مقال رأي
"يجب أن نجعل القمع أشد قمعًا بأن نضيف إليه وعي القمع"، كارل ماركس.
"يولد جميع النّاس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وقد وهبوا عقلًا وضميرًا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء"، المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
هذه المّادة وأخريات كانت فاتحة رواية عبد الرّحمان منيّف "شرق المتوسّط"، التي خطّ عبرها الرّوائي تفاصيل التّعذيب الممنهج الذي مارسته السّلطة تجاه المعتقل "رجب إسماعيل" عقابًا له وتنكيلًا لهواه السّياسي باستعمال مخالبها الحديديّة مقتلعة براعم الثورة من جسده المتمرّد حتّى تخرسه، أي أن تقتله حيًا. فالصّمت موت والكلمة حياة. ولا تنتهي المأساة بتوبة "المذنب" ورجوعه إلى القنّ. فتجعل من الحياة خارج سجنها سجنًا أكبر بالمراقبة والتّرويع. هذه الرّواية وغيرها، كـ"الكرنك" لنجيب محفوظ و"نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم.
مثلّت بورتريهات الأبنية الصفّراء1 فخر الصّناعة العربيّة والتي كانت سببًا ليبدع الكتّاب في مجال أدب السّجون، بل يمكن أن نقول إنهم تفرّدوا بما تميّزت به أنظمة المنطقة (جنوب/شرق المتوسّط) من بطش وتجبّر، والّتي تقوم باختصار على مفهوم "دولة البوليس/الجيش".
أليس عون الأمن موظّفًا في الدّولة تحميه التّرسانة التّشريعيّة الّتي تحميه ككلّ موظّفي الدّولة "أثناء تأدية مهامهم" أم أنّه استثناء؟
في مثل هذا اليوم منذ سنة مضت، جرى تنظيم الانتخابات التشريعيّة الثانية يتقويم ثورة 14 جانفي/كانون الثاني، ليتمخّض الصندوق عن فسيفساء كاريكاتوريّة سياسيّة نتيجة إعاقات عضويّة في القانون الانتخابي، والذي أجمع الجميع (نخبًا وشعبًا) على انتهاء صلوحيّته المرحليّة. وعليه، كان من المتوقّع أن تكون مراجعة هذا القانون وتعديله أولويّة الأولويّات. إلّا أنّ المسار السّياسي اتّخذ منحى آخر، تجمّعت فيه المشهديّة الفرجويةّ لتأسس شعبويّة هوجاء لا تراعي وطنًا ولا مصلحة عامة. ولم يزل هذا الخليط السّرطاني يتحف متابعي الشّأن السّياسي حتّى أعاد إلى طاولة التّشريعات مشروع القانون 2015/25 الذي سمّي بـ"قانون زجر الاعتداء على الأمنيين"، والذي يفترض أن تنتفي أسبابه بتثبّت أسس الديموقراطيّة في البلاد، إلّا أن رياح الشّعبويّة أبت إلّا أن تعيده كحال من يبصق نحو السّماء. فماهي مكوّنات هذا القانون؟ لكن قبل ذلك، من أعاد اقتراحه وما وراءه؟ وفيما تتمثّل خطورته على المسار الثّوري عمومًا والحرّيّات خصوصًا؟
ماذا ولمن؟
في 08 أفريل/نيسان 2015، صادقت الحكومة برئاسة الحبيب الصيد حينها وبمبادرة من وزارة الداخلية وبالتنسيق مع وزارتيْ العدل والدّاخليّة، على قانون "زجر الاعتداء على القوات المسلّحة (حينها)" وأحالته في 13 من نفس الشّهر على البرلمان. أثار هذا القانون منذ نسخته الأولى، ولم يزل حتّى الآونة الأخيرة، رفض واستهجان كل الأطراف من المجتمع المدني والنّخب السّياسيّة والحقوقيّة، بما في ذلك النّقابات الأمنيّة، أو طيف منها على الأقل.
اقرأ/ي أيضًا: قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين.. مخاوف جديّة من تكريس الإفلات من العقاب
أكّد مؤخّرًا الإعلامي عبد السّلام شقير، المحسوب على الحزب الدستوري الحر، في تدوينة بصفحته على فيسبوك أنّ رئيسة الحزب عبير موسي هي من أجبر مكتب مجلس النّواب على تعيين جلسة للتصويت على هذا القانون المثير للجدل، وهو ما نفاه البرلمان. وبغض النظر عن هذا الجدل، فموضوع القانون يتناسب مع غوغاء البرلمان. للتّاريخ، سبق وأن استعجلت الحكومة السّابقة برئاسة يوسف الشّاهد النّظر في هذا المشروع في الدورة البرلمانية المنقضية. من جهة أخرى، أكّدت الجهة المبادرة، ممثلة بوزارات العدل والداخليّة، في جلسة الإستماع بتاريخ 13 مارس 2020، أنّ مشروع القانون به أحكام مخالفة للدستور، كما أنّ فيه توجّها نحو الزّجر والعقاب لا الحماية المفترضة. وتعهّدت بتقديم التعديلات اللازمة لذلك بصفتها الجهة المبادرة. وهاهو يطرح في الجلسة العامة بعد جلسات اجتماع مع مختلف الأطراف (أجمعت على خطورته) طيلة الصائفة المنقضية. وانتهت بتعديلات رأت لجنة التّشريع العام أنّها "كافية".
تشريع للفتنة واستحداث لشروخات قطاعيّة
إلّا أنّه ومع هذا الزّخم والاستقطاب، يبقى السّؤال حول من المستفيد من قانون كهذا؟ البوليس؟ أليس فردًا من هذا الوطن تحميه الأحكام الجزائيّة والتي يسهر هو على تطبيقها؟ أليس موظّفًا في الدّولة تحميه التّرسانة التّشريعيّة الّتي تحميه ككلّ موظّفي الدّولة "أثناء تأدية مهامهم" أم أنّه استثناء؟ يجنح مريدو هذا القانون إلى التّبرير أنّ القوّات الحاملة للسّلاح هي العرضة الأولى للخطر. لكن أما كان الأجدى أن تسعى الجهات المعنيّة للسّهر على توفير وسائل الحماية من أجهزة، وتقنيّات، ومعدّات وتكوين، وأفراد تسهّل عمل هؤلاء الموظّفين وتحميهم أثناءه ليتعزّز أداءهم بدل السّعي وراء تعميق الهوّة بين القوّة العامة والشّعب.
يؤسّس قانون زجر الاعتداء على الأمنيين لظاهرة/ثقافة الإفلات من العقاب، بل ويشرّع لها، حيث يلغي المسؤوليّة الجنائيّة عن أفراد البوليس في استعمال "القوّة المميتة" في الدّفاع عن المؤسّسات العموميّة ضد خطر قد "قدّروه"
إنّ الغاية من القوانين هي تنظيم حياة أفراد الوطن الواحد في اتّجاه تمتين الرّوابط الحضاريّة التي تجمعه وتأكيد الانتماء، لا إحداث شرخ قطاعي بتفضيل قطاع على الآخر وإلّا: مَن للأطبّاء الذين ما انفكّت اللكمات والمناكفات تطالهم بسبب وبلا سبب؟ من للمربّين ورجال التّعليم؟ من للصحفيين والإعلاميين؟ من للمواطنين؟!
القانون هو كما يدلّ عنوانه "لزجر الاعتداء على الأمنيين؟" لكن ممّن؟ من مواطنين عزّل؟ من العدو المعتدي على سور الوطن وحماة الدّيار حتىّ ننتظر قوانين زجر الاعتداء عليهم؟ ألم يهبّ المواطنين في ملحمة بن قردان لمعاضدة إخوانهم المواطنين المسلّحين "قوّات الأمن والجيش" معنويًا وماديًا ضد خوارج العصر المعتدين الغزاة؟ هل ينتظر الأمنيّون مثل هذه القوانين لأداء مهامهم؟ ألا تكفي المساندة الشّعبيّة المطلقة في مثل هذه الحالات؟ أليس هذا القانون ضربًا لفكرة الحاضنة الشّعبيّة الّتي راهن عليها المعتدون وصوّبت بوصلتها الثوّرة التي صالحت بين الشعب وحماته، ذات 14 جانفي.
فصول فضفاضة وتأويلات على المقاس
لم يزل التّونسيّون يتداولون الفيديو الذي يظهر التّشاحن والاعتداءات اللفظيّة تجاه مواطن أعزل من قبل عون أمن، والذي ما انفكّ يروّعه بأبشع الألفاظ والشّتام علاوة على الصّراخ والإهانات المتواصلة أثناء إيقافه. ممّا أثار مخاوف عدّة من إحياء الدّولة البوليسيّة، وما دفع الكثير من المنظّمات للتعبير عن رفضها لمشروع القانون اللذي يهدد مكاسب الثورة. إنّ مشروع هذا القانون يتضمّن مفرادات فضفاضة كثيرة تفتح مجالًا واسعًا للتأويل على شاكلة "التهديدات الجديّة" ممّا يتعارض ومبدأ تضييق حيّز التّأويل في فقه القانون الجزائي.
