31-ديسمبر-2022
احتجاجات

بعد نتائج الانتخابات التشريعية قام شبه إجماع اليوم على مناهضة الانقلاب وأولويّة إنقاذ الدولة (صورة أرشيفية من مظاهرة للمعارضة في أكتوبر 2021/ فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

التحاق من ناصروا انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021 بالصفّ المناهض للانقلاب ظاهرة فعليّة في المشهد السياسي والمنظماتي في تونس. وقد تسارع نسقها وتأكّد بعد الأمر عدد 117 المؤرّخ في 22 سبتمبر/أيلول 2021 . ويكاد قيس سعيّد يقف اليوم وحيدًا يحمل وزر انقلابه على الثورة التونسية والديمقراطية إلاّ من مساندة من قِبَل بعض مجاميع حزبيّة ضئيلة ستبقى على موقفها المناهض للديمقراطية حتّى لو أعلن سعيّد تراجعه عن فعلته التي فعل. 

وأمّا أطياف الملتحقين بمناهضة الانقلاب، بعد سنة ونصف من حدوثه، فهُم في كثرتهم تعدّد مراتبهم وموقعهم من الانقلاب ودورهم فيه أشبه بطبقات المحدّثين. وإنّ هذه المواقف المتباينة، ولكن المتقاطعة في مساندة الانقلاب في مرحلة من مراحله، تضيء جوانب مهمة من حال النخبة بمستوياتها المختلفة. 

  • التحريض على الديمقراطية  

كان انقلاب 25 جويلية/يوليو تتويجًا لمسار كامل نقدّر انطلاقته مع انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. وهي أوّل انتخابات عرفتها تونس في تاريخها. ورغم القانون الانتخابي الذي أريد به التحكّم في نجاح الإسلاميين وتقليصه إلى مستوياته الدنيا. وقد كان الباجي قايد السبسي رئيس الحكومة آنذاك قبل هذه الانتخابات صرّح عقب عودته من زيارة أدّاها إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأنّ الإسلاميين ممثلين في حركة النهضة لن تتجاوز نسبة التصويت لهم 19%. ولكنّ حصولهم على 43% من الأصوات كان أشبه بالصدمة حتى أنّ إحدى الناشطات الحقوقيات طالبت فرنسا آنذاك بالتدخّل العسكري لحماية الحداثة ومكاسب الدولة المدنيّة المهدّدة. 

بلغ التحريض على الديمقراطية أوجه مع انتخابات 2019 ونشأت إثرها فكرة التحالف الموضوعي بين الشعبوية و"الفاشية" والوظيفية على استهداف التجربة الديمقراطية عبر شلّ المؤسسة التنفيذيّة وترذيل دستور 2014 وتعطيل أعمال البرلمان

وتأكّد أنّ من جمعهم الاستبداد فرّقتهم الحريّة ومسار تأسيسها. ونميل إلى اعتبار أنّ هذه الانتخابات مثّلت منعرجًا في المشهد السياسي والثقافي في علاقته بالديمقراطية. فالديمقراطية التي كانت مطلب الطبقة السياسية والحقوقية أصبحت عند البعض "تهديدًا وجوديًّا". وهذا ما حوّل الاختلاف حول شروط الديمقراطية اختلافًا مبدئيًّا حول الديمقراطية. وبعد عشر سنوات على حدث الثورة والانتخابات أمكن استخلاص أنّ تاريخ الانتقال الديمقراطي كان في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال. 

في هذا السياق نفهم التحريض على الديمقراطية واستهداف شروطها في سائر المحطات الانتخابية انطلاقًا من الانتخابات التأسيسية في 2011 وانتهاءً بانتخابات 2019 مرورًا بانتخابات 2014 التي حملت المنظومة القديمة إلى السلطة لتمسك بالرئاسات الثلاثة في النظام الديمقراطي الناشئ. 

 

 

ولقد بلغ التحريض على الديمقراطية أوجه مع انتخابات 2019. وقد اعتُبرت في التقديرات الأوليّة على أنّها في مجملها انتصار للقوى المحسوبة على الثورة، وتبيّن مع انتخابات رئاسة مجلس النواب ومكتبه، ومع تشكيل حكومة الحبيب الجملي التي لم تحظ بالمصادقة إلى تعارض بين الأغلبيّة البرلمانيّة والأغلبيّة الحكوميّة عندما حظيت حكومة إلياس الفخفاخ بثقة البرلمان. وكانت داخل هذه الحكومة "حكومة مصغّرة" بقيادة محمد عبو الأمين العام للتيار الديمقراطي الذي اتّخذ من محاربة حركة النهضة حليفه في الحكومة أولويّة. وهو ما جعل من إسقاط حكومة الفخفاخ عندها أولويّة. 

في هذا السياق نشأت فكرة التحالف الموضوعي بين الشعبوية والفاشية والوظيفية على استهداف التجربة الديمقراطية، فعملت الشعبوية على شلّ المؤسسة التنفيذيّة وترذيل دستور 2014، واستماتت الكتلة الفاشيّة في تعطيل أعمال البرلمان بالعربدة والبلطجة ولم تدّخر الكتلة الوظيفيّة (التيار الديمقراطي وحركة الشعب) في لعب دور كتلة الرئيس البرلمانيّة والتحرّك من داخل فكرة "حكومة الرئيس". ولم يكن محمد عبو أمين عام التيار الديمقراطي المستقيل بعيدًا عن هذا الأداء وهو يلحّ على قيس سعيّد بتحريك المؤسسة العسكريّة لاستهداف الحزب الأوّل تحت عنوان محاربة الفساد. 

  • من دعم الانقلاب إلى التخلّي عنه

 حركة الشعب مع فكرة الانقلاب، فهي جزء من ثقافتها الحزبيّة والسياسيّة. ومن هذا المنطلق كانت تشارك في الحياة الديمقراطية في تونس وتدعم انقلاب السيسي على الديمقراطيّة في مصر وتنحاز إلى حفتر ومشروعه في محاربة الحلّ السياسي ومحاولته، في حربه على العاصمة طرابلس، السيطرة على ليبيا بقوّة السلاح واستعادة نظام الاستبداد وعنفه ودمويّته. 

مركزة السلطة، والاتجاه إلى إرساء الحكم الفردي، والفشل في تسيير الدولة والحفاظ على مؤسساتها، كانت أهمّ الأسباب التي جعلت من ساندوا قيس سعيّد في انقلابه على الديمقراطية ينفضّون اليوم من حوله

وأمّا التيار الديمقراطي فكانت مواقفه في غاية التباين إقليميًّا مع حركة الشعب وإن التقى معها محليًّا على المواجهة مع حركة النهضة رغم أنّهما اشتركا معها في حكومة إلياس الفخفاخ التي لم تدم أكثر من ستّة أشهر. وبدأ التباين يتّسع بين الحزبين مع زمن الانقلاب. ذلك أنّه داخل التيار كان هناك موقفان عشيّة الانقلاب، موقف تأييد صامت يجد جذوره في دعوة أمين عامه المستقيل، في ديسمبر/كانون الأول 2020، رئيس الجمهورية إلى حلّ البرلمان، ووضع عدد من الشخصيات السياسية تحت الإقامة الجبرية، ونشر الجيش.  ويوم الانقلاب أعرب الحزب، في بيان له، عن تفهمه الإجراءات ودعوة قيس سعيّد إلى تقديم خارطة طريق تضمن العودة إلى الوضع الدستوري الأصلي. ولم يترك الأمر 117 الذي جمّع كلّ السلطات بين يدي قيس سعيّد من مبرّر للتردّد في مناهضة الانقلاب. فكانت تنسيقيّة الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، وقد ضمّت التكتل والتيار والجمهوري الذي كان موقفه من الانقلاب جذريًا منذ يومه الأوّل. وبعدها كان الخماسي بانضمام حزب العمال والقُطب إلى تنسيقية الثلاثي.

 

 

وأمّا مجاميع الوطد فلئن عرفت اختلافًا في موقفها من قيس سعيّد في أطوار الانتخابات الرئاسيّة ولا سيّما في الدور الثاني منها وفي الموقف من انقلابه على الدستور والديمقراطية، فإنّ الأساس الذي كانت تبني عليه المواقف عندها هو حركة النهضة وموقعها في المشهد قبل الانقلاب وبعده. وهي من الجهات السياسيّة التي انتهت إلى التهديد الوجودي الذي تمثّله الديمقراطيّة وآليّتها في الاختيار الشعبي الحر. 

 كان "المجتمع المدني" ملجأ القوى السياسيّة الممنوعة من العمل القانوني في زمن الاستبداد. وصار، بعد الثورة وفي ظلّ مناخات الحريّة ومسار بناء الديمقراطيّة،  ملجأ لأحزاب ومجاميع سياسيّة لم تسعفها الانتخابات لضعف تمثيليتها الشعبيّة. وكان يلاحظ أنّ هذه المجاميع التي أخفقت في الانتخابات العامّة التشريعيّة والبلديّة مازالت تحصل على المراتب الأغلبيّة في الانتخابات داخل المنظّمات النقابيّة والحقوقيّة.

ويعود الأمر إلى أنّها كانت بمنأى عن استهداف نظام الاستبداد وفي كثير من الأحيان كانت رافدًا من روافده، فعلى مدى عشريّتين تمكّنت من السيطرة على منظّمات المجتمع المدني وجمعيّاته الحقوقيّة بخلاف القوى الممتدّة جماهيريًّا والتي كانت مطاردة من قبل نظام بن علي. وهذا ما يفسّر نجاحها في الانتخابات العامّة وفشلها في الانتخابات القطاعيّة، من ناحية. ومن ناحية أخرى يفسّر دور المجتمع المدني في إجهاض الانتقال الديمقراطي. 

  • الانقلاب وواجهته 

من أهمّ مظاهر أزمة انقلاب 25  جويلية/يوليو أنّه لم يستطع المرور إلى مرحلة "ما بعد الانقلاب". وهذا معطى على قدر كبير من الأهميّة، فرغم التقدّم العملي للانقلاب في تنفيذ أجندته بداية من الاستشارة الإلكترونية ثم الاستفتاء وأخيرًا الانتخابات التشريعية فإنّه لم يتمكّن من أن يجعل من هذه المحطّات الثلاثة تأكيدًا للمشروعيّة المدّعاة والتي أريد بها التغطية على جريمة خرق الشرعيّة متمثّلة في دستور 2014 وما انبثق عنه من مؤسسات دستوريّة وتعديليّة في النظام الديمقراطي الناشئ.

من أهمّ مظاهر أزمة انقلاب 25  جويلية أنّه لم يستطع المرور لمرحلة "ما بعد الانقلاب" فرغم تقدمه في تنفيذ أجندته إلا أنه لم يتمكن من جعل محطاته، آخرها الانتخابات، تأكيدًا للمشروعية المدّعاة

والبرهنة عن أنّ الجمهورية الجديدة هي في حقيقتها تجسيد للمشروعيّة الشعبيّة التي عبّر عنها انتخاب قيس سعيّد بأغلبيّة ساحقة في 2019. لكنّ النتائج الهزيلة للاستشارة والاستفتاء والعزوف عن الانتخابات البرلمانية في 17 ديسمبر مثّلت دليلًا حاسمًا على وهم المشروعيّة، وشهادة موجعة على الفشل الذريع المشروع الشعبوي وسقوطه المبكّر بعد أن برهن على مدى سنة ونصف عن عجزه في تسيير الدولة وقصوره عن مجابهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة.

