07-يوليو-2022
صندوق النقد

الشكندالي: نجاح المفاوضات يكمن في طريقة اختيار المفاوضين التونسيين (Getty)

 

 
دخلت تونس في مفاوضات رسمية مع صندوق النقد الدولي لتستمر أسبوعين تقريبًا للوصول إلى اتفاق تمويل "للإصلاحات الاقتصادية" التي وعدت بتطبيقها الحكومة الحالية برئاسة نجلاء بودن. وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيّد كان قد أشار، في تصريحات إعلامية، أن المفاوضات تهدف إلى استرجاع ثقة الممولين الدوليين ولتغطية عجز الميزانية ووضع برامج "إصلاحات" تستعيد من خلالها الحكومة التوازنات المالية  على المدى المتوسط.

وتأتي بداية المفاوضات في سياق التحضير لاستفتاء على الدستور الجديد في 25 جويلية/يوليو المقبل وتواصل الصعوبات المالية مع ارتفاع نسبة التضخم إلى 8.1 في المائة وعجز الدولة عن توفير التمويلات الكافية لسداد ثمن توريد الحبوب وتدخل البنك الدولي خلال هذا الأسبوع عبر تمويل عاجل  بـ130 ألف دولار، مع تمسك الاتحاد العام التونسي للشغل بموقفه الرافض لبرنامج "الإصلاحات" الذي تقدمت به الحكومة قبل شهر من الآن وانتهى بتنفيذ إضراب عام في 16 من جوان/يونيو الماضي وإقرار إضراب آخر يشمل الوظيفة العمومية لم يحدد موعده بعد.

 

 

  • مفاوضات صعبة

رغم نجاح الحكومة التونسية في تجاوز مرحلة المشاورات التقنية بنجاح إلا أن الدخول في المفاوضات الرسمية يمثل تحديًا أصعب، رأي يدعمه أستاذ الاقتصاد آرام بلحاج الذي يعتبر أن "المفاوضات هي أصعب مرحلة يمر بها الجانب المعني بالاتفاق حتى وإن نجحت المحادثات التقنية"، مؤكدًا في تصريح لـ"الترا تونس" أن "هذه المفاوضات صعبة لأن صندوق النقد الدولي لا ينظر فقط إلى موقف الاتحاد العام التونسي للشغل الرافض بل أيضًا إلى المناخ السياسي والاقتصادي الاجتماعي ذلك أن الوضع في تونس يتسم بضبابية في الوضعين السياسي والاجتماعي وسيكون متشددًا دون إغفال قرار مجلس إدارة الصندوق والقوى الدولية الفاعلة التي دائمًا ما تدفع نحو الاتفاق مثلما حدث مع لبنان التي رغم كارثية وضعها إلا أنها حصلت على اتفاق".

أستاذ الاقتصاد آرام بلحاج لـ"الترا تونس": "هذه المفاوضات صعبة لأن صندوق النقد لا ينظر فقط إلى موقف الاتحاد الرافض بل أيضًا إلى المناخ السياسي والاقتصادي الاجتماعي الذي يتسم بالضبابية"

وأكد بلحاج أن حدوث اتفاق ستليه متابعة وخارطة طريق وأقساط تمويل وسيدفع الصندوق في كل مرة إلى تنفيذ بنود الاتفاق غير أن ذلك لن يمثل حلاً جذريًا لعجز المالية العمومية التي تتطلب إنجاز الإصلاحات على القطاع الجبائي والمؤسسات العمومية كما أن الإصلاحات لا تعني بالضرورة ما قدمته الحكومة في برنامجها بل هناك إصلاحات أخرى أقل كلفة اجتماعيًا، وفقه.

وتأتي هذه المفاوضات بعد  المحادثات التقنية وتقديم حكومة نجلاء بودن لبرنامج إصلاحات يتضمن التخفيض في كتلة الأجور عبر آليات منها الإحالة على التقاعد وتجميد الأجور وإصلاح المؤسسات العمومية ورفع الدعم على عدد من المواد خاصة منها المحروقات، ويقول بلحاج، في هذا السياق، إن الدخول في المفاوضات يعني أن يقدم الفريق المفاوض طريقته لتنفيذ هذه "الإصلاحات" على أرض الواقع ومدى قدرته على  الإقناع بذلك، وهل لدى الحكومة اتفاقات في هذا السياق مع الشريك الاجتماعي.

آرام بلحاج لـ"الترا تونس": بدء المفاوضات يعني أن يقدم الفريق المفاوض طريقته لتنفيذ هذه "الإصلاحات" ومدى قدرته على  الإقناع وهل لديه اتفاقات مع الشريك الاجتماعي

 

 

  • شرط موافقة الاتحاد.. صنع الميديا

ورغم صعوبة الوصول إلى هذه المرحلة من المفاوضات إلا أن الخبير المالي محمد الصادق جبنون يقول في تصريح لـ"الترا تونس" إن انطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أمر مفروغ منه بالنظر  إلى الظروف التي يعرفها العالم بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعيات وباء كوفيد 19، أما بالنسبة إلى تونس فإن البرنامج  الذي قدمته الحكومة ليس إلا مجموعة من الإصلاحات لم تنجز منذ 2012 والتزمت به الحكومات في 2016 و2018 ولم تطبقه بسبب الاختلاف بين الحكومات والنقابات والضغط الاجتماعي.

الخبير المالي الصادق جبنون لـ"الترا تونس": هناك رغبة من الصندوق في تجنب تعثر الدول ودخولها في أزمات اقتصادية حادة خاصة أنها تواجه أزمة في جنوب شرق آسيا

ويشير جبنون إلى أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لم يتخليا عن تونس خلال الفترة الماضية وأن برنامج الحكومة الأخير فيه إجابة عقلانية حول المعايير التي وضعها الصندوق، معتبراً أن المراحل الأخيرة من المفاوضات ستعرف التقاء بين الوفد المفاوض التونسي وممثلي الصندوق على نقاط اتفاق خاصة حول الانعكاسات الاجتماعية للإصلاحات الهيكلية وأنها سوف تذهب إلى منحى إيجابي باعتبار تطابق البرنامج وإمكانية تنفيذه مع رغبة المؤسسة المالية الدولية في تجنب تعثر الدول ودخولها في أزمات اقتصادية حادة خاصة أنها تواجه أزمة في جنوب شرق آسيا وأن عديد الدول الكبرى تعتبر أن الصندوق لديه جزءًا من المسؤولية في وقوع هكذا اضطرابات، حسب قوله.

وحول تخلي الصندوق عن شرط موافقة الاتحاد العام التونسي للشغل على برنامج "الإصلاحات"، يقول الصادق جبنون إن "هذا الشرط هو اختراع الميديا ووسائل الإعلام لأن صندوق النقد هو مؤسسة من مؤسسات الأمم المتحدة ولا يتعامل إلا مع الدول ومن يمثلها أما موقف الاتحاد فهو مسألة داخلية تونسية وقع تضخيمها وربطها خطأ بالمؤسسة المالية الدولية، مؤكدًا أنه لا يوجد نص مكتوب وصريح يطلب فيه الصندوق رضا أو مساهمة النقابة، هناك فقط طلب لمراعاة البعد الاجتماعي.

واعتبر جبنون أن أهمية انطلاق المفاوضات بين الحكومة التونسية والصندوق تكمن في عودة تونس إلى ساحة التمويل الدولي وإعطاء شارة ثقة للمستثمرين وفتح الباب للمقرضين الدوليين في الجانب الثنائي أو المؤسسات الإقليمية الأخرى فالاتفاق ضروري، وفق جبنون، لأنه يمثل مرحلة من المراحل التي معها يجب إنفاذ الإصلاحات لتحسين مناخ الأعمال والتحكم في الميزانية العامة مع مراعاة البعد الاجتماعي وأن الصندوق مستعد لأن يكون أكثر مرونة، وفق تقديره.

الخبير المالي الصادق جبنون لـ"الترا تونس": شرط موافقة اتحاد الشغل هو من اختراع الميديا ووسائل الإعلام لأن صندوق النقد لا يتعامل إلا مع الدول ومن يمثلها

ووقعت تونس اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي بين 1987 و2001 وعرف ببرنامج الإصلاح الهيكلي دخلت بفعله الدولة في برنامج لتأهيل الاقتصاد وانفتاحه وتقليص دور الدولة شيئًا فشيئًا غير أن هذه "الإصلاحات" ورغم إنتاج ثمارها خلال المرحلة الأولى بنسب نمو مرتفعة إلا أنها لم تفتح المجال لاقتسام الثورة أمام كل التونسيين والجهات، وهو ما خلف أزمات اجتماعية في 2008 في انتفاضة الحوض المنجمي المعروف بإنتاج الفسفاط، وسنة 2011 التي  شهدت سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي إثر ثورة شعبية.

 

 

  • معطيات سياسية جديدة

وتعود تونس إلى أحضان الصندوق بعد أكثر من عقدين من الزمن لمحاولة الخروج من أزمة مالية خانقة وصعوبات اقتصادية مزمنة، "العودة من خلال المفاوضات الرسمية فيها نقلة نوعية كبيرة"، حسب أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي،  كما تحدث لـ"الترا تونس"، وذلك بعد بروز  معطيات سياسية جديدة اطلع عليها عن كثب رئيس مكتب شمال إفريقيا والشرق الأوسط جهاد أزعور في زيارته الأخيرة ولقائه الرئيس التونسي قيس سعيّد جعلته يطمئن لسير المفاوضات، وأن مشروع الدستور الجديد الذي اطلع عليه الصندوق فيه تركيز كبير لدور الرئيس في النظام السياسي وهو ما يمثل الضمان الوحيد لاستمرارية هذا البرنامج"، حسب تعبيره.

أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي لـ"الترا تونس": صندوق النقد الدولي رحب في آخر بيان له ببداية المفاوضات لكنه لم يستعجلها في انتظار ما ستؤول إليه الأمور بعد نتيجة الاستفتاء

وأشار الشكندالي، في المقابل، إلى أن صندوق النقد الدولي رحب في آخر بيان له ببداية المفاوضات لكنه لم يستعجلها في انتظار ما ستؤول إليه الأمور بعد نتيجة الاستفتاء كما أن موقف الاتحاد تطور إيجابيًا في علاقة بالجانب السياسي الذي يبدو أنه غير معارض لمآلاته وترك لمنخرطيه حرية المشاركة وقبول أو رفض مشروع الدستور، وتموقع في مجاله الاقتصادي الاجتماعي وهو أمر يطمئن نوعًا ما صندوق النقد الدولي، وفق تقديره.

الشكندالي يقول لـ"الترا تونس" إنه يتوقع حدوث جلسات حوار بين الصندوق والمنظمة العمالية لتقريب وجهات النظر وتضمين القضايا الاجتماعية في أي اتفاق حتى تمر الإصلاحات، معتبرًا أن رفض الاتحاد ستقابله سياسة أمر واقع ينتهجها الرئيس خاصة وأنه يمكنه أن يمثل ضمانة لأي اتفاق، لأن الصندوق لا تعنيه كثيراً القضية الديمقراطية فالمطالب كانت منذ البداية هي توسيع الحوار وأي قوة سياسية ستفوز في الانتخابات ستكون ملزمة بمخرجات ذلك الحوار غير أن نسخة الدستور الجديد قللت من دور القوى السياسية.

أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي لـ"الترا تونس": 4 ملفات قائمة في هذه المفاوضات فإذا كان أمر تحسين مناخ الأعمال من المتفق عليه فإن بقية الملفات تمثل مشكلًا وهي الوظيفة العمومية ورفع الدعم وإصلاح المؤسسات العمومية

وحول ملف المفاوضات وشروط نجاحه يقول الشكندالي إن نجاح المفاوضات يكمن في طريقة اختيار المفاوضين التونسيين الذي يجب أن تتوفر فيهم القدرة على الإقناع لتقريب وجهات النظر ، معتبرًا أن وزيرة المالية ومحافظ البنك المركزي ووزير الاقتصاد يفتقدون هذه الصفة وإذا أرادت الدولة تغيير المقاربة عليها اختيار مفاوضين يتشبعون بالمضامين الاجتماعية لإقناع ممثلي الصندوق، داعيًا إلى ضرورة تغيير المقاربة المحاسباتية بمقاربة اقتصادية تأخذ بعين الاعتبار التداعيات الاجتماعية للإصلاحات، مضيفًا أن أربعة ملفات قائمة في هذه المفاوضات فإذا كان أمر تحسين مناخ الأعمال متفق عليه فإن بقية الملفات تمثل مشكلًا وهي إصلاح الوظيفة العمومية ورفع الدعم وإصلاح المؤسسات العمومية.

وحول السيناريوهات الممكنة في هذه المفاوضات، يقول الشكندالي إن الظروف الداخلية هي التي ستحكم على هذه المفاوضات إما بالنجاح أول الفشل في إشارة إلى ارتفاع نسب التضخم وما يمكن أن ينجر عنها من هزات اجتماعية وفرضيات نجاح الرئيس التونسي في تمرير مشروع الدستور بنجاح في استفتاء 25 جويلية المقبل أو فشله.