02-أكتوبر-2020

ضرورة إطلاق استشارة موسّعة حول تنقيح المجلة الجزائية (Getty)

مقال رأي

 

لا ينتهي النقاش العمومي حول عقوبة الإعدام في تونس، وحقيقة هو نقاش جدلي دائم في مختلف البلدان، بين المطلبية الحقوقية لإلغاء العقوبة أو عدم تنفيذها من جهة والمطلبية المجتمعية، إن جاز التعميم، للإبقاء على العقوبة أو المضي في تنفيذها. والنقاش في تونس يأخذ زخمًا لافتًا بالخصوص إثر جرائم القتل الموحشة التي تنتشر تفاصيلها في وسائل الإعلام التقليدي ومنصات التواصل الاجتماعي، وتنتج حالة تعاطف شعبي خاصة بعد مشاهدة تصريحات أهل الضحية.

 لم يستطع تيّار إلغاء عقوبة الإعدام تحقيق مراده في "موقعة" دستور 2014، حينما اتفقت الكتل النيابية في المجلس التأسيسي على دسترة قدسية الحق في الحياة مع إمكانية المساس به "في حالات قصوى"

من المهم الإشارة، بداية، إلى أن تونس اختارت، منذ نحو 3 عقود، المنزلة بين المنزلتين من عقوبة الإعدام، بتعليق تنفيذها مع الإبقاء على النص القانوني واستمرار المحاكم بإصدار أحكام بالإعدام. وقد ساهمت موجة الانخراط في الاتفاقيات الدولية بعد الثورة في تعزيز خيار تعليق تنفيذ العقوبة، بالتزامن مع استمرار مطالبة المجتمع الحقوقي بإلغائها من النصوص القانونية، وهي مطالبة لقيت صدى نسبي في 3 شواهد على الأقل:

  • التنصيص عام 2011 على إحالة كل أحكام الإعدام في الجرائم العسكرية لرئيس الجمهورية لممارسة العفو بمناسبة تنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية.
  • تصويت تونس عن 2012 لصالح  قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن وقف استخدام عقوبة الإعدام.
  • إلغاء عقوبة الإعدام عام 2017 في جريمة الاغتصاب باستعمال العنف أو السلاح أو التهديد به وتعويضها بعقوبة السجن لبقية العمر في إطار قانون القضاء على العنف ضد المرأة.

ولكن لم يستطع تيّار إلغاء العقوبة تحقيق مراده في "موقعة" دستور 2014، حينما اتفقت الكتل النيابية في المجلس الوطني التأسيسي على دسترة قدسية الحق في الحياة مع إمكانية المساس به "في حالات قصوى يضبطها القانون" أي جواز الإعدام. وهذه العقوبة منصوص عليها، للتذكير، في المجلة الجزائية في جرائم عدة من بينها ما يهمّ الاعتداء على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي إضافة لجريمة القتل مع سابقية القصد، وقتل الأصول، والحريق المتعمّد المتسبّب في الموت، كما وردت في عدة جرائم في مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية.

اقرأ/ي أيضًا: عقوبة الإعدام .. بين العدالة الجنائية والحق في الحياة

النقاش حول موقع عقوبة الإعدام في النظام القانوني الجزائي التونسي انصبّ واقعًا طيلة السنوات الأخيرة بمناسبة تعديل المجلة الجزائية. لاحظت لجنة الحريات الفردية والمساواة، التي أسسها الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، في تقريرها عام 2018 أن الدستور لا يمنع إلغاء عقوبة الإعدام بل يكتفي بالترخيص بالمساس به في حالات وصفها بأنها "قصوى" والترخيص لا يعني الإلزام بل إتاحة الإمكانية ويمكن قانونًا ألا تؤُتى التراخيص. وتنتهي بذلك بعرض مقترحين ينصّ الأوّل على إلغاء عقوبة الإعدام الواردة في عديد فصول المجلة الجزائية، أما المقترح الثاني فيقضي أيضًا بإلغاء عقوبة الإعدام لكن فقط في الجرائم التي لم يترتّب عنها موت إنسان مع تقنين تعليق تنفيذ عقوبة الإعدام.

ولكن في المقابل وفي نهاية نفس العام، 2018، انتهت لجنة مراجعة المجلة الجزائية، تابعة لوزارة العدل، لصياغة مشروع أولّي أبقى على عقوبة الإعدام. هذا التباين في خيارات لجان رسمية يعكس مدى الاختلاف في مسألة الإعدام لدى النخبة الحقوقية، ومن وراءها النخبة السياسية، في البلاد.

المشكل حقيقة أن الحديث عن عقوبة الإعدام بين التونسيين، أي خارج أوساط المختصين، يرتبط حصرًا بموجات الغضب الشعبي إثر الجرائم الموحشة، ما يؤدي لغلبة عبارات الاحتقان والانفعال وأحيانًا الشتائم تجاه كل رافض لعقوبة الإعدام. ولكن حقيقة، يتعامل بعض المعارضين للإعدام، في المقابل، مع المطالبة الشعبية بإعادة تفعيل العقوبة بنوع من الاستعلاء، باعتبار أن هذه المطالبات هي انعكاس للشعبوية، وأن منطق الانتقام هو بالضرورة الذي يقودها.

من اللزوم اليوم إطلاق حوار في العمق والتفصيل، حول العقوبة الجزائية وشروط تحقيق أهدافها وتحديدًا التوقي والردع والإصلاح

من اللزوم اليوم إطلاق حوار في العمق والتفصيل، حول العقوبة الجزائية، وشروط تحقيق أهدافها وتحديدًا التوقي والردع والإصلاح، ومدى قدرة المنظومة الحالية للسجون على تحقيق أهداف العقوبة السجنية على وجه الخصوص. ومن الضروري، فيما يهم الإعدام، نقاش كل حجة، مقدّمة سواء من داعمي العقوبة أو رافضيها، وضرب الحجج بعضها ببعض، والمقارنة مع الأنظمة الجزائية المقارنة، بالاستناد إلى الأرقام والمعطيات من مختلف مشاربها، القانونية والمجتمعية. 

تكتسي عقوبة الإعدام في تونس خصوصية إذ تستلزم موافقة 4 من أصل 5 قضاة في الدائرة الجنائية للحكم بها، ويمرّ الحكم الصادر بالإعدام من حكام تحقيق ودائرة اتهام وجنائي في طورين ومحكمة تعقيب، على أكثر من 15 قاضيًا على الأقل، بما قد يجعل فرضية الخطأ ضئيلة جدًا أو منعدمة خاصة مع مبدأ أن الشك ينتفع به المتهم، ولكن هل الظروف الحالية للعمل القضائي ضمانة لجودة الحكم؟ لا تبدو الإجابة بديهية في كل الأحوال. ولا يمكن نكران أن تيار إلغاء عقوبة الإعدام ارتبط، في أحد دوافعه، بتسليط هذه العقوبة في إطار محاكمات غير عادلة في ظل الأنظمة الديكتاتورية. ولكن ليس من الهيّن، في كل الأحوال، حسم الموقف من عقوبة الإعدام دون نقاش في العمق، لأنها تمسّ أقدس حق منحه الله لعبده: الحق في الحياة.

ولذلك إن "الثورة التشريعية" في المنظومة القانونية للجرائم والعقوبات، بمناسبة تعديل المجلة الجزائية، لا يجب أن تظلّ حبيسة نظر المختصين في المجال القانوني، من قضاة ومحامين وجامعيين وحقوقيين وغيرهم، بل يجب أن تكون سليلة استشارة وطنية واسعة تشمل بالخصوص الباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية، من علم اجتماع وعلم نفس وبقية العلوم المعنية، وتشمل أيضًا المواطنين. هل توجد جرائم حان الوقت لعدم تجريمها وسلوكات بات من اللازم تجريمها؟ ماهي العقوبات الناجعة لضمان الردع والإصلاح؟ وماذا يمكن أن نستلهم من التطورات التي شهدها القانون الجزائي في العالم على مدى عقود من الزمن؟ إذ أن تحديد الجريمة بما هي انحراف عن المعايير الجمعية المضبوطة تراكميًا في كل مجتمع، وتحديد العقوبة المناسبة، هي مهمة خطيرة تستوجب أكبر قدر من الاستشارات والنقاشات، خاصة وأن تنقيح المجلة الجزائية المنتظر سيكون بمثابة التأسيس الثاني لها منذ إصدارها قبل أكثر من قرن، عام 1913. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

موجودة ولا تُنفّذ: ماذا تعرف عن عقوبة الإعدام في القانون التونسي؟

عقوبة الإعدام.. العبث المعاصر