ولئن أشارت عديد المؤشرات إلى خلل في الميزانيّة غير مسبوق وارتفاع كبير في نسبة البطالة وتدهور مريع للمقدرة الشرائية فإنّ المؤشرات الأخطر تمثّلت في تعطّل محركات النموّ الاقتصادي الرئيسية وفي ضرب منظومات الإنتاج وأهمّها منظومة الإنتاج الفلاحي. وكان لهذا انعكاس مباشر على الأمن الغذائي بغياب المواد الأساسية من الأسواق التونسية. وهو ما لم تعرفه تونس في أشدّ الأزمات المالية والاقتصادية مع دولة الاستقلال. 

 

 

مركزة السلطة، والاتجاه إلى إرساء الحكم الفردي، والفشل في تسيير الدولة والحفاظ على مؤسساتها، هذه كانت أهمّ الأسباب التي جعلت من ساندوا قيس سعيّد في انقلابه على الديمقراطية ينفضّون اليوم من حوله. ومثّلت نسب المشاركة الهزيلة في الانتخابات البرلمانيّة قاصمة الظهر. وقام شبه إجماع اليوم على مناهضة الانقلاب وأولويّة إنقاذ الدولة والاقتصاد. ويمكن التمييز بين موقفين رئيسيين للمعارضة: موقف يعبّر عنه أنصار الديمقراطيّة واستئناف مسارها.

ويرى أصحاب هذا التوجّه أنّ إزاحة قيس سعيّد مقدّمة لإزاحة الانقلاب. وموقف يمثّله الملتحقون بمناهضة الانقلاب ولا سيّما بعد صدور الأمر 117، ولا يجمع أصحابه على رحيل قيس سعيّد، ويكتفون بأن يواصل مهمّته إلى نهاية عهدته في سنة 2024 ولكن بالصلاحيات التي يُتيحها دستور 2014 وأن ترعى منظمات المجتمع المدني الأربعة حوارًا وطنيًّا شبيهًا بحوار 2013 الذي رعته وبموجبه كان لها جائزة نوبل للسلام. وأن تنبثق عن الحوار حكومة كفاءات تتصدّى للأزمة الماليّة الاقتصاديّة وتوصل البلاد إلى انتخابات رئاسيّة وتشريعيّة سنة 2024 تكون استئنافًا للمسار الديمقراطي. 

لم يعد لسعيّد من سند مباشر سوى أجهزة الدولة الصلبة التي رجّحت الكفة بانحيازها لأوّل مرّة لإحدى جهات الصراع السياسي، وهي اليوم بين مواصلتها دعم الانقلاب مع ما يتهدّد الدولة من انهيار واستعادتها موقع الحياد

أنصار الديمقراطية من الشارع الديمقراطي وجبهة الخلاص يصرّون على مرجعيّة دستور 2014 . لأنّ الإجماع على أنّ الذي حدث هو انقلاب يفرض ضرورة مرجعيّة دستور الثورة. وأنّ نقطة الانطلاق ضمن الشرعيّة الدستوريّة تبدأ من استعادة برلمان 2019 الذي ما يزال شرعيًا. 

لم يعد لسعيّد من سند مباشر سوى أجهزة الدولة الصلبة. وهي التي رجّحت الكفة بانحيازها لأوّل مرّة لإحدى جهات الصراع السياسي. وهي اليوم بين مواصلتها دعم الانقلاب مع ما يتهدّد الدولة من انهيار واستعادتها موقع الحياد الذي كانت عليه من الصراع السياسي وتحصّنها بهويتها "الدولتيّة" مع ما يعنيه ذلك من انتصار تاريخي للديمقراطيّة وشارعها. 

ويمثّل تشتت المعارضة وعدم الإجماع على خارطة طريق محدّدة تنقذ الدولة والاقتصاد وتعيد شرعيّة السلطة بمرجعيّة دستور 2014 عقبة أساسيّة في سبيل تجاوز الأزمة. وعند هذا المستوى تتداخل العوامل الإقليميّة والدوليّة لتجعل من خروج تونس من أزمتها المركّبة واستئنافها مسارها بناء الديمقراطية بداية لمرحلة جديدة في المجال العربي والعالم.    

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"