مقال رأي
لن نجادل كثيرًا في علاقة السياسي بالاجتماعي. الصراع السياسي في كل الحالات تعبير عن صراع اجتماعي. ما نقصده بالسياسي هنا بسيط ومباشر: تركز مفردات وظاهر الصراع حول السلطة والدولة واقتسام السلطة والحريات والدستور، وغير ذلك من مفردات السياسي المجرد. والاجتماعي هو صراع سياسي، لكن تتصدر مفرداته وغاياته وخطابه وطبيعته الموضوع الاجتماعي. ليس ذلك في الأساس موضوعاً نقابيًا بل هو موضوع سياسي في الجوهر.
لو أردنا تلخيص المشهد الحالي، فيمكن إبداء الملاحظات التالية:
أولاً، المشهد السياسي
بلا شك في مستوى النخبة السياسية قيس سعيّد وحيد، هنا طبعًا هو اختار العزلة. وكان يمكن له بسهولة تشكيل جبهة سياسية منذ 25 جويلية/يوليو بشكل مريح لكن عقيدته المعادية للنخبة، المكون الجيني الأساسي لهويته الشعبوية، تفسر منهجيته القائمة أساسًا على وضع كل النخبة في سلة مقابلة له.
قيس سعيّد وحيد، من جانب النخبة السياسية، وهو اختار العزلة والمكون الجيني الأساسي لهويته الشعبوية يفسر منهجيته القائمة أساسًا على وضع كل النخبة في سلة مقابلة له
رد الفعل الأصلي أو اللاحق للنخبة بما جعلها تتفق بشكل استثنائي على معارضته (باستثناء بعض الحساسيات القومية واليسارية الراديكالية)، الجميع اتفق على المعارضة. والمثير للانتباه أن خريطة الطريق السياسية البديلة مثلاً للنهضة والدستوري الحر متطابقة، أي استحثاث انتخابات تشريعية مبكرة ومعارضة استفتاء على الدستور.
ويمكن النظر إليه من زاويتين. بالمعنى التكتيكي الكلاسيكي هو خطأ، إذ السياسة في قادم تعريفاتها منذ عصر الصيني "سن تزو" هي تقليل الأعداء وتوسيع جبهة الأصدقاء، لكن السبب الأصلي لوجود وبقاء الشعبوية هو تحديدًا رفض "التكتيك".
في المقابل، في السياق الراهن حيث فكرة "الحزب" تواجه كراهية متصاعدة لعدة أسباب معقدة من عموم الناس، التفاف أطراف كانت متناقضة وفي حرب كلامية والتقاء بعضها الأكثر كراهية تجاه بعضها الآخر في معارضة قيس سعيّد، يمكن أن يؤكد انطباع عدد لا بأس به من الناس أن "النخبة الحزبية" بوصلتها في السياسة فقط التموقع في السلطة.
إصرار رموز "محروقة" على تصدر المشهد ويرى فيها كثير من التونسيين أنها مسؤولة على سلبيات العشرية الماضية يعزز هذا الانطباع. افتكاك مساحات من الحرية كلما أراد قيس سعيّد غلق منافذ المسرح السياسي خاصة أمام النفاذ لأهم مسرح، شارع الحبيب بورقيبة، هو أمر متوقع وهو التعبير الأكثر وضوحًا على الحالة الصحية للمشهد السياسي وإن قيس سعيّد لم يلتهم المشهد، ولم يختزله في ذاته.
هل هذا يعني أن المنصة السياسية للصراع بلا جدوى سياسية وفقط رمزية؟ طبعًا لا. هي فقط الآن ثانوية، وستصبح ربما ذات معنى كلما أخطأ قيس سعيّد في محور آخر، وهو الحال الرئيسي الآن للصراع الاجتماعي.
التقاء أطراف كانت متناقضة وفي حرب كلامية، في معارضة قيس سعيّد، يمكن أن يؤكد انطباع عدد لا بأس به من الناس أن "النخبة الحزبية" بوصلتها في السياسة فقط التموقع في السلطة
ثانيًا، المشهد الاجتماعي
هو المشهد الأكثر أهمية من الزاوية السياسية في موازين القوى الراهنة. السياسة الفعلية تدور حول علاقة اللاعب الرئيسي، قيس سعيّد، مع الأطراف ذات العلاقة بالشأن الاجتماعي وهي ثلاثة أطراف أساسًا. أولًا الطرف الدولي الذي يمثله صندوق النقد الدولي رسمياً لكن عمليًا "الدول السبع". ثانيًا الطرف الاجتماعي المنظم وطنيًا أي اتحاد الشغل. ثالثًا، الحشود الاجتماعية غير المنظمة على مستوى وطني (تنسيقيات جهوية) أو غير منظمة أصلًا.
صندوق النقد أصبح أكثر حضورًا علنًا في الأسبوع الأخير مع تصريحات متواترة لممثله المقيم في تونس جيروم فاشير (Jérôme Vacher)، ديبلوماسي فرنسي سابقًا. وأهمها بمعنى أكثرها وضوحًا كانت لوكالة الأنباء الفرنسية، حيث يقول فاشير: "على تونس هذا البلد الساعي للحصول على مصادر تمويل دولية القيام "بإصلاحات عميقة جدًا" ولا سيما خفض حجم قطاع الوظيفة العمومية الذي يبلغ "أحد أعلى المستويات في العالم". وأن المباحثات لا تزال في مرحلة تمهيدية إذ أن صندوق النقد الدولي يريد أولاً "معرفة نوايا (السلطات) على صعيد الإصلاحات الاقتصادية لأن ثمة حاجة إلى إصلاحات بنيوية عميقة جدًا".
اقرأ/ي أيضًا: ممثل صندوق النقد: على تونس خفض حجم قطاع الوظيفة العمومية
حول طبيعة هذه الإصلاحات، يركز فاشير على كتلة الأجور والمؤسسات العمومية والدعم: "الثقل الكبير" لموظفي القطاع العام (16 % من إجمالي الناتج المحلي) إذ أن أجور الموظفين الرسميين البالغ عددهم 650 ألفًا تستحوذ على أكثر من نصف نفقات الدولة السنوية "من دون احتساب السلطات المحلية والشركات العامة". إن هذا "الوضع الخاص" في تونس "حيث كتلة الأجور في الوظيفة العمومية هي من الأكبر في العالم" حتى بالمقارنة مع الوضع في مصر والمغرب ولبنان والأردن، تمنع البلد من زيادة "النفقات المستقبلية واستثماراته ونفقات التربية والصحة والاستثمارات".
كما تعرض إلى "بدء "إصلاح عميق للشركات العمومية" العاملة في مجالات مختلفة من اتصالات وكهرباء ومياه شرب ونقل جوي والتي تتمتع في غالب الأحيان بالاحتكار وتوظف ما لا يقل عن 150 ألف شخص".
وتحدث عن أن "عدم مرونة الميزانية يتفاقم بسبب عبء الدعم العام مشددًا خصوصًا على "الطابع غير المتكافئ لدعم المحروقات" وداعيًا إلى أن يترافق إصلاح نظام الدعم (على المحروقات والسلع الأساسية) مع آليات تعويض تستهدف المعوزين".
المثير للانتباه هو أن فاشير ينصح السلطات التونسية "ببرنامج متين وموثوق (..) على المدى المتوسط وأن يعرض على الشعب حتى لو تطلب ذلك تفسير الصعوبات". يختم تصريحاته بوعي الصندوق أن الاتفاق معه هو شرط فتح حنفية الدعم الدولي: "صندوق النقد الدولي يدرك "تأثير" قراراته على الأطراف المانحة الأخرى الوطنية والخارجية العامة والخاصة علمًا أن الاتحاد الأوروبي ودولًا كبرى أخرى ربطت تقديم أي مساعدة بضوء أخضر يصدر عن الصندوق".
دون تمويل للميزانية وردم هوة العجز التي تبلغ 12 ألف مليار دينار نحن إزاء احتمال كرة ثلج احتجاجات اجتماعية يمكن أن تحدث في الصيف، حينما تمر سنة على 25 جويلية وحينما يحين موعد الاستفتاء أول اختبار رئيسي لتنفيذ خريطة الرئيس
نحن هنا إزاء المحور الرئيسي الذي سيحدد مصير خريطة الرئيس. دون تمويل للميزانية وردم هوة العجز التي تبلغ 12 ألف مليار دينار نحن إزاء احتمال كرة ثلج احتجاجات اجتماعية يمكن أن تحدث في الصيف، حينما تمر سنة على 25 جويلية/يوليو، وحينما يحين موعد الاستفتاء أول اختبار رئيسي لتنفيذ خريطة الرئيس.
مهم التذكير هنا بالموقف الأمريكي الذي لا يرحب فقط بخريطة الرئيس بل يحولها إلى أحد شروط دعمه، كما ورد في الرسالة الأخيرة من لجنتي العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ومجلس النواب من قيادات الحزبين.
اقرأ/ي أيضًا: مشرعون أمريكيون يبدون مخاوفهم من التطورات الأخيرة المهددة للديمقراطية بتونس
وإن لم يشر فاشير إلى شروط سياسية لعقد الاتفاق مع الصندوق وركز فقط على الشروط التقنية فإنه ليس من المستبعد أن برنامج الاتفاق عندما سيصل إلى المستوى السياسي للمصادقة أي مجلس إدارة الصندوق، حينها يمكن أن يتم اشتراط ضمانات لتنفيذ خريطة الطريق مثلاً عبر مراسيم تلزم الرئيس بالتواريخ المعلن عنها.
نأتي الآن إلى اللاعب الرئيسي الثاني في المشهد الاجتماعي، كما هو طبعًا ولهذا الموقع لاعب سياسي بالضرورة، أي اتحاد الشغل. قيس سعيّد غير المكترث عمومًا بـ"التكتيك"، يتذكره بالتحديد عندما يتعلق بالاتحاد.
مسيرات النخبة السياسية يوم 14 جانفي شاغبت الرئيس ومنعت احتكاره لتفسير التاريخ وفرضت بأشكال مختلفة عيدها للثورة، وفرضت أيضًا مشهد القوة المفرطة والقمع الأمني وهي صورة سلبية في الساحة الدولية.
مسيرات النخبة السياسية يوم 14 جانفي شاغبت الرئيس ومنعت احتكاره لتفسير التاريخ وفرضت بأشكال مختلفة عيدها للثورة، وفرضت أيضًا مشهد القوة المفرطة والقمع الأمني وهي صورة سلبية في الساحة الدولية
اقرأ/ي أيضًا: انتقادات واسعة لـ"العنف الأمني" الذي شهدته مظاهرات الذكرى 11 للثورة في تونس
ليس من المصادفة أنه بعد يوم من ذلك، يستضيف أمين عام الاتحاد بعد جفاء دام أشهرًا، حيث كان آخر لقاء مباشر يوم 26 جويلية/يوليو الماضي، سعيّد حاول التخفيف من صورة الجفاء باستحضار شعر الغزل الأندلسي والإشارة إلى مكالمات هاتفية بينهما لكن المعطيات واضحة.
الرئيس يحتاج رمزيًا إلى حلفاء بعد أن دفع بكل قوته معظم النخبة السياسية إلى الموقع المضاد، والاتحاد الذي لا ينوي إصلاح معاداة الرئيس (لأسباب موضوعية وذاتية) حليف طبيعي، بيد أنه من الخطأ اختزال اللقاء في المستوى السياسي.
الرئيس غير المختص في تقنيات المال والاقتصاد، أصبح يعرف في الحد الأدنى أن المفاوضات مع صندوق النقد ستكون ذات أهمية خاصة (من هنا استحضاره لمصطلح "الإكراهات" والتخلي عن قاموس "أمك صنافة")، ولهذا يعلم أن توصية الصندوق منذ تصريحات جهاد عازور في فيفري/شباط 2021 وما تلاها من تصريحات تؤكد أن برنامج الاتفاق يجب أن يحظى بدعم الأطراف الاجتماعية. وممثل صندوق النقد في تونس أضاف مؤخرًا في تصريحاته دعمًا شعبيًا دون توضيح كيف سيتم ذلك؟ من خلال تصريح الرئيس بوضوح أمام الناس بالصعوبات وضرورة اتفاق "موجع"؟
الرئيس غير المختص في تقنيات المال والاقتصاد، أصبح يعرف في الحد الأدنى أن المفاوضات مع صندوق النقد ستكون ذات أهمية خاصة
في كل الحالات، اللقاء الذي جمع سعيّد بالطبوبي، والذي دام ما يفوق 3 ساعات حسب مقربين من الاتحاد، تعرض بلا شك إلى هذا الملف، وبالتأكيد إلى اتفاقيات فيفري 2021 التي يصر الاتحاد على تفعيلها والتي ستعمق بالتأكيد العجز.
والاتحاد القادم على مؤتمر استثنائي ساخن ويواجه قضية في المحكمة لإبطاله وهو أيضًا يعاني صعوباته، ومنها أيضًا انخفاض الدعم الشعبي له، إذ هو من مكونات نخبة العشرية الماضية.
اللاعب الاجتماعي الثالث، هي الحشود الاجتماعية المنظمة محلياً أو العفوية. يجب أن نلاحظ هنا أن هناك تراجعًا واضحًا للتحركات الاجتماعية من هذا النوع مقارنة بنفس شتاء 2020-2021. تنسيقيات مثل الكامور حذرة جدًا في المبادرة بأي تحرك رغم أنها تواجه بشكل غير مسبوق قضايا في المحكمة العسكرية.
وفي الأحياء الشعبية، لا يوجد أي صدى لتحركات جانفي/يناير الماضي رغم أن المقدرة الشرائية تتراجع ومؤشر التضخم في اتجاه متزايد والتفسير الوحيد أن "اللاوعي الاجتماعي" يتعامل مع ما بعد 25 جويلية كمرحلة جديدة، وبصدد إعطاء فرصة لقيس سعيّد خاصة أنهم لا يرتاحون لبدائل غامضة.
نحن إزاء "هدنة اجتماعية" عمليًا، لكن إلى متى ستتواصل؟ وهل أن "الإصلاحات العميقة جدًا" التي يدفع نحوها صندوق النقد ستؤدي إلى تحريك المياه الراكدة الاجتماعية؟ وإن فعلت فسيكون قبل اقتراب أجل خريطة سعيّد أو بعدها؟ هنا الأسئلة السياسية الحقيقية وذات التأثير الحاسم.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا:
قيس سعيّد وصخرة صندوق النقد الدولي
خريطة طريق سعيّد: هل يمكن أن تسقط؟