"الدّيْن هو التمثّل المشوّه للوعد. هو وعد فاسد بين الحسابات والعنف. لكن الحريّة (الحقيقية) هي القدرة على تقديم وعود حقيقية". هذا ما أنهى به دايفيد غرابر، أستاذ الأنتروبولوجيا بجامعة كامبريدج، كتابه "الدين: تاريخ 5000 سنة"، الذي تناول فيه علاقات الدين، الدائن والمتداين، وتعرّض فيه، فيما تعرّض، إلى التأثيرات الكارثية لسياسات التقشّف التي تفرضها المؤسسات المالية، على غرار صندوق النقد الدولي، على دول الجنوب.
هذه السياسات كانت مضمون تصريح لممثل صندوق النقد جيروم فاشي، لوكالة الأنباء الفرنسية، أين تحدّث عن "الإصلاحات العميقة" التي ينبغي على السلطات التونسية اتخاذها، بعد إشارته إلى المفاوضات التي تخوضها حكومة بودن مع الصندوق، وكان قد وصفها بالتمهيدية. يذكر أن هذه المفاوضات هي على خلفية طلب تمويل، غير معلن، تقدمت به الحكومة إلى الصندوق، بعد أقل من شهر تنصيبها. أتمت حكومة نجلاء بودن هذا الأسبوع الـ 100 يوم من أدائها اليمين يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021. ما عدا هذه المفاوضات، كيف يمكن تقييم عمل هذه الحكومة؟
- حكومة الاستثناء، شكلًا ومضمونًا:
في 21 جانفي/يناير 2022، أتمت حكومة بودن 100 يوم، لم تترأس فيه رئيسة الوزراء المعينة، استنادًا إلى الأمر عدد 117 الصادر في 22 سبتمبر/أيلول 2021، إلا مجلسين وزاريين كان الوضع الصحي على رأس جدولي أعمالهما، فيما ترأس سعيّد 12 مجلسًا وزاريًا بين 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021 و15 جانفي/يناير 2022 (دون احتساب اللقاءات المضيقة مع الوزراء، أصحاب الحقائب السيادية بالأساس). مقابل ترأسه لهذه المجالس، تنازل سعيّد لبودن عن القيام باستقبال ومقابلة الهياكل المهنية والإدارية (نقابات وهيئات...)، الزيارات الاجتماعية (دور المسنين والأطفال فاقدي السند..) إلى غير ذلك من بروتكولات السلطة السياسية.
أتمت حكومة بودن 100 يوم، لم تترأس خلالها رئيسة الوزراء إلا مجلسين وزاريين كان الوضع الصحي على رأس جدولي أعمالهما، فيما ترأس سعيّد 12 مجلسًا وزاريًا دون احتساب اللقاءات المضيقة مع الوزراء، أصحاب الحقائب السيادية بالأساس
هذه العلاقة بين بودن وسعيّد، شبهتها يسرى فراوس، الرئيسة السابقة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، بعلاقة المدير بسكرتيرته: "تعيين سعيّد لبودن يندرج ضمن إطار الأدوار التقليدية للمرأة، التي يؤمن بها قيس سعيّد: الرجل العظيم يجب أن تكون له سكرتيرة جيدة "، معبّرة عن خيبتها، بعد استبشارها بأول التعيين، من الدور الضئيل الذي حُصرت فيه نجلاء بودن أو حصَرت فيه نفسها .
اقرأ/ي أيضًا: قراءة أولية في تركيبة حكومة نجلاء بودن..
عبر تقفّي ما جاء في صفحتيْ رئاستيْ الجمهورية والحكومة من بلاغات، اكتفت الحكومة، والسلطة السياسية من ورائها، بإدارة الشأن اليومي، رغم ما أتاحه الاستثناء الذي تشكلت فيه من مساحات لاتخاذ قرارات، كانت قد عجزت عنها الحكومات السابقة في الظروف الطبيعية التي يؤطرها دستور 2014 (سلطة تنفيذية برأسين وسلطة تشريعية تخضع لتوازنات البرلمان وضغوطات الشارع)، فغلبت على جداول أعمال جلساتها القرارات اليومية لإدارة الشأن العام كالقروض والعمليات الروتينية، بالإضافة إلى إدراج نقاط تتعلق بالنوايا السياسية لرئيس الجمهورية: "الشركات الأهلية، الاستشارة الإلكترونية...".