اقرأ/ي أيضًا: النقابات الأمنية.. حماية لحقوق "الزملاء" أم توظيف وبلطجة؟
كما أنّه لا زال يتضمّن رغم التّعديلات وعمليّات التزويق "النحويّة" مخالفات جوهريّة للدستور كالفصل 21 والذي ينص على المساواة بين المواطنين. فعلاوة على الخصوصيّة المهنيّة للأمنيين، فإنّ هذا القانون يسحب الحماية على عائلات الأمنيين، وهو ما عدّه منظّمو حملة "حاسبهم" تمييزًا بين أفراد هذا الوطن.
إضافة إلى ذلك، عبرّت العديد من المنظّمات الحقوقيّة وجمعيّات المجتمع المدني، على غرار منظمة العفو الدوليّة ومنظّمة "أنا يقظ"، عن رفضها لمشروع القانون، حيث اعتبرت في بيانات لها، أنّ القانون يؤسّس لظاهرة/ثقافة الإفلات من العقاب، بل ويشرّع لها، حيث يلغي المسؤوليّة الجنائيّة، في فصله السّابع، عن أفراد البوليس في استعمال "القوّة المميتة" في الدّفاع عن المؤسّسات العموميّة ضد خطر قد "قدّروه".
إنّ اجترار مثل هذه القوانين إلى مربّع المراهنات السّياسيّة في ظل تسونامي الشعبويّة/الغوغائيّة التّي تضرب البلاد، هو تهديد صارخ للسلم الاجتماعي وزرع لبذور الفتنة بين أبناء الوطن الواحد في تضارب تام مع الدّستور. كما هو تعزيز للأداة الأمنيّة التي لا تزال حديثة عهد بالديموقراطيّة الفتيّة المهدّدة برياح النكوص والردّة للزّمن الغابر، ودفع لأحلام الاستبداد التي لا تزال تراود كثيرين ممّن يشدّهم الحنين لسنين الضغيان والتجبّر. فبدل المضيّ في تقوية البوليس على الشّعب، وجب تعزيز ثقافة المواطنة المسؤولة الفاعلة ومحاربة الجريمة والعنف لا بالمعالجة الأمنيّة والعقاب، بل بالانطلاق في معالجة شاملة لكافّة الأسباب المنتجة لذلك (الجريمة والعنف) عبر البحث والإصلاح الهيكلي والمجتمعي.
مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين هو تهديد صارخ للسلم الاجتماعي وزرع لبذور الفتنة بين أبناء الوطن الواحد في تضارب تام مع الدّستور
ختامًا، وجب التنويه إلى الترسانة التشريعيّة البالية والمقيّدة والتي تتعارض وروح العصر. إذ تتضمّن مجلّة صرف ما عفى عنه الزمان وتجاوزته الأحداث ولا تشاركنا في امتلاكه إلاّ دكتاتوريّة بيونغ يانغ. مجلّة جزائيّة عاجزة بروح انتقاميّة لا تتماشى مع التطوّر الديموغرافي والأنتروبولوجي للمجتمع. مجّلة ترابيّة (أملاك الدّولة الفلاحيّة) معرقلة لمنوال التنمية في الجهات ممّا أدى لبوار أراض قيّمة كان يمكن أن تكون سببًا لحياة كريمة لشباب ينشد الدفن في بطون الحوت في قوارب الموت أو التيّه في مدن الغرب بعد أن يأس من حلول الوطن المتكلّسة. مجلّة استثمارية مكيّفة على مقاس "الماركنتليّة" حتى يبقى الأخطبوط المافيوزي يمتصّ دون أن يشبع من دماء هذا الوطن.
كلّ هذه العاهات التّرتيبيّة والعراقيل القانونيّة والمتعارضة مع دستور 2014، ثمرة ثورة شعب أراد الحياة فبلاه القدر بدماميل بشريّة ما لبثت أن استحلت ما ذكرنا من دماء الجروح القانونيّة قتقوّت بها لتعدّل بوصلة الثورة نحو قوانين الفتنة وتشريعات النّكوث والرّجوع على الأعقاب، تحت أنظار "معصوم" من الخطأ ينتظر وحي السّاعة التي ستأتي حين يحين الحين بغار "قرطاج" رغم أنّ الدستور مكّنه من أدوات دستورية لإحراج غلمان باردو. فماذا ينتظر؟
1- ذكر صنع الله إبراهيم في تجمة أغسطس ومنيف في شرق المتوسط أن للسجون لونًا أصفر في الشّرق.
اقرأ/ي أيضًا:
السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية