحدث لأن السياسيين في تونس الذين حكموا طيلة العشرية الأخيرة يعتبرون وزارات التعليم والتكوين حقائب للبهرج الحزبي والتباهي السياسي لا غير، والحال أن الأمر متعلق أساسًا بمصير مجتمع بأسره لأن التعليم هو مدرسة للحياة وصناعة الإنسان. وأكد محدثنا أن هذه الوزارات الفنية وجب النظر إليها بعين أخرى أبعد من السياسة في مستواها السطحي، مشيرًا إلى أن بروز ظاهرة الانتحال الأكاديمي ليست سوى نتيجة حتمية لإخلالات عديدة حصلت في الأثناء.

ويختم أستاذ الفلسفة القول بأنه حان الوقت الآن لبلورة رؤية استشرافية حول منظومة التعليم العالي في تونس والقيام بتشخيص حقيقي والذهاب في سبل التطوير وخاصة في البرامج وطرق الامتحانات وشؤون البحث وربط الجامعة بهموم المجتمع، ومراجعة القوانين البالية والاشتغال بجدّ على الجانب القيمي والأخلاقي.  

أمير بن صالح (أستاذ جامعي) لـ"الترا تونس": الجامعة تدرك سبب لجوء الطالب الباحث إلى الانتحال الأكاديمي لكنها تتغافل وتذهب إلى الحلول الزجرية التأديبية

كما أرجع الدكتور أمير بن صالح، من جهته، وهو الأستاذ بكلية الاقتصاد والتصرف بسوسة هذه الظاهرة إلى عوامل هيكلية عدة تعاني منها الجامعة التونسية منذ سنوات عديدة، ومنها مثلًا: إهمال منظومة التوجيه الجامعي، وضعف التأطير والذي مرده هجرة الأساتذة والتعويل الكلي على التعاقد وصيغ التشغيل الهش، فضلًا عن عدم تأهيل المخابر وجعلها بمواصفات الجودة المواكبة لمخابر الجامعات المرموقة، وعدم مواءمة الاختصاصات التي تدرّس مع سوق الشغل.. وأوضح الأستاذ بن صالح أن الانتحال الأكاديمي أو السرقة الفكرية هو نتيجة، ويمكن القول إنه خلاصة مسارات خاطئة انتهجتها الجامعة التونسية.

 

 

والسؤال الذي يطرح نفسه حسب الدكتور بن صالح هو "لماذا يجنح الطالب الباحث إلى السرقة الفكرية أو الانتحال الأكاديمي؟" وأشار إلى أن الجامعة تدرك الإجابة لكنها تتغافل وتذهب إلى الحلول الزجرية التأديبية، وأضاف أستاذ التصرف بالجامعة التونسية أن السرقات العلمية ضمن درجات البحث ليس لها قانون يميزها عن باقي الأفعال المشينة التي يرتكبها الطلبة طيلة مسيرتهم التعليمية، وإنما تتولى أمرها مجالس التأديب التي دائمًا ما تعتبره خطأ أخلاقيًا جسيمًا، فيقدّر المجلس العقوبة على النحو الذي يريد، وعادة ما يتمثل العقاب في إسقاط الدرجة العلمية المترشح إليها سواء إن كانت ماجستيرًا أو دكتوراه، وحرمان الطالب من التسجيل مرة أخرى في تلك الكلية أو المعهد. 

أمير بن صالح (أستاذ جامعي) لـ"الترا تونس": يجب إفراد السرقات الفكرية بقانون خاص يضمن المحاكمة العادلة للطالب عن طريق تمكينه من الدفاع عن نفسه عبر النقابة الطلابية أو عبر محام

وأضاف الأستاذ بن صالح أنه حان الوقت إلى إفراد هذه التجاوزات الأخلاقية بقانون خاص يضمن ما يشبه المحاكمة العادلة للطالب الذي ارتكب الخطأ وتمكينه من الدفاع عن نفسه عن طريق النقابة الطلابية أو عن طريق محام.

  • نقابة الطلبة: الأستاذ المؤطر يتحمل جزءًا من مسؤولية الانتحال

أما الطالب سيف الغابري القيادي بالاتحاد العام لطلبة تونس، فبيّن أنّ تهم الانتحال الأكاديمي في تونس والتي عادة ما توجّه للطلبة الباحثين في مستوى رسائل ختم الدروس الجامعية والماجستير والدكتوراه، تتعلّق بـ"النسخ واللصق، النقل المباشر، الانتحال الفسيفسائي، الانتحال الذاتي من بحوث سابقة، انتحال النص الكامل، انتحال إعادة الصياغة، شراء دراسة كاملة من باحث آخر مقابل مبلغ مالي.. وغيرها، وهي كلها تهم تتطلب دقة بعينها من أجل إثباتها، مشيرًا إلى أن التقارير التي تقدم حول الطلبة الباحثين الموجهة إليهم تهمة الانتحال العلمي أغلبها لا يتسم بالدقة المطلوبة وأحيانًا يشتمّ منها رائحة تصفية حسابات خاصة بين الأساتذة، وفقه. 

كما أوضح النقيب الطلابي أن الباحثين الموجهة ضدهم هذه التهم عادة ما يواجهون مجالس التأديب وحيدين وعزّل ومن دون فرص حقيقية للدفاع عن أنفسهم، معتبرًا أن الأساتذة المشرفين على البحوث يتحملون أيضًا جزءًا من المسؤولية فيما يحدث.

سيف الغابري القيادي (نقابي طلابي) لـ"الترا تونس": التقارير التي تقدم حول الطلبة الموجهة إليهم تهمة الانتحال العلمي يشتمّ منها أحيانًا رائحة تصفية حسابات خاصة بين الأساتذة

كما تحدث الغابري عن الظروف السيئة التي تحيط بالبحث اليوم وهي التي تدفع ببعض الطلبة إلى الانتحال الأكاديمي. وفي هذا الصدد، أوضح أن المكتبات الجامعية تتعامل مع الطلبة ببيروقراطية فجة وأغلبها لم يدخل عالم الرقمنة بعد، أضف إلى ذلك أن استعارة الكتب والبحوث ممنوعة على الطلبة. كما أشار الغابري إلى أن المنح المرصودة للطلبة الباحثين تعد هزيلة جدًا وتغيب في أغلب الأحيان، أما الزيارات البحثية خارج تونس فقد ألغيت تمامًا ما عدا المسائل البحثية المؤكدة.. كل هذه العوامل تؤدي إلى عدة انزياحات كما تضر بالبحث العلمي في تونس، وفقه.

وختم سيف الغابري بأن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مطالبة بتشريك الطالب نفسه عن طريق ممثليه النقابيين والمجتمع المدني التونسي والمنظمات الوطنية من أجل إصلاح جوهري ينهض بالتعليم العالي في تونس ويعيد إليه ألقه الذي كان عليه مع الآباء المؤسسين.

سيف الغابري القيادي (نقابي طلابي) لـ"الترا تونس": الظروف السيئة التي تحيط بالبحث اليوم عديدة، وهي التي تدفع ببعض الطلبة إلى الانتحال الأكاديمي

إن السرقات العلمية بالجامعة التونسية تعالج حاليًا في تونس عبر تمرير البحث العلمي المقدم للجنة النقاش على موقع "turnitin" الأمريكي للتأكد من أصالة البحث والوقوف على احتمالات الانتحال الأكاديمي والتي يجب ألا تتعدى نسبة 16% وإذا ما تعدت تلك النسبة فإن الباحث يعد منتحلًا ويحال على مجلس التأديب، علمًا وأن "تورنتين" توظفه العديد من الجامعات المرموقة وقد أنشأه العالمان الأمريكيان "جون باري" و"كريستيان ستروم" سنة 1997.

يبقى الانتحال الأكاديمي بالجامعة التونسية والمعروف لدى التونسيين بـ"البلاجيا"، خطرًا داهمًا من شأنه الإضرار بالشهادة العلمية التي تمنحها تونس، وهو في حقيقة الأمر مسألة قيمية وأخلاقية مرتبطة بفلسفة القيم في المجتمع والتي تُزرع عبر كل مراحل التعليم وعبر التنشئة الأولى بالعائلة.