في المقابل، تواصل المؤشرات البيو-سياسية في الانحدار. بالإضافة إلى تواصل تراجع نوايا الاستثمار الأجنبي وارتفاع معدلات البطالة والتي قد تكون أسبابها هيكلية ولا طائل لهذه الحكومة بها، سجلت نسبة التضخم ارتفاعًا ملفتًا في الثلاثة أشهر التي تولت فيها الحكومة مهامها: أكتوبر 2021 - 6.3% (أكتوبر 2020 - 5.4%)، نوفمبر 2021 - 6.4% (نوفمبر 2020 - 4.9%) وديسمبر 2021 - 6.6% (ديسمبر 2020 - 4.9%).
تواصلت المؤشرات البيو-سياسية في الانحدار، بالإضافة إلى تواصل تراجع نوايا الاستثمار الأجنبي وارتفاع معدلات البطالة والتضخم
قد يكون لهذا الارتفاع أسباب مختلفة، إذ قد تكون نسبة من التضخم مستوردة بفعل ارتفاع الطلب في الأسواق العالمية، كما يمكن أن تكون له أسباب اقتصادية أخرى كارتفاع تكلفة الشحن حول العالم، لكن عند ملاحظة التقرير الأخير حول المخاطر التي تواجهها تونس للمنتدى الاقتصادي العالمي، والذي حدد خبراؤه قائمة الأخطار بانهيار الدولة وتعمّق أزمة المديونية، فلا يمكن تجاهل الأزمة السياسية التي تجذّرت أخيرًا بعد صراع سياسي دام لأشهر، وانتهى بواقعة 25 جويلية/يوليو 2021. فكيف كان تعاطي الحكومة لمواجهة تبعات هذه الأزمة؟
- الإجرائية والاستثناء الدائم:
على مستوى التواصل وقبل التطرّق إلى مضامين عمل الحكومة في أول 100 يوم لها، تجدر الإشارة إلى استغناء هذه الحكومة عن الاتصال السياسي وركونها "رفاه الصمت"، إذ لم تتوجّه حتى هذه اللحظة رئيسة الوزراء نجلاء بودن بأي خطاب إلى التونسيين، فيما وقع تعيين ناطق رسمي للحكومة بعد أكثر من شهر من التنصيب. خطوة أخرى نحو التعتيم الممنهج أو الـ"Black out" على حد تعبير نقيب الصحفيين، وجهت الحكومة قرارًا بعنوان "قواعد التواصل الحكومي"، ينصّ في مضمونه على جملة من ضوابط الظهور الإعلامي وشروطه، فيما كانت آثاره تعتيمًا تامًا على المعلومة الرسمية.
اقرأ/ي أيضًا: الاتصال والسياسة في تونس بعد 25 جويلية: من هم التونسيون ومن يمثّلهم؟
وتتويجًا لسياسة "تأبيد الأمر الواقع"، صدر الأمر الحكومي عدد 20 الذي ينص على تشديد شروط تفاوض هياكل الإدارة العمومية مع النقابات. تعرّف مدارس الاتصال السياسي هذا النوع من السياسات بـ"الصمت السياسي"، وتردفه بعدّة مزايا كتوفير استقرار تنشده كل سلطة سياسية. لكن تضبط هذه المدارس سياقات استعمال هذا النوع من السياقات السياسية، وسياق الأزمة التي نعيشها ليس أحدها.
خيّرت الحكومة الاستغناء عن الاتصال السياسي والركون إلى "رفاه الصمت"، إذ لم تتوجّه رئيسة الوزراء نجلاء بودن بأي خطاب إلى التونسيين، فيما وقع تعيين ناطق رسمي للحكومة بعد أكثر من شهر من التنصيب
من جهة أخرى، تم حصر المنطوق السياسي للسلطة في مونولوغات رئيس الجمهورية، فيما ساد انطباع أن الحكومة هي جهاز تقني ملحق بالرئاسة، مفرغ من السياسة. قد يوفر هذا الانطباع منطقة أمان للحكومة، فلا تظهر في الصورة العامة كفاعل سياسي. لكن، وبالنظر إلى سوابق رئيس الجمهورية في التنصّل من خياراته (مستشارين ورئيسي الحكومة السابقين) وإلقاء المسؤولية على "الآخرين"، قد تدفع هذه الحكومة ضريبة "الفشل القادم"، الذي تشير إليه عدة مؤشرات، وتراهن عليه المعارضة.
سبق أن أشرنا في نص سابق إلى الإجرائية المحاسباتية، التقليدية الجافة، التي وقع اعتمادها في صياغة مرسوم قانون المالية لسنة 2022، والذي ولد مرتهنًا لما ستؤول إليه المفاوضات في الثلاثي الأوّل. ليتها نهاية الأحزان: بعد أقل من أسبوعين من نشر مرسوم المالية، وما تضمنّه من فرضيات كاعتماد 75 دولارًا لسعر برميل النفط، سجلت أسعار الطاقة ارتفاعًا بلغ، ساعة كتابة هذه الأسطر، 87 دولارًا، فيما يرجّح المتابعون مواصلة ارتفاعها في الأسابيع القادمة، مع بلوغ نسبة التضخّم في الولايات المتحدة عتبة الـ7% التاريخية هذا الشهر.
اقرأ/ي أيضًا: الاقتصاد التونسي: 2021 عام الانتكاسة.. والمجهول يحف بقانون المالية 2022
في نفس السياق، واصلت وزارة الفلاحة صمّ آذانها عن أصوات الفلاحين المنادين بتعديل أسعار الحبوب والسماد، رغم الارتفاع على طلب هذه المواد في الأسواق العالمية، وما يصاحبه من ارتفاع في الأسعار وشح في الأسواق الداخلية، في ظل الأزمة المركبة التي نعيش. عكس وزارة الفلاحة، أصغت وزارة التجارة لأصوات مزودي البيض الذين رفضوا بيعه مطالبين برفع تسعيرته، في عملية مصارعة الأذرع التي خاضوها مع الوزارة التي كابرت لأسابيع، منكرة انقطاع البيض من الأسواق.
فيما يخص الحقوق العامة والحريات، نشرت منظمة العفو الدولية، يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تقريرًا حول ارتفاع عدد المدنيين الماثلين أمام المحاكم العسكرية، الذي فاق عدد الماثلين بين 2011 و2021 (إلى حدود 25 جويلية/يوليو 2021).
أشار التقرير إلى اعتقالات مدونين بسبب آرائهم. علاوة على التضييقات على الاحتجاجات السياسية كغلق الطرقات وعسكرة الشارع، كانت سياسة "العصا لمن عصا" جواب وزارة الداخلية، والحكومة من ورائها، إلى أصحاب السؤال البيئي-الاجتماعي في منطقة عقارب.
تم حصر المنطوق السياسي للسلطة في مونولوغات رئيس الجمهورية، فيما ساد انطباع أن الحكومة هي جهاز تقني ملحق بالرئاسة، مفرغ من السياسة. قد يوفر هذا الانطباع منطقة أمان للحكومة، فلا تظهر في الصورة العامة كفاعل سياسي
في إضافة نوعية للتجربة البوليسية في فض الاحتجاجات، تم يوم 14 جانفي/يناير 2022 استعمال خراطيم المياه، إلى جانب العنف الممنهج ضد المحتفلين بعيد الثورة، الذين صادف أن كان بينهم صحفي فرنسي للتغطية، والذي تعرّض بدوره للعنف، ما أدى إلى صدور بيان عن وزارة الخارجية الفرنسية يدين ما حصل.
عرضًا نشير إلى مصادرة وزيرة الثقافة لكتب من معرض الكتاب الأخير، ممارسة نوعية هي الأخرى، أحيتها الوزيرة في ذاكرة التونسيين، بعد أن اندثرت تقريبًا.
في تماه مع الاستثناء الذي كوّنت في إطاره، من المنتظر أن تعلن الحكومة، حسب تصريح لوزير أملاك الدولة محمد الرقيق، عن برنامجها بمناسبة مرور 100 يوم على تنصيبها. في انتظار هذا البرنامج الذي نقدّر أنّه لن يختلف عن منطوق برامج الحكومات السابقة الذي صاغ ألحانه خبراء المؤسسات المالية المانحة: وقف الاستنزاف، تشجيع المبادرة الحرة و"الرقمنة" المنشودة... تبقى الأسئلة مطروحة عما ستحمله الأيام، سواء فشلت المفاوضات الجارية مع صندوق النقد، أو نجحت، باعتبار ما قدمته هذه الحكومة من تعهّدات بـ"إصلاحات"، سينسف ما تبقى من الطبقة الوسطى، خصوصًا فئة الموظفين، وفق ما جاء في الوثيقة المسربة.
اقرأ/ي أيضًا: