مقال رأي
المنظومة الصحية "منهارة" و"المركب يغرق"، قالتها مسؤولة صحية بارزة في تونس، الخميس، هي تحديدًا الناطقة الرسمية باسم وزارة الصحة والمديرة العامة للمرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدة نصاف بن علية.
في الحقيقة، لم يكن في الأمر أي مفاجأة أو أي جديد لمن يتابع عن كثب تفاصيل وتطورات الوضع الصحي في البلد، الذي يعرف انتشارًا واسعًا لفيروس كورونا ولعدد من السلالات من الفيروس وترديًا للوضع الوبائي بشكل عام، مع نقص في المعدات والطواقم الطبية وشبه الطبية، وهو ما دعا عديد الدول إلى اتخاذ إجراءات خاصة في علاقة بالمسافرين من تونس نحو أراضيها.
ربما كان التعبير المعتمد لوصف وضع المنظومة الصحية فقط حادًا وقاسيًا على عديد التونسيين، لكن الثابت أيضًا أن أكثر المتشائمين في البلاد لم يتوقعوا، سنة أو بضعة أشهر إلى الوراء، السيناريو الذي تعيشه تونس هذه الأيام في مواجهة انتشار فيروس كورونا وسلالاته. والمحزن أكثر أن مسؤولو البلد لم يستشرفوا هذا السيناريو ولم يتجهزوا لذلك. السؤال الآن هل لا يزال الإنقاذ ممكنًا؟
لا يزال الإنقاذ ممكنًا، ليس من باب التفاؤل المبالغ فيه بل ببساطة لأن لا خيار آخر أمامنا
لن أتأخر في تقديم رأيي. نعم لا يزال الإنقاذ ممكنًا ليس من باب التفاؤل المبالغ فيه بل ببساطة لأن لا خيار آخر أمامنا. يمر الحل في اعتقادي عبر عناصر ضرورية وأساسية. أولها أن نتجنب اليأس والتطبيع مع عدد حالات الوفيات والإصابات. هم ليسوا أرقامًا.
تتهدم كل عناصر المقاومة والخروج من المأزق هناك، عند نقطة التطبيع مع الموت ومع صور الجثث والرضا بالقضاء والقدر دون أي فعل. قرابة 10 آلاف إصابة (كان الرقم سيكون أكبر لو تم ترفيع عدد التحاليل المجراة غالبًا) وأكثر من 100 وفاة يوميًا ليس أمرًا عاديًا ولا مقبولًا ولا طبيعيًا مهما كان حجم الجائحة، وفي أي دولة، فما بالك بدولة لا يتجاوز عدد سكانها الـ11 مليون.
اقرأ/ي أيضًا: حوار/ رئيس قسم استعجالي بسوسة: وصلنا للسيناريو الإيطالي ونخشى السيناريو الهندي
ثانيًا، أعتقد أن الاعتراف بحجم الكارثة الصحية ومغادرة دائرة الإنكار ضروري. نعم الوضع الوبائي في تونس سيء جدًا والمنظومة الصحية تنهار، حتى وإن كانت وفق مقاييس دول أخرى ليست كذلك بعد، لكن الاعتراف مهم للفت الانتباه الداخلي والخارجي قبل المنعرج الأخير. فبدل أن تسارع وزارة الصحة، في بيان الجمعة، بنفي ما جاء على لسان المتحدثة باسمها عن انهيار المنظومة الصحية، والذي سارعت بتناقله كبرى الوكالات العالمية، كان من الممكن أن تستفيد من هذا التصريح والتعاطف الذي جلبه لطلب مساعدات دولية عاجلة تشمل المواد الطبية وكذلك الطواقم الطبية، بدل المناكفات التي لا تنفع شعبنا في الوضع الحالي.
الاعتراف بحجم الكارثة الصحية ومغادرة دائرة الإنكار ضروري. نعم الوضع الوبائي في تونس سيء جدًا والمنظومة الصحية تنهار والاعتراف مهم للفت الانتباه الداخلي والخارجي قبل المنعرج الأخير
كل الأرقام الحالية تؤكد أن الأيام والأسابيع القادمة قد تكون أسوأ وهذا ليس تشاؤمًا، بل هذا ما تقوله الأرقام. كمثال تقدم السلطات الصحية التونسية كل فترة نسبة التحاليل الموجبة من مجموع التحاليل التي تم إجراؤها وهذه النسبة تتراوح مؤخرًا في حدود 35 في المائة وهي نسبة عالية جدًا.
من الأرقام البارزة أيضًا والمثيرة للقلق نسبة الإصابات بفيروس كورونا في كل ولاية تونسية على كل 100 ألف ساكن وهي نسب مرتفعة وتشهد ارتفاعًا في معظم الولايات رغم كل الإجراءات التي وقع الإعلان عنها على مستوى عدد من الولايات أو المعتمديات في الفترة الأخيرة ولمدة تجاوزت حتى الأسبوعين.
يمكن أيضًا ذكر أرقام مفزعة صدرت عن وزارة الصحة مؤخرًا في علاقة بنسبة الضغط على أسرة الإنعاش وأسرة الأكسجين في المؤسسات الاستشفائية العمومية بمختلف الولايات والتي بينت طاقة تشغيل قصوى على جميع المستويات والولايات تقريبًا.
نسبة الضغط على أسرة الإنعاش وأسرة الأكسجين في المؤسسات الاستشفائية العمومية بمختلف ولايات الجمهورية إلى حدود يوم 4 جويلية 2021
الوضع الوبائي في تونس حسب نسب الإصابات لكل 100 ألف ساكن من 21 جوان إلى 4 جويلية
الوضع الوبائي في تونس حسب نسب الإصابات لكل 100 ألف ساكن من 17 جوان إلى 30 جوان
معظم ولايات البلاد في حجر صحي شامل والتنقل بين الولايات ممنوع حاليًا وإلى شهر أوت القادم، فعن أي سياحة يتحدثون؟
ثالثًا، التوقف عن ترويج الرواية المغلوطة عن الموسم السياحي هذا العام. انتهى الموسم السياحي هذا العام تونسيًا. هذا مؤسف وهذا حقيقي أيضًا إلا لمن يريد العيش في الوهم. معظم ولايات البلاد في حجر صحي شامل والتنقل بين الولايات ممنوع حاليًا وإلى شهر أوت/ أغسطس القادم، فعن أي سياحة يتحدثون؟
اقرأ/ي أيضًا: "كوفيد 19".. الامتحان الصعب في المستشفى الجهوي بسليانة
رابعًا، تخلي مؤسسات الدولة عن المحسوبية والتمييز وتوظيف الحسابات السياسية والتنافر فيما بينها خلال معالجتها لهذه الأزمة الصحية الخطيرة، ربما تعود ثقة المواطن في خياراتها ولو جزئيًا. إذ أن دولة تسمح باجتماعات شعبية لأحزاب كحركة النهضة والحزب الدستوري الحر وتسمح بحضور جماهير للملاعب وتسمح بعقد مؤتمر للمنظمة الشغيلة يضم مئات الأشخاص في نزل مغلق، لا يمكن أن تقنع مواطنًا في ذات الوقت بأن يلتزم بالجلوس في بيته وأن يتقيد بالبروتوكولات الصحية ولبس الكمامة والتباعد الاجتماعي وغير ذلك.
واستعادة ثقة الناس في خيارات مؤسسات الدولة من الأكيد أنه لا يكون عبر فرض حجر على التنقل بين بعض الولايات والمعتمديات بالنسبة لعموم المواطنين ثم خرقه من رأسي السلطة التنفيذية (زيارة تعزية أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل في وفاة والده وإقامة الأخير موكب عزاء بينما هذه المواكب ممنوعة على عموم التونسيين).
دولة تسمح باجتماعات شعبية لأحزاب وبحضور جماهير للملاعب وبعقد مؤتمر للمنظمة الشغيلة، لا يمكن أن تقنع مواطنًا في ذات الوقت بأن يلتزم بالجلوس في بيته وأن يتقيد بالبروتوكولات الصحية
خامسًا، وبعيدًا عن المسائل النفسية من الضروري أن تمر مؤسسات الدولة إلى سرعتها القصوى في توفير الأجهزة والمعدات الضرورية والطاقم الطبي وشبه الطبي لمجابهة انتشار الوباء عبر توظيف كل الجهود الممكنة وعلى مختلف الأصعدة، حتى إن تطلب الأمر المرور لتسخير المصحات الخاصة أو لتحويل مستحقات مالية خاصة بمشاريع غير عاجلة لصالح اقتناء المعدات الطبية والتلاقيح.
من المهم أيضًا أن تتجاوز مؤسسات الدولة عائقين، العائق الأول المتعلق بالبيروقراطية الإدارية وتعقيدات طلبات العروض والآجال فالوضع على قدر من الخطورة التي لم تعد تسمح بالبيروقراطية التونسية الشهيرة ولابد من المرور للشراءات المباشرة ولتقبل الهبات الصحية من خارج البلاد بشكل أيسر، خاصة بعد ما تم كشفه من صعوبات تعرض لها تونسيون بالخارج أرادوا تحويل أجهزة أكسجين أو غيرها إلى تونس، أما العائق الثاني فهي غياب استراتيجية واضحة تقوم على مراحل وأولويات وتستشرف الغد وتتجنب تكرار السيناريو الحالي.
من الضروري أيضًا في اعتقادي تركيز المستشفيات الميدانية في كل الولايات، إذ لا يبدو أن تجهيزات هذه المستشفيات الميدانية مكلفة وتركيزها وفق تجارب سابقة في بعض ولايات تونس لم يتطلب وقتاً طويلًا وقد تلقينا مؤخرًا الكثير من ضرورياتها كهبات ومساعدات من دول أخرى، والجيش قام بتركيز العديد منها وصارت له تجربة وخبرة في الأمر.
من الممكن أن تجنبنا هذه المستشفيات الميدانية الصور التي ملأت صفحات السوشيال ميديا مؤخرًا عن مرضى مستلقين في الشمس وعلى الأرض وفي ظروف سيئة جدًا.
الوضع على قدر من الخطورة التي لم تعد تسمح بالبيروقراطية التونسية الشهيرة ولابد من المرور للشراءات المباشرة ولتقبل الهبات الصحية من خارج البلاد بشكل أيسر
اقرأ/ي أيضًا: الهبات الصحية.. في مرمى البيروقراطية الإدارية التونسية!
سادسًا، وهو الأهم ليس في نظري بل وفق ما تنقله البحوث العلمية وما يتناقله الأطباء حول العالم ويتعلق الأمر بتوفير اللقاحات في أقرب الأوقات، فتونس لا تزال مقارنة بمعظم دول العالم في مراتب متأخرة على مستوى التلقيح بالنظر للضغط والطلب المتزايد على شركات إنتاج التلاقيح ولتأخر الحكومة في إجراءات الشراءات مقارنة بمعظم دول العالم.
سابعًا، أعتقد أننا لم نوظف إلى حد الآن جيدًا الطاقات والجهد المتوفر على مستوى المجتمع المدني التونسي والذي يمكن أن يكون رافدًا مهمًا لمؤسسات الدولة على مستوى تنظيم عمليات التلقيح أو التوعية بالإجراءات الوقائية أو حتى غير ذلك من المهام.
كنت انطلقت بالتركيز على المسائل النفسية وكان ذلك قصديًا إذ لا أزال مقتنعة أن جزءً من خسارة المعركة مع هذا الفيروس اللعين كان على المستوى النفسي، عندما تخلت الدولة عن وضع صحة المواطن أولوية قبل كل شيء، وعندما استهان التونسي وسيطر اليأس على الكثيرين.
يحتاج التونسي أن يستعيد الثقة في مؤسسات الدولة وتوجهاتها وخياراتها ليكون تطبيقه للإجراءات عن قناعة أن ذلك في خدمة مصلحته الفردية والمصلحة العامة
يحتاج التونسي أن يستعيد الثقة في مؤسسات الدولة وفي صحة مخططها وتوجهاتها وخياراتها ليكون تطبيقه للإجراءات عن قناعة أن ذلك في خدمة مصلحته الفردية والمصلحة العامة.
سيرى البعض أن الوقت قد تأخر، وهذا صحيح. خسرنا أكثر من 15 ألف تونسي، لكل شخص منهم أحلامه وآماله وأحبته. لكن حتى لو تأخرنا أكثر، في لحظة ما لابد أن ننهض كطائر الفينيق، الذي تقول الأسطورة إنه يحترق ويولد من جديد.
تأخرنا ولكن لا حل في اليأس والوقوف عند أخطاء الماضي وإن كانت المحاسبة ضرورية لكل من استهان بأرواح التونسيين عبر القرارات أو التصريحات أو توفير اللوازم الضرورية من أجهزة ومعدات وتلقيح وغير ذلك. نعم لا يزال الإنقاذ ممكنًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا:
حوار| د.قلوز: التلقيح لا يمنع العدوى وقريبًا لقاح "جنسون اند جنسون" في تونس
حملة التلقيح ضد كورونا في تونس.. قراءة في آخر الأرقام والتطورات