30-ديسمبر-2022
قيس سعيّد

ألفاظ كـ"مرتزقة، خونة وعملاء" وغيرها صارت كحروف الجر في خطابات سعيّد اليومية (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

يروى أن ناقدين كانا بقارب في بحيرة طبريا، وفجأة ظهر السيد المسيح عليه السلام يمشي على الماء، فقال أحدهما للآخر: "أنظر، إنه حتى لا يستطيع السباحة". بهذه القصة يضرب إيتيان لوستو مثلًا للصحفي المبتدئ لوسيان شاردون، في الفيلم الفرنسي أوهام ضائعة (illusions perdues 2021)، عن إمكانية نقد حتّى المعجزات والأساطير. تدور أحداث الفيلم في أجواء بالزاكية (Balzakienne) خالصة، عن الأدب والفنون بين الصالونات الباريسية وتحت غيوم "الحشيش" المنتشر آنذاك في الأوساط الثقافية الفرنسية، أيام نابليون الثالث المعادي للصحافة وحرية التعبير، والذي يذكر أنه تولى الرئاسة الدستورية سنة 1848، ثم انقلب إمبراطورًا ملكيًا سنة 1851 على أنقاض الجمهورية الفرنسية الثانية. وللقارئ أن يقارب بين ما عاشته فرنسا آنذاك وما تعيشه تونس هذه الأيام. 

من بين الجزر الكلامية المتناثرة في خطابات قيس سعيّد نذكر معادلة النقد والتطاول وصولًا إلى التخوين والاتهامات بالعمالة ما يثير هاجسًا من الرقابة الذاتية عند كل من ينوي الخوض في الشأن العام

مرّة أخرى ومحاطًا بالنجوم من قوى صلبة وبيروقراطية في حالة استنفار، خرج قيس سعيّد ليلة 28 ديسمبر/كانون الأول 2022 في فيديو بث على صفحة الرئاسة على فيسبوك، متشنّجًا مرتبكًا في مشهد ذكّر الكثيرين بليلة اغتيال الديمقراطية التونسية، ممّا أثار في نفوس من شاهدوا التسجيل أنهم على وشك سماع "إجراءات" شديدة الوطأة. لكن كأغلب صولاته الدونكيشوتية، تكلّم الرئيس كثيرًا لكنه لم يقل شيئًا.

إلا أن ذلك لم يمنع، رغم تتالي الخيبات المماثلة، من أن يتحوّل خطابه إلى مادة إعلامية دسمة في زمن الاحتضار السياسي الذي تعيشه تونس منذ فترة. فيما ذهبت الكثير من الأقلام الصحفية والمصادح السياسية إلى الخوض في السببية وراء الفيديو ودواعيه، فلنكتفِ في نصّنا هذا، واعتبارًا لانتحار المنطق منذ أمد، بأن السبب وراء خطاب سعيّد، وكما يقول المثل الرواقي (cynical) الأميركي: الرئيس قام بخطابه، لأنه بكل بساطة.. يستطيع!.

 

 

لكن من بين الجزر الكلامية المتناثرة في بحر الخطابات السعيدة، نذكر معادلة النقد والتطاول التي يشير لها سعيّد دائمًا أين يعمد في كل مرة لربط المصطلحين ببعضهما، ثم يأثثهما بما تقدّم وما تأخر من ضرورة حرية التفكير قبل حرية التعبير، وصولًا إلى التخوين والاتهامات بالعمالة بالجملة والمعممة، ما يثير هاجسًا من الرقابة الذاتية عند كل من ينوي الخوض في الشأن العام، أي أن كل كلمة ناقدة ذات جرعة دسمة قد تقود صاحبها إلى مكتب باحث البداية بتهمة التطاول على رموز الدولة، وما يعضدها من نصوص حول نسبة أمر موحش وهضم جانب موظف عمومي وغيرها من تهم بنكهة البناية الرمادية. للإشارة، لا يوجد أي نص قانوني يرد به مصطلح "تطاول"، الذي هو مصطلح سياسي بالأساس كما سنتعرّض لذلك فيما يلي. 

مهما كان الحاكم مثاليًا لا بدّ أن يكون له معارضون ينتقدونه ويتصيّدون زلاته، وتاريخيًا تخضع السلطة والمعارضة لقانون الطبيعة: التغيير، وبالتالي تستوجب المعارضة النقد والتقريظ والترصّد وطرح البديل والدعوة إلى التغيير

عرضًا نتساءل عمّا كان سيتهم به الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي الذي تعرّض في كتاباته بإثخان إلى المركبات النفسية الجماعية في مجتمعه، والأفكار الكنسية السائدة فيه وعجرفة النبلاء، والذي كتب في رائعته الإخوة كارامازوف: "يجب أن تشكّ وتجحد، فمن دون الشك والجحود لا نقد. لكن من دون النقد كيف ننقّح ونهذب؟ إذا توارى النقد لم يبق إلا "أوصانا" (1) وهذا لا يكفي. يجب أن نضع التقريظ والنقد في كفتي الميزان. ومع ذلك فلست أنا الذي اخترع النقد، ولست أنا تيس الخطيئة. يجب أن أنتقد لأن النقد أصل الحياة".

ثقافيًا، يعتبر الشك، وما يترتب عنه من نقد، العقيدة الأولى لكل فكر حر، بدءًا بأرسطو وكتابه السياسة الذي انتقد فيه أفلاطون وجمهوريته، وصولًا إلى طرابيشي وانتقاده للعقل العربي للجابري، مرورًا بنيتشه ومطرقته، ديكارت والكوجيتو، وإخوان الصفا وانتقادهم لفكرة تغليب النقل على العقل. ولولا تجرّؤ هؤلاء وأمثالهم من فرسان القلم على النقد وامتطائهم ظهر الشك، لظلت الأرض مسطحة حتى يوم الناس هذا. 

أما سياسيًا، وعلى المنهاج الزرادشتي القائم على ثنائية الخير والشر، وككل فكرة إنسانية، لا توجد حكومة أو شخص تولّى أمر الناس ولم يكن له معارضون ومساندون. ومهما كان الحاكم مثاليًا، فلا بدّ أن يكون له معارضون ينتقدونه ويتصيّدون زلاته، وللذاتي في هذا نصيب. فالسلطة والسيطرة، هي غاية طبيعية يمكن أن نراها في أكثر من مستوى في هرم ماسلو: كأن تتمثل في الحاجة إلى الأمن، أو الانتماء والتملك، أو التحقيق والرضاء الذاتي. 

مرتزقة، خونة وعملاء، تطاول على رموز الدولة، هذه الألفاظ وغيرها صارت كحروف الجر في خطابات سعيّد اليومية، في عملية يراد منها ترسيخ "حقيقة" أن كل من ينتقد السلطة هو إما مرتزق أو عرضة للمحاكمة

تاريخيًا، تخضع السلطة والمعارضة إلى قانون الطبيعة: التغيير. وبالتالي، تستوجب المعارضة النقد والتقريظ والترصّد وطرح البديل والدعوة إلى التغيير. بديهيًا، تذهب المعارضة في نقدها إلى أقصاه حتى تستفز السلطة وتربك عملها. وهذا من ديناميكيات الجدل في الفضاء العام، حجة وحجة مضادة، كمتلازمة الفعل ورد الفعل. فضلًا عن أن النقد والانتقاد المتواصل هو عمل المعارضة بالأساس. ألم يكن لإطلالات قيس سعيّد الإعلامية الانتقادية طيلة فترة ما قبل 2019، دور هام في فوزه بالانتخابات؟ ألم يواصل حملته الانتخابية كمعارض من قصر قرطاج حتى استيلائه على السلطة ذات صائفة 2021؟ ألم يزل ينتقد حتى إجراءات حكومته التي من المفترض أنها تنفذ سياساته حسب دستوره الذي صاغه بنفسه وصادقه في 2022؟ 

 

 

مرتزقة، خونة وعملاء، تطاول على رموز الدولة والتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، هذه الألفاظ وغيرها صارت كحروف الجر في خطابات سعيّد اليومية، في عملية تلاع الحشود يراد منها ترسيخ "حقيقة" أن كل من ينتقد السلطة الحالية هو إما مأجور ومرتزق، وبالتالي فهو متهم يجب استتابته، أي أن يتوب عن نقده ومعارضته، أو عرضه للمحاكمة في انتظار "ما سيكشف عنه البحث".

تتسابق القوى السياسية لاستعمال ايديولوجيتها لطمس الآخر وبهذا تتحول الخصومة السياسية إلى عداوة يستحيل معها العيش المشترك ويتحول الفضاء العام لمعركة بقاء وكسر عظام تنتفي فيها فرص التغيير بالأدوات السلمية وتستعر حمى الانتقام

في هذا المستوى، يتقاطع التخوين باسم الوطنية التكفير باسم الدين، فكلا العمليتين ترتكزان إلى عملية تجييش إعلامي، تسبق عملية التصفية الرمزية أو المادية. يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه "التفكير في زمن التكفير": "الحقيقة أن ثمة حرباً بالمعنى الحقيقي لا المجازي، حرباً يخوضها الإسلاميون بأسلحة التكفير والوصف بالردة والعلمانية، التي جعلوها مساوية لمفهوم الإلحاد، لأي اجتهاد يتناقض مع أطروحاتهم.

ويلي الاتهام بالتكفير ومشتقاته إطلاق الرصاص من جانب الجناح العسكري للاتجاه -أو الاتجاهات- الإسلامي. ويصعب هنا الحديث عن اعتدال وتطرّف، فالحروب جميعاً لا ينفصل فيها الإعلام -بما يبثه من أيديولوجيا الحشد والتجييش- عن العمليات العسكرية في ميادين القتال". تتسابق القوى السياسية لاستعمال ايديولوجيتها لطمس الآخر/العدو، وبهذا تتحول الخصومة السياسية إلى عداوة تستحيل معها قواعد العيش المشترك ويتحول الفضاء العام إلى معركة بقاء وكسر عظام تنتحر فيها السياسة وينتفي التحاجج وفرص التغيير بالأدوات السلمية، وتستعر فيها حمى الانتقام والمعاملة بالمثل، وما يستتبع ذلك من تسميم للحياة العامة قد يقود البلاد إلى ما لا يحمد عقباه.


(1):  لفظ ديني في الديانتين اليهودية والمسيحية، Hosanna. يشير دوستويفسكي بهذا إلى أنه من دون نقد لا يبقى إلا السمع والطاعة للنصوص الدينية وبالتالي الجمود المعرفي. 


 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"